على مرأى البصر من شاطئ بحيرة ناصر واسعة الامتداد، يعود قارب صيد من نقطة عميقة فيها بشكل مسرع، كان "عثمان" وحيدًا على القارب، ومرتبك، ملابسه ملطخة بالدماء، ووجهه مغطى بالصدمة.
"عثمان" في العشرينات من العمر، أول مراحل الشباب، إلا أن المراحل العمرية عند هذه الفئة في المجتمع لا طائل منها إذ أنهم لا يملكون رفاهية العيش في معناها أبدًا. منذ طفولته لم يحظ "عثمان" بأية فرصة في التعليم، رمته الحاجة وضيق العيش إلى العمل منذ سن صغيرة، لا يلوي على شيء سوى تأمين لقمة العيش له ولأمه ولأخوته الذين يعولهم.
يمتهن "عثمان" الصيد. هناك عبارة مأثورة تقول إن الصيد يعلم الصبر، لكن ماذا يفعل الصيد والصبر في حياة هؤلاء، أمثال "عثمان"، في ظروف عمل قاسية تعتمد على رزق الله إن شاء. يعمل "عثمان" وآخرون في عرض البحيرات والبحار دون نقابات، أو تأمين صحي أو اجتماعي، أو إجازات، وتحت التحكم الكامل من أصحاب القوارب الذين يعطونهم ما يكفيهم سؤال الناس إلحافًا.
في ذلك اليوم المشئوم، خرج "عثمان" مع "برعي" صاحب القارب الذي يعمل عليه. جهزا القارب وشبكة الصيد وقاداه إلى عرض البحيرة. لم يكن "عثمان" أو "برعي" يمكنهما توقع ما حدث بعد ذلك. يملك "برعي" قارب الصيد ذلك بالوراثة، أي أنه ورث المهنة عن أباه وأجداده، إلا أن الوقت غير الوقت، والحال غير الحال. يملك "برعي" إضافة إلى القارب صلافة القلب، وسلاطة اللسان، وقسوة شديدة وتعالي في التعامل مع من يعملون معه.
قبل ذلك اليوم، طلب "عثمان" من "برعي" أن يعود إلى قريته في إجازة لرؤية أهله إلا أن برعي رفض ووبخه بشدة، لم يعط "برعي" أي أجر ل"عثمان" منذ ثلاثة أشهر، ولا يسمح له باستخدام هاتفه للاطمئنان على أهله إذ لا يملك "عثمان" واحدًا، فضلا عن سبه وتوبيخه لأتفه الأسباب، وفي كل مرة ينفعل "عثمان" لأنه لا يقبل الإهانة مهما كان حاله بسيطًا، وفي كل مرة كان "برعي" يزداد غلظة.
خرج الاثنان ذلك اليوم وحدهما للصيد، يعود "عثمان" للعمل دائمًا بعد كل "شجار" بينهما، لأنه لا يملك إلا أن يعمل، ولا يعرف رفاهية العيش دونه، لذلك فرغم قسوة الظروف والإهانة قبل بالعمل، وذهب مع "برعي" إلى عرض البحيرة، هناك وبسبب اهتزاز في القارب طارت شبكة الصيد من يد "عثمان" فَهَم "برعي" بضربه وهو يسبه بأقذع الشتائم. يقول "عثمان": - "قلتله.. تاني، بتغلط تاني؟"، دخل الثنائي في مشاجرة في عرض البحيرة، لم يكن مخلوق ليفصل بينهما ويهدئ الموقف، تشاجرا وسبا بعضهما البعض، وفي خضم الأحداث مد "عثمان" يده ليجد سكينة تستعمل ضمن أدوات الصيد فأخذها وضرب بها عنق "برعي"، انفجر الدم في كل مكان غطى ملابس "عثمان" ووجهه، حاول "عثمان" الإمساك بـ"برعي" وكتم الجرح، حاول إنقاذه، إلا أنه فقد توازنه وسقط في البحيرة من القارب وسقطت معه السكين سلاح الجريمة، ولم يجد "عثمان" من بد سوى الهرب بالقارب إلى الشاطئ.
