“الرجل يمثّل، أمّا المرأة فتظهر” مارتن سكورسيزي
في حديثنا عن المرأة في الصناعة السينمائية، لا يمكن بحال من الأحوال التغاضي عن صورة المرأة المبهرة المجسدة لصورة الأنثى في أجمل حالاتها، وإذ يحتفي المشاهد الرجل بهذه الصورة فلأنها تنبع عن رغبة فحولية لخلق المتعة البصرية المتحققة من خلال الجنس المؤنث، أما المرأة وإذ تحتفي بهذه الصورة، فلأنها قد تدخلها في حالة تقمص وجداني تحتلها وهي تتابع مرارًا وتكرارًا، بما يدفعها إلى تقليد صورة مرسومة رسمةً ثقافيةً يتم ترسيخها بقصدية مدروسة، إلى درجة السعي أحيانًا باتجاه تعديل إطلالتها وفقًا لنموذج ممثلة أو فنانة مشهورة كما يذكر خبراء التجميل.
من الجدير بالذكر هنا أن الممثلة السينمائية نفسها وبهذه الصيغة المطروحة تكون قصيرة العمر فنيًا، بما يعيدنا إلى نقطة البداية حيث الهدف الإمتاعي التسويقي الانتهازي، وعليه فما أسرع أن تغيب النجمات بعد أن يأفل بريقهن، لتكون المرأة آنئذ مجرد أداة تمثيل ظرفية يجري الاستغناء عنها بعد نفاد الصلاحية.
علمًا أن الانكشاف المفضوح المتكرر لجسد المرأة لم يكن إلا واحدًا من عوامل متعددة أفقدت المرأة مكاسبًا لها على صعيد التحرر الفكري ونمو الذات.
فكثيرًا ما تحصر المرأة في إطار نماذج أنثوية متكررة لا على صعيد الشكل الخارجي وحسب، وإنما نرقبها وقد ظلت غارقة في عوالم ضيقة تطرحها امرأة متمسكة بقيم المجتمع الأبوي، رغم معاناتها الشديدة منه. فهي تتعامل مع الزواج كالقدر، تؤمن بالزوج سيدًا مطاعًا لا سبيل إلى رده، أو حتى معارضة إرادته. ومطلوب منها الانسياق وراء كل ما يبدر عنه من رغبات أو نزوات، متناسية رغباتها الخاصة.
كذلك تم العمل على إظهار صورة المرأة منشغلة بهموم سطحية صغيرة، بعيدًا عن كل ما هو سياسي أو وطني خارج حدود الأسرة. بل وتمارس ظلمًا اجتماعيًا كان قد سلط عليها من قبل، لتعيد إنتاجه على امرأة أخرى. وهي حالات تقف وراءها مؤسسة ذكورية ترفض إظهار المرأة أنموذجًا بشريًا ديناميكيًا مستجيبًا للمؤثرات من حوله. علمًا أن منظمات المجتمع المدني كثيرًا ما تطالعنا بتحذيرات متعددة حول الصورة النمطية للمرأة التي تقدمها السينما العربية، بما تحمله من ترويج لامرأة تفتقر إلى بعض من إنسانيتها، ولا كفاءة لها سوى أنوثة توظّفها لأغراض غير نزيهة، وما أكثر ما شهدنا هذا عبر نموذج السكرتيرة، أو حتى الممرضة، بما تكرسانه من نماذج تستعدي فيها المرأة نظيرتها المرأة؛ وكم من نماذج ظهرت فيها المرأة كائنًا دونيًا.
أما عن المرأة النقيض المتمردة المتحررة التي تتحدّى المجتمع وتعاني من ظلم التقاليد وتسلط الأب والأخ، فهي تسقط فى النهاية كعقاب لها على تمردها على الدور المرسوم لها أو يأتي الإنقاذ على يد رجل يخلصها من هروبها.
فالواقع أن الاهتمام السينمائي ظل منصبًا حول النماذج النمطية المتكررة، واختفى نموذج المرأة المثقفة أو المناضلة، كذلك نلاحظ إصرار القائمين على صناعة الأفلام العربية على تقديم المرأة في فترات الشباب وإهمالها في مراحل عمرية متأخرة.
وبشكل عام، لم تحضر المرأة بقضاياها المتعددة لتكون جزءًا من مشاريع تنموية تساهم في رفع قيمة المجتمع المصري، أو حتى تساهم في تفكيك منظومة ثقافية لم تر في تحرير المرأة وإنجازها مشروع نهضوي سوى تهديد للسلطة الأبوية، والأوضاع الاجتماعية والحفاظ على الممارسات التقليدية التي تعزز تهميش المرأة، لذلك فإن المرأة يتمّ استغلالها لتكون أداة خادمة موجهة لغايات ومصالح سلطوية.
جدير بالذكر أن السينما المصرية بعد ثورة يوليو 1952، وتماشيًا مع الشعارات التي أطلقت للقضاء على النظام الملكي، وكذلك المنادية بالتخلص من الاستعمار البريطاني، تجدها قد عمدت إلى إظهار المرأة رمزًا للوطن، بما ينسجم واستخدام السينما ليجعل منها بوابة لتمرير الفكر القومي، فظهرت العائلة رمزًا لأطياف الشعب، بينما كرست الأم رمزًا للوطن، وجعلت من الأب رمزًا للثورة، مع تأكيد روح التناغم الرومانسي بحيث يلبي توجهات النظام الحاكم.
نذكر من هذه الأفلام “أنا حرة” تمثيل شكري سرحان ولبنى عبدالعزيز (1959)، عن رواية إحسان عبدالقدوس التي تمجد الثورة، وتطرح قضية تحرر المرأة التي تصلها في النهاية إلى المعنى الأكبر للحرية في الوطن. علمًا أن معظم هذه الأفلام كان مستوحى من روايات لكتّاب معروفين مثل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس.
نذكر في هذا المضمار فيلم”ميرامار” المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ، والذي قامت بالدور الرئيسي فيه شادية، وكانت ترمز لمصر الثورة.
يحسب لهذا الفيلم أنه على الرغم من إبرازه العنصر الترميزي الذي حمّله للبطلة، إلا أن هذه الرمزية لم تلغ أو تسمح بإلغاء كينونة المرأة، وهو ما يأتي هنا متصالحًا مع العديد من التيارات النسوية التي ارتأت أنه يسعف في تمثيل الوطن، إلا أنه يعجز عن تقديم أيّ خدمات فعلية للمرأة.
لذلك نجد جورج طرابيشي في كتابه “رمزية المرأة في الرواية العربية” يشرح ما يمكن أن يتركه ترميز المرأة من إحساس بأن المرموز إليه قد تعرض إلى عملية اختزال مجحفة، بينما يحتكر صانع الرمز كل الذاتية لحسابه، والمرأة -وفقًا للكتاب- حتى عندما يرمز بها إلى الوطن، تخسر استقلالها، وتصير أشبه بمادة صلصالية يصنعها الآخرون ولا تصنع نفسها، ولا تملك طاقة الحرية.
وباعتبار السينما مرآة للمجتمع وظلًّا للشعوب، فإنّ تناول السينما لقضايا المرأة كان انعكاسًا واضحًا لنظرة المجتمع إليها، التي اقتصرت على كونها مجرد أداة وبضاعة لترويج المنتج السينمائي، فتظهر المرأة في مشاهد الإغراء، أو مشاهد استعراضية، في إشارة لدور المرأة في السينما الذي يُعدّ ثانويًا، كما هو دورها في المجتمع، وهو ما رسّخته السينما العربية (المصرية بخاصة) والعالمية، على حد سواء عبر عقود في طرح صور المرأة وتجسيدها، وحصرها في نماذج متشابهة هدفها دائماً مداعبة غرائز الجمهور وإثارته، مثل: المرأة اللعوب، والمستهترة وغياب قضايا المرأة الكادحة، والتركيز على المرأة العصرية، دون التعرض للأبعاد الإنسانية الحقيقية لواقعها المرير، وتسطيح دور المرأة في الحياة.