يبدو أن الوضع الاقتصادي الراهن بالغ الصعوبة وأزمة توفير العملة الصعبة، سيدفع بمصر إلى كل الطرق، وآخرها نظام مقايضة السلع الغذائية، الذي اقترحته الحكومة مؤخرًا على كينيا التي تعاني أيضًا أزمة دولارية، في ظل حاجتها الكبيرة لسداد التزامات خارجية مستحقة في مدى زمني قصير.
في تصريحات نقلتها وكالة "بلومبرج" الإثنين، قال وزير الخزانة الكيني نجوجونا ندونجو، إن مصر بحثت شراء الشاي من كينيا، عبر المقايضة، والاحتفاظ بالسيولة الدولارية. وأضاف أن الاقتراح جاء من السفير المصري وائل نصر الدين، الذي منح الجانب الكيني الفرصة لزيارة مصر لتقرير السلع التي تحتاجها بلاده ويمكن توفيرها من الصادرات المصرية.
ماذا نعني بالمقايضة؟
المقايضة تعني مبادلة سلعة بسلعة دون استخدام النقود. وتعتمد على "الصفقات المتكافئة" التي تستخدم لمبادلة الدول مع بعضها البعض سلعًا مقابل سلع أخرى. ذلك من خلال اتفاقات دفع وسداد بالعملة الحسابية (عملة متفق عليها بين الجانبين للحساب)، ينظمها -في حالة مصر- القرار الحكومي رقم 276 لسنة 1991 الصادر بتاريخ 30 مايو من العام ذاته.
أزمة العملة تحفز المقايضة
تعاني مصر وكينيا أزمات عديدة متشابهة، في مقدمتها نقص العملة الصعبة وتراجع العملة المحلية. وقد فقد الشلن الكيني 18% من قيمته مقابل الدولار منذ مطلع العام الحالي. بينما تراجع الجنيه المصري بنحو 20% خلال الفترة ذاتها، مع ضغوط من صندوق النقد الدولي من أجل منحه المزيد من التخفيض.
بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر وكينيا خلال 2022 نحو 663.6 مليون دولار، مقابل 637.4 مليون دولار خلال عام 2021 بنسبة ارتفاع قدرها 4.1%؛ وبلغت قيمة الصادرات المصرية إلى كينيا 355.7 مليون دولار خلال عام 2022 مقابل 382 مليون دولار خلال عام 2021.
كانت أهم السلع التي استوردتها كينيا من مصر: ورق بقيمة 43.4 مليون دولار، ولدائن ومصنوعاتها بقيمة 36.7 مليون دولار، وسكر ومصنوعات سكرية بقيمة 34.5 مليون دولار، وآلات وأجهزة ومعدات كهربائية بقيمة 27.4 مليون دولار، وحديد وصلب بقيمة 27.1 مليون دولار، ومصنوعات متنوعة بقيمة 20.9 مليون دولار، وصابون بقيمة 20.1 مليون دولار، ومحضرات غذائية بقيمة 12.6 مليون دولار، ومحضرات أساسها الحبوب أو الدقيق بقيمة 12.1 مليون دولار، وزجاج ومصنوعاته بقيمة 8.9 مليون دولار.
في المقابل، تستورد مصر من كينيا منتجات البن والشاى والبهارات والتوابل والفواكه وأثمار قشرية صالحة للأكل، وحمضيات، وبطيخ، وشمام، وألياف نسيجية نباتية وخيوط من ورق وأقمشة ومنسوجات.
لماذا قد توافق كينيا؟
في كينيا وصلت قيمة العملة إلى أدنى مستوى على الإطلاق عند 150 شلنًا للدولار، بانخفاض 24٪ على أساس سنوي، وفي أكتوبر 2018، كان الدولار الواحد يساوي 100 شلن، كما يستحق عليها سندات بقيمة ملياري دولار تستحق في يونيو 2024.
وقد عانت الدولة الإفريقية -التي تعتمد على الشاي في صادراتها لتوفير العملة- كثيرًا من تقليل الاستهلاك في باكستان التي دعت حكومتها المواطنين إليه في ظل أزمتها الاقتصادية حادة.
باكستان تعد أكبر مستورد للشاي في العالم، وقد تخطت قيمة استيرادها 600 مليون دولار العام الماضي. بينما مصر هي ثاني أكبر مشتري للشاي من كينيا، وقد انخفضت وارداتها منها أيضًا بنسبة 13%، وفقًا لبيانات مجلس الشاي الكيني.
المقايضة.. حل مصري في وقت الأزمات
لم يكن الاقتراح المصري على كينيا الأول من نوعه، فالحكومة تبحث تطبيقه حاليًا مع رومانيا لتأمين مخزونها من الحبوب ورفع الضغط على الدولار. وهي تسعى لهذه الصفقة قبل موسم حصاد القمح المحلي، مع تجهيز قائمة بأبرز السلع والمنتجات التي تصدرها لرومانيا لإدراجها ضمن النظام المتوقع أن يتم تفعيله قريبًا.
وسبق أيضًا لمصر أن شرعت في تطبيق تلك المقايضات بشكل مؤقت مع روسيا، بإتاحة عدد من السلع الرئيسية مقابل تصدير منتجات مقابلة للتغلب على المعوقات المرتبطة بالحرب الروسية ـ الأوكرانية، وتفادي مشكلات التبادل التجاري بالروبل في ظل استبعاد روسيا من نظام سويفت.
وتضمنت السلع المقترحة وفق ذلك النظام: الحبوب، والأخشاب، والحديد والزيت من روسيا، مقابل تصدير حاصلات زراعية ومنتجات غذائية من مصر، خصوصًا الموالح والبطاطس والبصل.
يبلغ التبادل التجاري بين مصر وروسيا نحو 4.7 مليار منها صادرات مصرية حول 500 مليون دولار. بينما تستحوذ الحاصلات الزراعية المصرية على النصيب الأكبر للصادرات. وبحسب بيانات جهاز التعبئة العامة والإحصاء، فإنّ صادرات مصر لموسكو تتركز في البرتقال والعنب الطازج والفراولة والمانجو بكمية تصل لـ 660 ألف طن.
وسبق لمصر وروسيا، أن انتهجا ذلك المبدأ فى مبادلة السلاح مقابل صفقات الأقطان. حيث حصلت القاهرة في الخمسينيات على صفقة أسلحة مكونة من معدات حربية بقيمة 80 مليون جنيه إسترليني، وكان الدفع يتم بالقطن المصرى. ورغم أن الأسلحة سُلِّمت عن طريق تشيكوسلوفاكيا إلا أنها كانت روسية الصنع.
خطة تظهر في الأزمات ولا تستمر
في 2015، تزايدت المقترحات بوضع نظام مقايضة بين مصر والدول الإفريقية للتغلب على مشاكل تدبير العملة اللازمة للاستيراد والتصدير، لتضم أسواق 26 دولة ضمن أكبر 3 تكتلات إفريقية "السادك" و"الكوميسا" و"تجمع شرق إفريقيا".
تبنى اتحاد الصناعات المصرية ذلك المقترح لمساعدة الحكومة على محاصرة تهرب المصدرين من توريد قيم الصادرات الدولارية لخزينة الدولة، علاوة على تخفيف عجز الميزان التجاري، والتغلب على مشكلة صعوبة تطبيق المعاملات البنكية مع الدول الإفريقية.
أداة مهمة ولكن
يقول الدكتور عبد المنعم السيد مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، لمنصة "فكر تاني"، إن المقايضة أو الصفقات المتكافئة لها العديد من المزايا، أهمها تنشيط الاقتصاد المصري، وعدم التعامل بالعملة الصعبة أو تقليل التعامل عليها لأقل درجة، ما يسهم في النهاية في تقليل معالجة عجز ميزان المدفوعات.
وانخفض عجز الميزان التجاري لمصر بنسبة 34% خلال العام المالي الماضي المنتهي في يونيو 2023 مقارنة بنفس الفترة من العام المالي السابق له مدفوعًا بتراجع وتيرة الاستيراد، ليبلغ 31.6 مليار دولار مقابل 47.8 مليار دولار خلال الفترة المقابلة من العام السابق.
لكن السيد يحذر من عقبة تتمثل في انخفاض حجم الصادرات المصرية أمام الواردات في التعامل مع بعض الدول ما يتطلب زيادة الصادرات، وأن يتم إدخال السياحة ضمن الصفقات المتكافئة، ما يعطيها القاهرة مزايا إضافية في التطبيق.
كيف نستفيد من الصفقات المتكاملة؟
اتحاد الصناعات المصرية يرى مزايا إضافية لهذا النظام، من بينها محاصرة تهرب المصدرين من توريد قيم الصادرات الدولارية لخزينة الدولة، ما يعزز الاحتياط النقدي أو على الأقل يحافظ عليه من الاستنزاف والوضع في بنوك خارجية.
ويقول محمد البهى، رئيس لجنة الضرائب والجمارك باتحاد الصناعات المصرية، إن هذا النظام فعّال جدًا في التعامل مع إفريقيا التي لديها مشكلات في التعاملات البنكية، فصادرات مصر لها تتراوح بين 2 و2.6 مليار دولار، وهو رقم قليل حينما نعرف أن أصغر دولة إفريقية تستورد من 9 إلى 10 مليارات دولار سنويًا.
وقال إن الصناعات الكيماوية والأسمدة أبرز القطاعات المرشحة للتصدير لنظام الصفقات المتكافئة، وفي المقابل يمكن استيراد مواد خام، مع دخول مصر في استثمارات قوية في مجال المزارع السمكية واستثمارات في مجال النقل.
القطاع الخاص.. هل يقبل بالصفقات المتكافئة؟
يثير تطبيق الصفقات المتكافئة تساؤلات حول كيفية التطبيق، فأغلبية الصادرات المصرية من مزارع القطاع الخاص، علاوة على وجود اشتراطات كثيرة يجب انطباقها أولا لبدء التصدير، وبالتالي قبول الشركات وتسهيل التصدير تحد يجب العمل عليه من أجل إنجاح نظام الصفقات المتكاملة.
لكن علي باشا، مدير إدارة إفريقيا بجهاز التمثيل التجاري بوزارة التجارة والصناعة المصرية، لا يرى مشكلة في تلك النقطة، فأغلب الصفقات التجارية بالسوق المصرية تتم عبر رجال الأعمال وليست الحكومة، فالتغيرات بالنظم الاقتصادية أتاحت مجالًا كبيرًا للقطاع الخاص؛ للعمل بتلك الآلية.
ويشير باشا، في تصريحاته لـ"فكر تاني"، إلى أن القطاع الخاص قد يكون الأكثر قدرة على تنفيذ مقترح العمل بالصفقات المتكافئة التي تهدف إلى تشجيع التبادل التجاري، أو لحل أزمات تدبير العملة الصعبة، أو النقد الأجنبي.