ترى.. هل تنتهي هنا القصة المأسوية؟!، في الحقيقة أن الإجابة لا. قُبض على "عثمان". وأحالته النيابة العامة إلى المحكمة بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، لتحكم المحكمة على "عثمان" بالإعدام شنقًا حتى الموت.
تعتمد المدرسة الجنائية المصرية على فلسفة قديمة قدم الزمن. نشأت هذه الفلسفة في القرن الثامن عشر لترسخ لمفهوم قضائي وهو "عمومية القاعدة القانونية وتجردها" حيث يوضع تعريفًا مجردًا لكل جريمة وتقر عقوبة ثابتة لها تطبق على كل من يرتكبها، فيصرف الاهتمام بتعريف ماديات الجريمة عن العناية بشخص مرتكبها، باعتبار أن كل شخص يقدم على ارتكاب جريمة ما هو إلا مجرم مجرد لا أهمية لفحص سماته الشخصية أو الاهتمام بظروفه الاجتماعية.
إلا أن العالم من حولنا تطور في هذا الشأن تطورًا كبيرًا، فظهرت مدرسة حركة الدفاع الاجتماعي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، ورأت أن تحقيق حماية المجتمع يكون بمواجهة الظروف التي من شأنها حث الفرد للإقدام على ارتكاب الجريمة. كانت حركة الدفاع الاجتماعي هي أول حركة تنادى باستبعاد عقوبة الإعدام بصفتها عقوبة قاسية ووحشية، وذلك تأسيسًا على إيمان الحركة بعدم وجود مجرمين غير قابلين للإصلاح.[1]
هذه الفلسفة القديمة التي تعتمدها المحاكم الجنائية المصرية، هي التي أدت في النهاية إلى إعدام "عثمان"، فهو بالنسبة للمحكمة كائن مجرد ارتكب فعلًا مشينًا وواجب القضاء عليه لحماية المجتمع من جرمه.
لم تنظر المحكمة هنا للظروف الاقتصادية أو الاجتماعية التي نشأ فيها "عثمان". لم يشفع له احتماله لقسوة صاحب العمل، ولم تستمع المحكمة لعدوله عن الاعتراف الذي أدلى به أمام المباحث بعد احتجازه وترهيبه لمدة 10 ساعات قبل عرضه على النيابة للتحقيق. ولم تقتنع المحكمة أن شهود الإثبات جميعهم، لم ير أحد منهم وقوع الجريمة التي حدثت في عرض البحيرة وبعيدًا عن الشاطئ، وأن جميعهم سمعوا بالخلافات التي نشبت بين "عثمان" و"برعي" لا غير. كما لم تقتنع المحكمة أيضًا بما لفت نظرها له دفاع المتهم "عثمان" أن ظروف العمد والترصد غير متوفرين في هذه القضية وأن المتهم لم يملك القصد الجنائي لقتل المجني عليه، وأن فورة الغضب أثناء المشاجرة هي ما دفعته لاستخدام السكين.
يقول "عثمان" للمحكمة أنه تشاجر مع "برعي":" ضربته في رقبته مرتين"، لكنه أنكر تمامًا أمامها نيته للقتل، والقتل جريمة بشعة بطبيعة الحال، ولم يطلب "عثمان" من المحكمة أن تحكم له بالبراءة، ولكن أن تحاكمه على قدر الجرم الذي ارتكبه ولا توقع عليه عقوبة قاسية مثل الإعدام.
