“روحنا نحجز كتب الكتاب في مسجد المشير طنطاوي، اتقال لي في حالة وفاة والد العروسة لازم تجيب ذكر من أقاربها ويكون من الدرجة الأولى كالأخ أو العم عشان يكون وكيلها عند كتب الكتاب. ولما قلت لهم إن ما ليش حد، قالوا لي لازم أعمل لحد توكيل زواج في الشهر العقاري، ونفس الكلام اتقال لنا في مسجد الشرطة، وكأن اللي في سني مكتوب عليهم يكونوا قاصرات إلى الأبد”.
كانت “أميرة” كأي بنت تستعد لأن تُزف إلى عريسها خلال بضعة أيام، قبل أن تصطدم باشتراطات حجز قاعة كتب الكتاب في كبرى مساجد مصر؛ البكر مهما بلغت من العمر لا تزوج نفسها.
اقرأ أيضًا: “الزواج العرفي” بديلًا كي لا تخسر “حواء” صغارها
“أميرة” التي خرجت من فئة القاصرات قانونًا وشرعًا، انفصل والداها منذ سنوات طويلة، وتخليا عنها فلم تعد تتواصل معهما، وبالكاد يتذكران ملامحها. وهي تتساءل في حديثها لمنصة “فكر تاني”: “اتصدمت إن واحدة في سني ومستقلة ماديًا من 10 سنين ما يكونش من حقها تتجوز بدون ولي.. ازاي يكون الولي بتاعي شخص اتخلى عني من سنين طويلة وما أعرفش عنه حاجة؟!”.
لسن قاصرات للأبد.. رد الإفتاء

تحت رقم فتوى حمل رقم “2052”، ذكرت دار الإفتاء المصرية في مسألة الولاية في النكاح، أنها نوعُ رعاية كفَلها الشرع الشريt حفاظًا على المرأة، وهي تبدأ مرحلةً كبرى في حياتها، وقد راعى الشرع عند وضع أحكام هذه الولاية أن تقوم على معاني الشفقة على المرأة ونصرتها وعونها.
ورأى الإمام أبو حنيفة أن البالغة الرشيدة لا ولاية لأحدٍ عليها. وعليه: فلها أن تزوِّج نفسها بأن تباشر عقد نكاحها بكرًا كانت أم ثيبًا. وحَصَرَ الولايةَ الحقيقيةَ في الصغيرةِ غير البالغة. وجعل الولايةَ على البالغة الرشيدة وكالةً وليست ولايةً.
وأخذ القانون المصري بمذهب السادة الحنفية؛ فجعل للمرأة البالغة حقَّ تزويج نفسها، ويعدُّ زواجها صحيحًا إذا تزوجت مِن كفءٍ بمهرِ مثلِها.
بلوغ السن شرطًا لإسقاط الولاية
وجعل الشرع البلوغ أمارة على بدء كمال العقل. وجعل أيضًا البلوغ بالسن معتمدًا عند عدم وجود العلامات الأخرى للبلوغ.
واختلف الفقهاء في سنِّ البلوغ: فرأى الشافعية والحنابلة والصاحبان: أبو يوسف ومحمد أنه خمس عشرة سنة قمرية للذكر والأنثى.
ورأى المالكية أنه ثماني عشرة سنة، ووردت تحديداتٌ أخرى في المذهب فقيل: خمس عشرة وقيل: تسع عشرة وقيل: سبع عشرة، أما أبو حنيفة فقد فصَّل؛ فجعل سن بلوغ الغلام ثماني عشرة سنة والجارية سبع عشرة.
ونَظَّم القانون المصري إجراءات التقاضي في قضايا الأحوال الشخصية بصدور القانون رقم 56 لسنة 1923م الذي حدد أقل سن للزواج من الوجهة النظامية والقضائية بمنع سماع الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقلُّ عن ست عشرة سنة والزوج عن ثماني عشرة وقت الزواج إلَّا بأمر من ولي الأمر، ثم صدرت اللائحة الشرعية المرسوم بقانون 78 لسنة 1931م موافقًا لما سبق، ثم عدلت مادة 99/ 5 منه في قانون 88 لسنة 1951م بتحديد السنوات بالهجرية، ثم استقر الأمر في قانون 1 لسنة 2000م بالتحديد بالسنوات الميلادية.
ادفع تنل الولاية
بينما ألقيت “أميرة” إلى دوامة الإجراءات البيروقراطية لعقد قرانها، فإن “يُمنى” تمكنت من الزواج وهي في الثالثة والعشرين من عمرها، قبل تسع سنوات دون ولي. لكنها حررت توكيلًا في الشهر العقاري لشخص وكلته لتزويجها.
“أنا وجوزي كنّا بنحب بعض واتقدم لأمي بس هي أصرت على رفضه عشان الماديات، واتعرضت للتعنيف والحبس بالبيت وحرماني من إني أروح شغلي، وأنا أصلًا كنت مستقلة ماديًا ومعتمدة على نفسي من سنين، ووالدي كان عايش برة مصر من سنين، لجأت لعمي وخالي وخذلوني خوفًا من والدتي”.
لم تجد “يُمنى” في الأخير سوى قرار كتب كتابها على من أحبت وأرادت. “مكنش قدامنا غير إننا نحطهم أمام الأمر الواقع، خاصة إن أمي كانت عايزة تجوزني شخص ما أعرفهوش”؛ تحكي “يُمنى” لـ”فكر تاني”.
مزيد من البيروقراطية لا الولاية
حين ذهب زوجها الحالي قبل تسع سنوات إلى مكتب المأذون الشرعي للاتفاق معه على إجراءات عقد القران، سأل المأذون عن وكيل العروس الذي عادة ما يكون الأب، وحال وفاته أو غيابه يحل محله الأخ أو العم أو الخال، وحين أخبره أنهم غير موجودين، أصر المأذون على أن تذهب “يُمنى” إلى الشهر العقاري لتحرير توكيل لمن توكله بتزويجها ليحل محل الولي.

تقول: “روحت الشهر العقاري وعملت توكيل لزميلنا بالشغل وهو صديق ثقة أكبر مننا في السن، وبعدها المأذون أصرّ نعمل الكشف الطبي للمقبلين على الزواج في مستشفى حكومي، مع إن أختي لما اتكتب كتابها ما عملتهوش.. كان واضح إنه بيظبط الورق عشان كله يمشي قانوني، وخايف من المشاكل، كمان أخد مننا مبلغ كبير نسبياً وقتها كأتعاب حوالي 20% من مؤخر الصداق”.
اقرأ أيضًا: شروط الزواج.. حلول غير كاملة لمؤسسة الزواج في مصر
ومن المتعارف عليه أن المأذون الشرعي لا يتقاضى أجرًا من المحكمة، ولكنه يأخذ أتعابه من العريس. وتبلغ رسوم توثيق عقد الزواج التي يتقاضاها المأذون 3% من المؤخر إذا كان أقل من 5000 جنيه. ذلك بالإضافة إلى 600 جنيه رسم التوثيق، و4% من المؤخر إذا كان أقل من 10 آلاف جنيه. وهي مبالغ تأتي مضافة إلى 600 جنيه رسم التوثيق، و5% من المؤخر إذا كان أكثر من 10 آلاف جنيه، فضلًا عن 600 جنيه لمصاريف المراجعة.
أب عضول لا ولاية له
حياة “رباب” قبل زواجها كانت سلسلة من المعاناة؛ حيث أصيب والدها بالاكتئاب والمرض النفسي، بعد وفاة أمها في حادث مأساوي، وهي طفلة، وجعلها تعيش طوال حياتها في عزلة عن أقاربها، وحين وصلت إلى الرابعة والعشرين من عمرها طردها من المنزل، وفي النهاية لجأت إلى بيت خالتها، لكنها لاقت معاملة سيئة هناك.
“مشيت من بيت أبويا بشنطة هدومي مش عارفة أروح على فين. اضطريت أروح لخالتي وعشت أسوأ 8 شهور في حياتي، كان الحل الوحيد إن الشاب اللي أنا بحبه ومرتبطة بيه يجي يطلب إيدي من خالتي، لكن قالت لي ما ليش دعوة بالموضوع ده، مش هشيل مسؤوليتك بدل أبوكي، عايزة تتجوزيه روحي اتجوزيه بعيد عني”.
خاضت “رباب” مع عريسها رحلة بحث عن مأذون يوافق على تزويجهما دون ولي، وكان الجواب في كل مرة هو الرفض.
“روحنا الأزهر وأخذنا فتوى بالزواج بدون ولاية لمرض والدي النفسي لأنه شرعًا أب عضول (يمنعني من الزواج للإضرار بي)، ولا ولاية له. وبالفعل، اتجوزت رسمي تحت ولاية شيخ كبير في المشيخة تعاطفًا معايا”.
قاصرات بأمر التعليمات الشفوية
“فكّر تاني” تحدث إلى أحد المأذونين الشرعيين الذي أكد لنا أن هناك تعليمات شفوية من محكمة الأسرة في مصر لكل مأذون بألا يزوج فتاة بكرًا دون ولي، إذا كانت دون الأربعين من عمرها، رغم أن القانون المصري يسمح بزواج المرأة دون ولي، ويتم الزواج في مصر على مذهب الإمام أبي حنيفة الذي أباح زواج المرأة دون ولي شريطة أن يكون كفؤً لها.
وأعزى المأذون -الذي فضَل عدم ذكر اسمه- سبب التعليمات لسابقة وقائع زواج “بنات ناس مهمين”، مبينًا أن هناك حالات لفتيات راغبات في الزواج يكون أهلهن خارج مصر فيضطر المأذون لطلب توكيل من الفتاة في الشهر العقاري لشخص غريب لتزويجها، وإذا كانت الأم موجودة، فإنه يطلب منها التوقيع على عقد القران. وقد استشهد بحالة أخرى لفتاة أشهرت إسلامها وأرادت الزواج من شاب مسلم وهو ما رفضته أسرتها المسيحية، فاضطر المأذون حينها للحصول على تصريح من محكمة الأسرة لعقد القران، وجعل والد العريس وكيلًا لها.
إسقاط الولاية حق والتوكيلات تحايل
“الاشتراطات التي نص عليها قانون المأذونين الشرعيين لم يرد بها ما يمنع زواج البكر الرشيد دون ولي. لكن قانون الأحوال الشخصية الحالي هو ما يشترط ذلك، ويسمح فقط لمن سبق لها الزواج من قبل أن تتزوج دون ولي”؛ تقول هبة عادل، المحامية بمؤسسة “مبادرة المحاميات المصريات لحقوق المرأة”.
وتشير “هبة”، في حديثها لـ “فكر تاني”: “لهذا أرى في نص مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد الذي قدمناه للبرلمان قانون أسرة أكثر عدالة، لأنه ينص على حق المرأة في تزويج نفسها دون ولي، بينما القانون الحالي يجعلها ناقصة أهلية، وإجبارها على تحرير توكيل في الشهر العقاري هو من أنواع التحايل على قانون الأحوال الشخصية”.
ومع ذلك، فإنه في حكم بالطعن حمل رقم 463 لسنة 73 القضائية “أحوال شخصية”، أكدت محكمة النقض أن الراجح في المذهب الحنفي وفقًا لرأي أبي حنيفة، وأبي يوسف، أنه إذا تزوجت المرأة البالغة العاقلة بدون إذن وليها، فإن العقد يكون صحيحًا سواء كانت بكرًا أم ثيبًا، ويكون نافذًا ولازمًا متى تزوجت بكفء على صداق مثلها أو أكثر، رضى الولي أو لم يرضى.
لكنها، “إذا تزوجت من غير كفء بمهر المثل، أو من كفء على مهر أقل من مهر مثلها، ولم يكن وليها قد رضى بذلك؛ فالعقد غير لازم بالنسبة لوليها، فله حق الاعتراض على الزواج، وطلب فسخه أمام القضاء، فإذا أثبت ذلك؛ فإنه يقضى بفسخ العقد مراعاة لحق الولي العاصب، إلا إذا رضى بالزواج أو لم يعترض عليه”.
قاصرات بمذاهب المأذونين
ومن جانبها، تلفت استشارية حقوق المرأة وقضايا النوع الاجتماعي، لمياء لطفي، إلى أن كثير من المأذونين يتعاملون مع الزواج بما يعتنقون هم من مذاهب فقهية وليس ما ينص عليه المذهب المتبع في الدولة؛ مذهب أبو حنيفة الذي يفرض على المأذون إتمام عقد الزواج للعروس التي بلغت سن الرشد “21 عامًا”، ولا يتحجج بالولي، لأنها تستطيع قانونًا أن تعقد العقود المدنية أيًا كان نوعها، وعقد القران ليس استثناءً منها.
وتقول “لمياء”، في حديثها لـ”فكر تاني”: “المأذون موظف مدني يتبع وزارة العدل وتقتصر مهمته على تسجيل عقد القران، وهو مندوب عن القاضي الذي كان قانون الأحوال الشخصية لعام 1920 يلزمه بأن يكون طرفًا في كتابة العقد وتسجيله في ملفات ووثائق المحكمة، ونظرًا لكثرة أعداد الزيجات وعرقلته لعمل المحاكم، أناب القضاة المأذونين للقيام بهذه المهمة ليس أكثر”.
