في زيارته الأولى في محبسي، سألني ابني الأكبر – 9سنوات وقتها – عن شكل السجن، كانت صورته عن المكان ممزوجة بخيالات ومخاوف عززتها مشاهد ربما يكون قد رأها يومًا في الدراما. حاولت التفكير في إجابة تكون مناسبة لاستيعابه. لم أجد تشبيها أقرب لعقله قد يصف السجن سوى المدرسة، غرف احتجاز أشبه بالفصول وساحة للتريض و”كانتين” ومشرفين.
منذ أيام قليلة اشتكى لي أخوه من أن وقت الفسحة المدرسية – البريك – غير كاف، بمراجعة المدرسة ردوا بأن عدد المشرفين في ساحة المدرسة وقت الفسحة يجب أن يتناسب مع عدد التلاميذ، حتى يمكنهم “السيطرة” عليهم، لذلك تقوم الإدارة بتدوير الفسحة على مدار اليوم بين فصول المدرسة. عندما سمعت الإجابة رن في أذني صوت الضابط الكبير بإدارة السجن حين ناقشته في زيادة وقت التريض اليومي، أجاب بأن عدد قوت التأمين بالسجن يجب أن يتناسب مع عدد المساجين خارج الزنازين في ساحات التريض، لذا يجب تقسيم ساعات التريض بين الزنازين.
يفصل بين الواقعتين حوالي أربع سنوات لم تفارقني فيهم المقارنة بين تجربتي مع السجن ومن قبله مأساتي مع التعليم الحكومي، حيث لا يختلف كثيرًا التصميم الهندسي بين مدرسة الطفولة وسجن النضوج، حتى القواعد الحاكمة للبيئة تشابهت إلى حد كبير، وعلى رأسها “الحسنة تخص والسيئة تعم”.
ضحكت كثيرًا حين ربطت بين دور “مسير العنبر” و”أمين الفصل”، زميلنا الذي يًمنح قدر من النفوذ يستخدمه في صناعة قيود جديدة تكبل أقرانه.
نظم الحكم السلطوية ترى المدارس في صورة “ثكنات” تستهدف تربية وتنميط الأجيال الجديدة من المجتمع، في سبيل ذلك تتمسك الحكومة بطابور الصباح – شبه العسكري. الطابور معناه أن تتعلم النظام، أن تنزع إدارة المدرسة حقك في التنقل تدريجيا لصالح شخص أخر لمجرد أنه يحمل صافرة، الصافرة في حالتنا هذه هي رمز للسلطة.
التعليم النظامي
الدرس الأهم الذي يشغل بال الدولة دائمًا، أن تتعلم معنى السلطة، تفهم أن هناك حكاما ومحكومين، أن تدرك موضعك في المجتمع كفرد ضمن قطيع من التابعين ينظر إلى السادة ويتحرك وفقًا لإشارتهم. يتم تصميم المدارس وصياغة المناهج وتجهيز المدرسين لتدجين التلاميذ قبل تعليمهم، ربما لهذا نضع التربية قبل التعليم في اسم الوزارة المعنية.
أن تتعلم الفعل الجمعي هو أمر غاية في الأهمية، وربما تكون المدرسة مكان مناسب لتعلم مهارات العمل الجماعي والعمل ضمن فريق، ولكن أن تتحرك الجماعة وفق إشارات وتعليمات، فالأمر ينتقل هنا من التحرك الجماعي إلى الانصياع والانسحاق بين الجموع المنساقة خلف صافرة المشرف وأوامر المعلم، بين القيام والجلوس والحركة والثبات.
في هذا السياق ابتدعت الدولة حديثًا تدريبات ما قبل التعيين للمعلمين والمعلمات، تجرى تلك التدريبات في منشآت عسكرية ويشرف عليها عسكريين، ويجري اختبار القبول للالتحاق بالوظائف وفقا لقواعد مشابهة لقواعد قبول المجندين، حيث تجرى إجراءات كشف طبي ولياقة بدنية ونفسية، بالإضافة إلى “كشف الهيئة” بالطبع.
نماذج فاسدة
يدرك الحكام جيدًا أن هناك ثمة نماذج فاسدة ترفض التنميط وتأبى المسخ وتشوه النظام المتناسق “الجميل” الذي تسعى الدولة لخلقه، تتزايد فرص هذه النماذج في الظهور مع اتساع تأثير الإنترنت والعولمة وثقافة الاختلاف وحق التعبير. هذه النماذج لا تترك لحالها، يعمل المجتمع على إيجاد مداخل أخرى لتطويع ما فشلت المدرسة في إنجازه.
لذلك لدينا دور الأسرة وتعزيز رسائل الدولة عن الدور الأبوي في “غرس” الانتماء داخل أبناءه، وهو ما يفسر بدرجة كبيرة ميل الدولة لتفضيل أبناء العاملين عن غيرهم في الالتحاق بالوظائف العامة والكليات ذات الطبيعة العسكرية وسلك القضاء والعمل الدبلوماسي. ليست القصة فقط في المجاملة للوالد/ة كما يتصورها البعض، ولكن هناك وجهة نظر تميل إلى اعتبار تلك الأسر قد عززت الانتماء بالدولة والنظام داخل أبناءهم، بالإضافة إلى ارتباط الأسرة عمومًا بمصلحة مباشرة مع المنطومة.
التجنيد الإجباري طريق أخر لتعلم الدرس، بطريقة أكثر حزمًا وفجاجة.
إذا مررت بكل تلك الطرق ولا زلت في عنادك وتمردك، فالسجن هو المكان الأنسب لتتعلم معنى السلطة والقهر وتتقبل ضعفك.
حينها تدرك أن كل ما مررت به لم يكن عشوائيًا، إصرار والدك على أن يختار تسريحة شعرك وملابسك وطعامك المفضل وتعليمك ووظيفتك، لم يكن من فراغ. تصميم المدرسة من فصول وساحة للتريض وبرج للمراقبة لم يكن صدفة. طابور الصباح والعظة الأسبوعية واجتماع العمل، كلها لغرض واحد.
هناك تدرك أيضًا أن أغلب المضطهدين أمثالك من نزلاء السجون لديهم برنامج مختلف للتنميط، نشأوا على أساسه وتربوا فيه. تتعلم أن التضاد بين المنظومتين لا يختلف عن كونه منهج التدجين وشكل حامل الصافرة، والاتجاه الذي يشير إليه. لن يتقبلوك أيضًا.
أنت نموذج عطب لن تقبله أي من المنظومتين.
