إلى صديق لم يعرفني، وأعرفه

عزيزي محمد أبو الغيط

سلام عليك وعلى روحك المرهفة أينما كانت

أما بعد

اعتدت قراءة الصحف منذ سن صغيرة، لأن أبي كان يقرأها. كانت عيناي تتعلقان بالصور والعناوين الرنانة بالطبع في بادئ الأمر، إلا أن ذلك أدى في النهاية إلى حب القراءة.. قراءة الكلمات ومحاولة الفهم.

كان لظهور الصحف المستقلة والمصري اليوم تحديدًا أثرًا بالغًا في قريتنا الصغيرة، ظل أبي وجيله يقرأون الصحف القومية الشهيرة، وأدخل أخي الشاب علينا في منزلنا "المصري اليوم"، فكانت بداية الثورة.. ثورة عقلية؛ بأن هناك رأى مختلف، وأحداث مختلفة، وبلد أخرى غير تلك التي أقرأ عنها في جرائد أبي.

أحكي لك هذا؛ لأننا أول ما تقابلنا.. تقابلنا على صفحات جريدة المصري اليوم التي بدأت الكتابة فيها في سبتمبر 2012، لكن اللقاء بيننا كان قبل ذلك بقليل في مقالة كتبها عمرو عزت ردًا على تدوينتك "الفقراء أولًا".. كان ذلك في يونيه 2011، بحثت بعدها عن مدونتك وقرأت ما فيها، فكانت هذه هي بداية صداقتنا التي لم تُعرف بها.

بالطبع، يتأثر كل إنسان بالُكتاب الذين يقرأ لهم، وتُكّون كلماتهم وجدانه، لكن الظروف التي أحاطت بظهور جيلك من الكتاب، جعلت تأثر جيلي بكم يأخذ منحنى آخر، وخطوة أخرى في علاقاتنا ككُتاب وقراء، وأقرب مثال إليك في هذا هو علاقة جيلك بأحمد خالد توفيق مثلًا! تسمي مدونتك "جدارية"، فأول ما بدر في ذهني كانت جدارية محمود درويش، فتوطدت بيننا العلاقة أكثر كمحبين لدرويش الذي لطالما اقتبست أقواله في مقالاتك، وفي مقدمة كتابك.

منذ "الفقراء أولا" وحتى "أنا قادم أيها الضوء"، لم يفوتني لك مقالًا أو تحقيقًا أو منشورًا كتبته مبديًا رأيك في حدث ما، فتحدثت أول ما تحدثت عن الفقراء المهمشين الذين تمت التضحية بصورهم المنعدمة مقابل صور أفضل لأبناء الطبقة المتوسطة حتى تعطي انطباعًا "أشيك" عن الثورة، وتحدثت آخر ما تحدثت عن الفئة القليلة؛ الـ10% التي لا تنجو من الانقسامات اللانهائية لخلايا أجسادهم فتبدأ بمهاجمة نفسها فيما سماه العلم بمرض السرطان، في الحالتين كنت أنا هنا أتابع من موقعي وأتفاعل مع كلماتك، وكم وددت بالطبع أن نناقشها سويًا.

العلاقة كما ترى يا عزيزي بين جيلينا ممتدة وقوية، فيمكنك أن تقول إننا نشأنا في الظروف نفسها واختبرنا الأحداث نفسها، ووقعها وتأثيرها على مناطق عيشنا. صحيح أن كل جيل منا كان ينظر من زاوية مختلفة، لكنها كانت زوايا تكمل الصورة ولا تفرقها، فجيلي - جيل التسعينات - الذي افتدى روحه في محمد محمود ومجلس الوزراء كان يقرأ لجيلك - جيل الثمانينات - الذي أخذ على عاتقه إطلاق الشرارة لبدء الحدث نفسه.

أتعرف يا عزيزي، إن أكثر ما يميزك هو أكثر ما كنت لا تريد نسبه لنفسك، فأنت لم تستطع أن تكون في القاهرة ليلة جمعة الغضب، خرجتها في أسيوط، في بلدك، واعتقلت مع من اعتقلوا ذلك اليوم فور خروجكم إلى الشارع. كم رويت هذه القصة مرارًا في كتاباتك حتى لا تنسب أي مجد مزيف لنفسك، وكم ميزك هذا يا صديقي. بعد قليل أظننا سنعرف أنه ليس بالضرورة أن يكون الثائر في الميدان وحسب، بل إنه يستطيع أن يكون ثائرًا في أي ميدان كما فسرت ذلك في "ما أصعب أن تكون ثائرًا في الصعيد".

تقول في كتابك - هذا الكتاب الذي كتبته عن الحب؛ حب الحياة، وحب النفس وتقبلها، وحب إسراء ويحيي - إنه "مهما طاولت اللغة البلاغة، فستظل قاصرة عن وصف مشاعر الإنسان إلا لمن كابدها".. تلقيت نبأ مرضك حين أردت أن تعلنه إلى العامة عبر منشور على "فيسبوك"، أتذكر أنني قرأت فقرة أو اثنتين ثم بدأت أفطن إلى ما تريد قوله فبهت، كنت قد مررت بتجربة فقد لتوي زلزلت عالمي ولم أكن في حالة تمكنني من استيعاب أي فقد آخر، فما بالك بأحد كُتابي المفضلين! أظن أنني في ذلك اليوم بكيتك بحرقة وانتهى الأمر.

كانت تدويناتك بعد ذلك على "فيسبوك" دربًا من تقرير الأمر الواقع الذي نراه يقترب من بعيد، فقررت أن أبكيك من أوله، دون انتظار النتيجة المحتومة، كتبت لك "ينجيك الله منها ومن كل كرب يا محمد" لكنني في قرارة نفسي لم أكن أصدق ذلك.

صحيح أننا كنا قد خسرنا الكثير من الأرواح منذ بداية الأحداث في 2011 وحتى الآن، لكن هناك دائمًا من هم أنبه وأصفى من غيرهم، وأنا أزعم أن كل من غادرونا كانوا صفوة هذا الجيل وأنبلهم وأصفاهم، وكنت أنت درتهم يا محمد.

بعيدًا في المنفى - الذي لم يكن اختياريًا - رحلت عن دنيانا، لكنني أشهد لك أن الضوء قد نفد إلينا، ليس فقط عبر كتابك الأخير، ولكن عبر كل مقال وتقرير وتحقيق كنت كتبته منذ تركت الطب وحتى فاضت روحك.

يقول محمود درويش في جداريته:

"ويا موت انتظر يا موت،

حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع

وصحتي، لتكون صيادًا شريفًا

يصيد الظبي قرب النبع.."

لكن الموت الذي غيبك عنا لم يكن شريفًا، لم يمهلك مساحة أفضل مع وردتك البيضاء، ولا وقتًا أكثر كي تنهي مناقشتك مع يحيى حول المساحة الرمادية في فيزياء الكم، ولم يمهلنا وقتًا كي نتعلم ونعي بكتاباتك ما يفضي إلى "وطن أكثر رقة وأكثر رحمة"، لكنك اخترت في النهاية أن يأخذك الموت إليه على طريقتك حتى تعلمنا الإشراق، وتظل عالقًا بغصون أرواحنا، وتطير ذكراك بين أزهارنا إلى الأبد.

عن كل قراءك

وئام

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة