هل يمكن تأجيل حقوق العمال؟

ينظر الكثير من السياسيين والمفكرين الليبراليين إلى قضايا العمل على أنها مجموعة من القضايا الخاصة بالعمال كفئة من ضمن فئات المجتمع المختلفة، وبالتالي يمكن التعامل معها على أنها قضية فرعية يمكن تأجيل النقاش فيها حتى يتم حل القضايا الأكثر إلحاحا وتعقيدا مثل قضايا الحريات الدستورية وآليات تداول السلطة وغيرها من القضايا الأكثر عمومية. فضلا عن تعامل البعض معها على أنها قضية اقتصادية بحتة يمكن المحاججة بأن اصلاح النظام السياسي يكفي لحلها من أعلى، حيث يؤدي الإصلاح السياسي لإصلاح اقتصادي  يؤدي بالضرورة لرفع مستوى معيشة الجميع بما فيهم العمال وبالتالي يتم حل المشكلة دون الحاجة للخوض في تفاصيلها وتشعباتها ومعاركها المتعددة.

وقد كنت واحد ممن يعتنقون تلك الرؤية السطحية للأمور حتى بدأت العمل في دار الخدمات النقابية والعمالية وبدأت في الاحتكاك بقضايا العمال على أرض الواقع وبدأت أدرك، من ناحية، أن قضية الحريات النقابية ركن أساسي في المنظومة الديمقراطية التي نسعى لها حيث أن تكوين النقابات بحرية وقيامها بدورها في الدفاع عن حقوق أعضائها ومصالحهم بشكل مستمر أحد أهم ركائز النظام الديمقراطي السليم. ومن ناحية أخرى – وهو ما أركز عليه في هذا المقال - بدأت أدرك خطورة التعامل مع حقوق العمال على أنها قضية سياسية وليست قضية حقوقية، حيث أن التعامل معها على أنها قضية سياسية وليست قضية حقوقية يجعلها قضية خلافية تتبناها تيارات سياسية وتتجاهلها تيارات أخرى ويجعلها عرضة للمساومات السياسية والتغيرات الموسمية، بينما الحقيقة أن حقوق العمل جزء لا يمكن فصله عن حقوق الانسان التي لا يمكن التجاوز عنها أو التهاون فيها تحت أي ظرف.

لماذا؟

لأن الإنسان الذي يعمل ويبدع وينتج هو الأساس الذي تقوم عليه الأسرة والمجتمع والاقتصاد والدولة، فإن كان هذا الشخص يعمل دون اشباع احتياجاته واحتياجات أسرته الأساسية - كحد أدنى - ودون الشعور بالأمل في التقدم والترقي الاجتماعي فالأساس يصبح مختلا من مختلف النواحي:

فمن ناحية العمل نفسه فإن العامل الذي لا يحصل على حقوقه المادية لا يمكن أن يكون أداؤه في العمل على الوجه المطلوب، وقد يظن بعض أصحاب الأعمال أن العملية الانتاجية قد لا تحتاج من العامل – خاصة في الأعمال الروتينية - إلا أن يكون مجرد أداة تنفذ المطلوب منها دون تفكير أو ابداع أو رضا، في علاقة أشبه بإذعان العبيد لجلاديهم أو الأسرى لأعدائهم، وقد يظن بعض أصحاب الأعمال أن تلك العلاقة (علاقة الاذعان) مرضية ومريحة لهم حيث الأعمال المطلوبة بسيطة ولا يضر ان أداها العامل برضائه أو مجبرا فبالتالي يمكن تحقيق المكسب المادي على حساب اجبار العامل على العمل في أى ظروف خوفا من الجوع والتشريد ولكن تلك النظرة القاصرة تغفل أن العامل يتمنى الهروب من ذلك العمل ولا يمكنه الاتقان أو التفاني أوالابداع فيه ومن المستحيل ألا يؤثر ذلك على الانتاجية وكفائتها ولو بحساب الفرصة البديلة، حيث لو حصل على حقوقه سيكون أكثر حرصا على اتمام العمل على أكمل وجه والابداع فيه.

ومن الناحية الاقتصادية فإن الانتقاص من حقوق العاملين يعني تقليل قدرتهم على الشراء وتداول النقود وبالتالي يعني بالضرورة اضعاف الاقتصاد الكلي، حيث أن خلق الثروة مسألة يشترك فيها العامل وصاحب العمل والمجتمع والدولة، فإن تم حجب الاستفادة من تلك الثروة عن أحد أطراف العملية فبالضرورة سيحدث خلل لا يجب على أى عاقل تصور أنه يمكن أن يمر مرور الكرام دون أن تظهر آثاره حتما يوما ما وعلى الجميع.

ومن الناحية الوطنية فإن المجتمع الذي لا يوفر الحقوق لأفراده يضعف انتماؤه لهم، فما بالك بأفراد يبذلون الجهد والطاقة في مقابل تلك الحقوق ولا يحصلون عليها، عندها يصبح الهروب من ذلك الوطن لأى مكان آخر يوفر الاحتياجات الأساسية للعاملين فيه أمرا شائعا وفي نفس الوقت لا يقدر عليه إلا أصحاب المهارات الأكثر تعقيدا مما يفرغ المجتمع من الكوادر الضرورية لانتاج الثروة والتنمية.

ومن الناحية الاجتماعية والانسانية، فإذا لم يكن الدخل الناتج من عمل أفراد الأسرة كافي لتلبية احتياجاتهم فإن ذلك يؤدي للفقر الذي يظهر في تأخر مستويات الصحة والتغذية والتعليم والرفاهية ويؤدي لبيئة خصبة للانتهاكات والعنف ونحن نتحدث عن الأسر التي يبذل أعضاؤها القادرون على العمل جهدهم في انتاج الثروة القومية من خلال أعمالهم، ما يعني تراجع قدرات المجتمع في المستقبل وتدهوره ويخلق أوضاعا مأزومة طاردة للموهبة والكفاءة ولم نتناول البطالة وتأثيرتها الكارثية.

وبناء عليه لا يجب النظر لحصول العامل - أي وكل عامل - على دخل محترم ومعاش مناسب على أنه رفاهية يمكن تأجيلها أو الاستغناء عنها مؤقتا، بل يجب النظر إليه على أنه مسألة أمن قومي يتعلق بمستقبل المجتمع كله.

وأختتم المقال بمثال بسيط، فعندما يكون الحد الأدنى للأجور مجرد أمر تويجيهي غير ملزم لأصحاب الأعمال، وعندما تكون هناك العديد والعديد من الحالات الصارخة للتعدي على حقوق العمال المادية دون أن تواجهها قيود قانونية صارمة تعيد للعمال حقوقهم وتحفظ كرامتهم فنحن نكون ازاء اعتداء واضح على حق المجتمع ككل وليس فقط حق أولئك المظلومين. اعتداء يتطلب من الجميع التضامن ضده كخطوة في سبيل مجتمع أكثر عدلا وأكثر انسانية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة