لا يمكن لعاقل أن يمر مرور الكرام على ما يحدث في فلسطين. لم أكن يومًا قوميًا أو عروبيًا، ولم أنشغل كثيرا بالقضية الفلسطينية، وكثيرا ما كنت أعتبرها قضية محسومة لصالح إسرائيل إلى أمد لا يعلمه إلا الله.
لا أتذكر أنني شاركت في حملات المقاطعة من قبل لأنني كنت مقتنعا أنها بلا جدوى بل وأنها تضر برزق مصريين يعملون في المصانع والمحلات التي تبيع المنتجات التي يطالب دعاة المقاطعة بمقاطعتها.
وحتى عندما اقتحم الفلسطينيون الحدود المصرية وكتبت وقتها أصفهم بأنهم محتلين جاءوا لغزو سيناء ثم وجدتهم لدهشتي الشديدة يعودون مرة أخرى لغزة طواعية، فوجئت بأن تصوري عنهم كان خاطئً تمامًا، لكن لم تتغير نظرتي للصراع نفسه وظللت معتقدا بأن القوة العلمية والعسكرية والاقتصادية لا يمكن أن تميل لكفة المستضعفين المحاصرين. دائما ما نظرت للقضية الفلسطينية من منظور مصري بحت، أعلم أنها قضية أمن قومي مصري لكنني ظننت دومًا أنها لا يجب أن تشغلنا عن قضيتنا الداخلية الأساسية وهي التحرر من الاستبداد.
اقرأ أيضًا:ليست روسية فقط.. ترسانة حماس العسكرية أمريكية أيضًا
حتى السابع من أكتوبر هذا العام.
لم يكن طوفان الأقصى طوفان يقتلع الغرور الاستخباراتي الصهيوني في فضيحة لا يمكن محوها في أي مدى منظور فحسب بل كان نقطة تحول جذرية في رؤية العالم، ورؤيتي بوصفي فردا في هذا العالم، للقضية الفلسطينية.
ولا أتحدث فقط عن عملية عسكرية عالية المستوى تم الإعداد لها منذ سنوات ولكنني أتحدث عن تداعيات تزلزل قلب الكافر والمؤمن على حد سواء. لسنوات ظل ذلك السور الفاصل رمزا على قدرة الإنسان على سحق أخيه الإنسان دون ضمير أو شفقة، فإذا به فجأة يصبح رمزا للتحرر والانعتاق لا يقل عن سور برلين الذي لم يعاقب هادموه بأي عقوبة بعد هدمه مثل التي تصبها آلات القتل الإجرامية على الشعب الفلسطيني الحر في كل لحظة الآن.
وأتساءل، هل كان الشعب الفلسطيني ليعاقب بكل تلك الكراهية وكل ذلك الغل لو أنه يملك دعم الشعوب الشقيقة له؟ وأجيب لو أن هذه الشعوب كانت تدعمه حقا ما وصل به الحال إلى ذلك الوضع، فبالتأكيد كان الصهاينة ليعجزوا عن الإمعان في حصاره وسرقة أراضيه لو أن تلك الشعوب تملك أن تدعمه وأن تدافع عن حقه، وبالتأكيد كان الشعب الفلسطيني نفسه ليصبح أقل صلابة واستبسال وتوكلا على الله لو أنه علم أن الدعم البشري قريب ومتاح.
بل وأجيب إنما هو يعاقب وتنتهك كل حقوقه الإنسانية لأنه حقق ما لم يتصوره أشد أعداؤه في أشد كوابيسهم، أن يوحد كلمة الضمير الإنساني في أنحاء الأرض على الحق. فنجد كل من امتلك ولو بعضًا من المشاعر والعقل يقف مع حق الفلسطينيين في الحرية والكرامة والحياة بينما نجد كل من فقد ذلك في الطرف الآخر يحاول أن يدعي العقلانية ورفاهية الحس في دعم عملية إبادة جماعية لا تخطئها عين.
ولكن ما الذي يحدث على الجانب الآخر؟ هل كل ما تفعله إسرائيل هو مجرد انتقام أعمى لكيان بنى وجوده على أسطورة هدمت ويريد الانتقام ممن هدموها؟ ربما كان يمكن تصور ذلك في الأيام الأولى للإبادة ولكن من السذاجة الاستمرار في نفس التصور بعد ما يقرب من الشهر من بدايتها.
فهل ما نراه هو مجرد حملة انتقامية لإرضاء شعب مجروحة كرامته، تمارسها حكومة مفتقدة للشرعية الداخلية وتحاول استغلال الدماء لتعيد لنفسها بعضا من الشرعية؟ الحقيقة أن التغير الواضح في العقيدة الإسرائيلية التي أصبحت فجأة لا تبالي بدماء أسراها وتسحقهم وسط من تسحق من ضحايا القصف رغم كل مناشدات الأهالي بالتوقف والتفاوض لإخراجهم تشي بأن الموضوع بالفعل أكبر من الانتقام.
والحقيقة أن الأخبار المتواترة عن تعمد إسرائيل إلحاق الإهانة والأذى بدول تجنبت أي محاولة ولو دبلوماسية للتصعيد ضدها مع الأخبار المؤكدة عن تصاعد حملة القتل والإرهاب في الضفة الغربية، مع رفضها لأي نصائح بالتهدئة يقدمها لها حلفاؤها، يعني، في نظري على الأقل، أن الخطة تتجاوز مجرد الانتقام الأعمى من حماس وحاضنتها الشعبية أو المحاولات المستحيلة لاستعادة الشرعية المنهارة لسياسي منحط سوف يدفع حتما ثمن فشل أجهزته الأمنية.
بل الأمر هو ببساطة استغلال اللحظة المواتية، وربما الأخيرة، للخلاص من كل الفلسطينيين وإخراجهم بالقوة من أرض فلسطين والاستيلاء عليها بالكامل وفرض أمر واقع جديد مثلما حدث في 1948 و1967 بالضبط. والأرجح أن هذه الخطة كان يتم الإعداد لها منذ مدة وبشكل أكثر هدوءً مما حدث ولكن الطوفان الذي حدث أجبرها على إخراج كل ما بجعبتها في التو واللحظة لتحاول تحويل لحظة الانكسار والهزيمة للحظة انتصار وتوسع.
والأمر في تقديري أكبر من نتنياهو وحكومته، صحيح أنه لن ينقذه من تلك الفضيحة إلا الموت ولكن حتى موته أو عزله لن يعني بالضرورة أن من سيتولون الحكم من بعده سيتنازلون عن هدف الاستيلاء الكامل على أرض فلسطين وطرد غالبية أهلها خارجها. وهو ما سيستدعي بالقطع مواجهة عسكرية لا يمكن تفاديها مع من يرفضون ذلك وبأي ثمن ممكن.
ولذلك وكما أن الوسيلة الوحيدة لمنع إسرائيل من الانهيار هو انتصارها في معركة التوسع والاستيلاء على أكبر مساحات ممكنة من الأرض وخلق واقع عالمي جديد، فإن الوسيلة الوحيدة لمواجهتها هو تحالف جميع الشعوب الحرة ضدها لمنعها من استكمال خطتها ولو أدى ذلك إلى انهيارها شبه الحتمي. فحذار.