أثناء العدوان القائم حاليًا على غزة، قرر بعض الفنانين والمشاهير إعلان مواقفهم من خلال سُبل مختلفة، اختار بعضهم الحديث بشكل مستمر والتضامن من خلال مشاركة الأخبار وفضح الجرائم التي تحدث باستمرار من الكيان الصهيوني ضد شعب غزة منذ يوم السابع من أكتوبر بالتحديد. وغيرهم اكتفوا بمشاركة صورة الصفحة الشخصية علم فلسطين أو صورة داعمة لهذا الشعب الذي يتعرض للإبادة الجماعية الممنهجة.
كما هناك قرارات خاصة بفعاليات ومهرجانات، المسئولون عنها وجدوا صعوبة في إقامتها أثناء الأحداث ومن غير المناسب استمرارها بالتزامن مع ما يحدث هناك، كشعور إنساني وللإعلان أيضًا عن مواقفهم وتضامنهم مع أهل غزة مثل مهرجان الجونة الذي تم إلغاءه منذ بداية الأحداث، ومهرجان القاهرة للسينما، ولكن هذا لا يعني أن ذلك أصبح التوجه المفروض على جميع الفعاليات المماثلة لكن هذا ما حدث..
ظل التباين والاختلاف في طرق التعبير حتى طل علينا الفنان محمد سلام في فيديو قصير على صفحته، يعلن فيه اعتذاره عن مسرحيته في موسم الرياض المقام حاليا في المملكة العربية السعودية، معبرا عن مشاعر حزنه الشديد وانعدام الرغبة في عرض عمل كوميدي أثناء هذه الحدث كما أشار إلى شعوره بالذنب في تعبيره قائلا "هنقول لربنا ايه اخواتنا بيموتوا واحنا بنرقص وبنضحك الناس؟"، وأكد أنه انتظر حتى اقترب الموعد ظنا منه أن موسم الرياض سيحذو حذو مهرجان الجونة والقاهرة وسيتم إلغاؤه إلا أنه تأكد من إقامة العروض في الموعد المحدد، لذلك قرر الاعتذار عن العمل.
نتفق أو نختلف عن مستوى مهنية القرار، إلا أن معظم الناس اتفقوا على عفوية هذا المقطع من محمد سلام، وتداولوه في حالة دعم ونشوة من تضامنه مع الأحداث حيث شعر البعض أن تلك المواقف تعبر عنهم، بل جعلتهم "سلام" واحد من صفوف المتابعين للأحداث في غضب وصمت وعجز، وثقل في كل شيء والرغبة في الامتناع عن كثير مما نستمتع به في حياتنا تضامنًا مع هؤلاء الأبرياء الذين يلقون حتفهم على يد كيان مجرم يمنع عنهم الماء والطعام والعلاج.
على الرغم من الزخم الشعبي والتأييد الذي ناله هذا المقطع، إلا أنه على الجانب الآخر حدث هجوم كبير من الفنانين والإعلاميين وخاصة العاملين في قنوات سعودية، وكذلك من بعض من الجمهور السعودي على موقع x تويتر سابقا، اتهموه بالتنظير والتقليل من قيمة الفن كعمل شريف ويجب أن يستمر على كل الأحوال، وكذلك البعض رآه موقف يسئ للسعودية وحكمها واستمرارها في إقامة هذا الحدث الكبير مع تجاهل تام الإشارة للأحداث من خلاله.
كل ذلك انتهى وقدم هذا العمل الفني باستبدال سلام بالفنان محمد أنور، حتى يطل علينا الفنان بيومي فؤاد في مقطع مسرب له من عرض المسرحية يبكي بحرقة متأثرا ومعبرا عن استيائه بشدة من كلام محمد سلام، واتهمه بالإساءة للفن والفنانين، رافضا الإشارة إلى إضحاك الجماهير كمهمة يقومون بها، بل يؤكد أن ما يقدمونه هو فن بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهذا يضعنا أمام سؤال مهم هل إضحاك الناس لا يعبر عن الفن، هل أساء محمد سلام فعلا للفن حين قال "بنضحك الناس"!
جاء رد المخرجة كاملة أبو ذكري على المقطع المسرب، مشيرة إلى أن ما يقدمه بيومي فؤاد ليس فنا أصلا، وذلك لقلة التحضير والاستعداد عليه، بالمعنى الدارج هو عمل تجاري بحت ليس له أي قيمة فنية مضافة كما أكدت أنها لا تحب أن تنضم لهذا الصف من الفنانين إذا كان ذلك هو الفن فعلا.
كل هذا الجدل طرح سؤال هاما، هل الفن مهنة تنفصل تماما عما يحيط بها؟ وكيف يجب للفن أن يعبر أو يكون جزء من الواقع حوله، أم كما طرح رأي مختلف عند إلغاء دورات المهرجانات المصرية، حيث ارتأى البعض أن للفن دور أثناء العدوان والحروب حيث كان من الأصلح إقامة المهرجان واستخدام الفن وسيلة لدعم القضية، فهل فعلا هذا هو دور الفن؟
على الرغم من بكاء بيومي فؤاد على خشبة المسرح مؤكدا أنه جاء لتقديم فن وليس لإضحاك الناس، وهو ما يتنافى تماما مع حديثه عن الأعمال التي قام بها دون قراءتها أساسا في تصريح تليفزيوني له، أو الأعمال التي قام بها فقط من أجل المال غير مهتم بما تقدمه، وهو ما يعكس طريقة تعامله هو شخصيا مع الفن على أنه مهنة ليس عليها تقديم معنى أو دعم قضية واقتصارها على تسلية المشاهد حتى لو كان العمل ركيك، إلا أنه اعتبر وصف سلام مهين له، وهو ما يجعل هذا الموقف غير مفهوم متناقض تماما مع تصريحاته وتاريخه "الفني".
ويؤكد على ما طرحته المخرجة كاملة أبو ذكري، وهو أنه على مر السنوات الأخيرة عاد مصطلح "أفلام المقاولات" بشكل جديد وتقديم أعمال فارغة من المحتوى وتأتي للمشاهد بسيناريو ساذج وحوار ركيك، وظهور مكرر لمجموعة معروفة من الممثلين حاليا بردود أفعال متوقعة ومتشابهة مع ظهورهم في أعمال أخرى، لدرجة أن أصبح ظهور البعض في الأعمال الفنية من باب المجاملات بلا سياق مفهوم أو حوار مكتوب يجب عليهم الالتزام به.
ويتم تقديم هذه الأعمال "المسلوقة" في ظرف أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، وخاصة في أعمال لا تشاهد فيما بعد مثل التي تعرض في موسم الرياض، حيث لا يسمع عنها الجمهور المصري أو السعودي أو أي جمهور آخر بعد عرضها أثناء الفعالية، هذه الأعمال الموسمية التي تظهر وتختفي لمدة زمنية محددة دون أن تسجل في تاريخ أعمال الفنانين، تطرح سؤالا وبقوة هل هي أعمال تبحث عن المشاهدة والانتشار والتقييم أم هي أعمال تجارية مصنوعة خصيصا لجمهور بعينه تناسب اختياراته وبشكل مؤقت لتحقيق الهدف المرجو وهو التسلية، حتى نعود من جديد ونتساءل أهذا هو الفن فعلا؟
بالتأكيد الفن مساحة واسعة من التعبير الحر، وشيء أساسي حتى يصبح الفن حر هو عدم قولبته بقالب معين أو تحديد شكله أو معياره، أو إلزامه بتقديم رسالة أو هدف، بل بالعكس إمتاع الناس و إضحاكهم هما فن في حد ذاته، ولكن ما نشاهده اليوم هو أشبه بحلب الأفكار وإعادة تدوير الأعمال لكسب المال غير مهتمين بصناعة رصيد أعمال معروفة أو واضحة، بل هي أعمال لا يسمع عنها أحد تعرض لمرة واحدة وتمحى من تاريخ الفنان، بمقابل مادي سواء كان مغري أو لا، وهو ما يفقد الفن أهم سماته وصفاته وهو الحرية، حرية العرض والانتشار والتعبير، بل تحدد نوعه وطريقة عرضه ومدته، فن لا يعبر عن الفنان ذاته بل يعبر عن فعالية وليس له عمر كما نشير دوما بأن أهم ما يميز الفن هو العمر الطويل، أطول من أصحابه، اليوم ما يقدم هو الفن اللحظي بغرض كسب المال، للتسلية المؤقتة.
أثناء تقديرنا لقدسية الفن والحفاظ على الهدف المرجو الأهم منه وهو الاستمتاع به، واستخدام الشعارات الرنانة للدفاع عن استمرارية الفن دون أن يتأثر بأي حدث ،وعدم فرض مواقف تضامنية واجبة على أي فنان أو أي عمل أو أي حدث، بل التأكيد على أن تسلية الناس هو فن في حد ذاته، ننتظر من الفنان بيومي فؤاد ومن غيره الإجابة على السؤال "هل ما تقدمونه اليوم هو الفن فعلا؟ "