وفقًا للمادة 93 من الدستور المصري الصادر عام 2014، تلتزم الدولة بالاتفاقيات والعهود الدولية التي يتم التصديق عليها وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها في الجريدة الرسمية وفقا للأوضاع المقررة. وعلى الرغم من تصديق مصر على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ونشرها له في الجريدة الرسمية لتصبح بنوده نافذة بقوة القانون، بناء على ذلك، يكون على مصر التزام واضح بتنفيذ المادة السادسة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والتي نصت من ضمن بنودها على حصر تطبيق عقوبة الإعدام – في الدول الأعضاء التي تطبقها – على أشد الجرائم خطورة. وعلى الرغم من محاولة هذه المادة تقليص نطاق تطبيق العقوبة على الجرائم التي أضفت عليها وصف "الأشد خطورة"، إلا أنه يُلاحظ أن القانون المصري توسع في تطبيق عقوبة الإعدام على الكثير من الجرائم حيث بلغ عددها في قانون العقوبات وحده 34 جريمة، وهو عدد كبير للغاية، وذلك بالإضافة إلى 10 جرائم أخرى في قانون مكافحة المخدرات وتنظيم استعمالها، وجريمة وحيدة في قانون الأسلحة والذخائر، و10 جرائم أخرى في قانون الأحكام العسكرية.
وذلك على الرغم من أنه لا ينبغي تعيين عبارة "أشد الجرائم خطورة" على نحو يتجاوز مفهوم الجرائم الدولية التي يترتب عليها إزهاق الأرواح، ويجب ألا يكون تحديد الجرائم التي تطبق عليها عقوبة الإعدام فيه مخالفة للعهد أو يشكل انتهاكًا للحقوق والحريات التي يكفل ممارستها.[2]
بالإضافة إلى ذلك، خولت المادة 17 من قانون العقوبات القضاة استعمال الرأفة إذا اقتضت ملابسات الجريمة ذلك، وتخفيف العقوبات من الإعدام إلى السجن المؤبد وعلى هذا المنوال التدريجي في باقي الهرم العقابي[3].
إن تناقض نظام العدالة في مصر يؤدى إلى الكثير من إهدار الفرص للحد من تنفيذ عقوبة الإعدام، والمخرج الوحيد الذي ينص عليه قانون العقوبات كمبدأ الرأفة تكبله الكثير من العوائق والفراغ التشريعي والعبارات الفضفاضة التي تكتنفها التشريعات المحلية؛ كالسلطة التقديرية المطلقة للقضاة الجزائيين. كما أن إبدال عقوبة الإعدام بغيرها من العقوبات السالبة للحرية لا يتعارض مع فلسفة الحق في العقاب، لأنها فلسفة قائمة بالأساس على أن يكون تطبيقها حائلًا دون الإمعان في الإجرام وتحقيق الردع وعدم العودة لاقتراف الجرائم، وهي الشروط التي لا تتوافر في النظام العقابي الحالي بل على العكس تمامًا، فإن استمرار العمل بعقوبة الإعدام لم يوفر الردع اللازم ليعيش المجتمع في مناخ من السلام والعدالة.
* تم تغيير الأسماء وأماكن الوقائع لعدم انتهاك خصوصية أفرادها
[1] محمود نجيب حسني - علم العقاب - دار النهضة العربية - الطبعة الثانية - ص ٦٢ وما بعدها
[2] قرار المجلس الاقتصادى والاجتماعى رقم 56 لسنة 1984 بشأن قواعد الحماية الدولية المتعلقة بالاشخاص الذين يواجهون الحكم بالاعدام
[3] المادة 17 " يجوز في مواد الجنايات إذا اقتضت أحوال الجريمة المقامة من أجلها الدعوى العمومية رأفة القضاة تبديل العقوبة على الوجه الآتي:
عقوبة الإعدام بعقوبة السجن المؤبد أو المشدد.
عقوبة السجن المؤبد بعقوبة السجن المشدد أو السجن.
عقوبة السجن المشدد بعقوبة السجن أو الحبس الذي لا يجوز أن ينقص عن ستة شهور.
عقوبة السجن بعقوبة الحبس التي لا يجوز أن تنقص عن ثلاثة شهور".