في 2011 كانت هي المرة الأولى التي أستخدم فيها المترو للوصول إلى ميدان التحرير بعد وصولي القاهرة عن طريق القطار، رغم زيارتي القاهرة أو مصر كما نسميها في الزقازيق أكثر من مرة إلا أنها كانت الأولى في حياتي التي أحتاج أن استخدم المترو كوسيلة مواصلات، شرحت لي أختي تفاصيل محددة حتى أصل مقصدي بسهولة، لكنني تفاجأت بعدد المحطات وبأن هناك خطين وكل خط له اتجاهين، ولم تخبرني أختي بذلك ولم تخبرني أيضا بأشياء أخرى..
عند هجرتي إلى القاهرة بشكل نهائي لم أجد المواصلات العامة فكرة مريحة، قد تعودت على المسافات القصيرة في مدينة الزقازيق ولم أشعر ببعد المسافات خلال حياتي إلا عند سفري لخالتي في الجيزة، إلا أني اكتشفت أن أقرب مسافة في القاهرة سوف أقطعها يوميا تساوي أطول مسافة في مسقط رأسي، ولكن لم تكن المسافات هي المعضلة الكبرى في هذه الرحلة.
يعاني سكان الأقاليم من مركزية القاهرة والتي تفرض علينا الانتقال إليها حتى نحصل على حياة أفضل، وتنعكس هذه المركزية على فرص العمل والرواتب وجودة الحياة وظروف المعيشة وكذلك الأفكار التي يتبناها المجتمع في القاهرة، وتحديدا هذه هي الفجوة الأكبر تأثيرا وكأنك فعلا هاجرت من دولة إلى أخرى لأن نمط الحياة نفسه يختلف كثيرا عن الأقاليم.
من المثير للسخرية والتي قد يجدها القارئ بسهولة فيما أقوله الآن عن تقدمية القاهرة عما يحيط بها من أقاليم، فما تراه من تخلف وتدني في بعض الأفكار داخل العاصمة، يتضاعف حجمه في الأرياف والمدن الصغيرة في المحافظات المجاورة، خاصة فيما يتعلق بنمطية الحياة والخروج عن المألوف وانتصار النساء في بعض الأحياء في الحصول على حرية الملبس أحيانا، وكذلك مساحة الحريات التي تنطلق منها كفرد للاختيارات الشخصية في حياتك.
ما أقوله مدعاة للسخرية فعلا، ولكن المقارنة بين القاهرة والأقاليم المجاورة تميل كفتها بكل وضوح لها، بل ستتفاجأ بالكثير من العادات والتقاليد اللاتي مازال يتمسك بها الفلاحون وسكان المدن الإقليمية وقد تخلى عنها بعض سكان أحياء القاهرة، كتزويج الفتيات لأنه المصير الوحيد لها، التدخل في شئون الغير بسهولة بسبب صغر المسافات وتنعدم الفرصة للخروج عن المألوف لأنك ستتهم بسهولة بإن لبسك جن أو معمولك عمل، أو ندهتك "النداهة".
لم تعد مشكلتي الأكبر هي المترو أو المواصلات العامة، لأنك بعد سنوات من العيش في القاهرة ستحفظ بسهولة الطرق وتنال الفرصة حتى تتحرك بسهولة وتعتاد على طول المسافات، لكن تلك الفجوة التي نلمس أثرها كل يوم في مناقشاتنا مع السكان الأصليين للمدينة، لم يصدق منهم أحدا بأن خارج هذه المدينة الصاخبة لا نمتلك إلا سينما واحدة في مدينتي وحتى الآن أفلام معينة فقط التي تعرض هناك، لم نمتلك مقاهي ثقافية تعقد فيها ندوات للمثقفين والأدباء، أو لتبادل الخبرات الثقافية وللحديث عن أبعاد مختلفة فيما نقرأه، لن تتوقع عزيزي القارئ بأن حتى الآن على الرغم من تحول مدينتي الزقازيق إلى فود كورت أو مساحة طعام ضخمة والتطور التي تشهده المدينة إلأا أنها قد نالت حظها من التطوير في الطعام فقط، حيث أننا لا نمتلك إلا مكتبة واحدة فقط مفتوحة للقراء.
تلك المدينة الصغيرة التي عشت فيها عقدين من عمري، لم تتيح لنا أي نافذة صغيرة على طموحات أبعد مما حققه جيراني، ولم نعلم أن العالم خارجها وعلى بعد ساعة ونصف فقط هناك حياة أخرى يتبادل فيها الأفراد المعرفة بشكل حيوي وشبابي وتتقابل فيها النساء للحكي والتدريب لا للطعام، وتشهد تغيرات أسرع وأكبر من نطاق المناطق الريفية والتي قد نستطيع القول بأنها تعيش متأخرة بعقد أو عقدين عننا وكأنها سافرت بالزمن إلى الوراء.
ما أعيشه اليوم بعد هجرتي إلى القاهرة لمدة أطول، قد يدفعني لوصفها بيتي ولكنني مازلت أشعر بالغربة فيها وفي شوارعها وفي وجوه البشر التي تتغير سريعا ويصعب عليك أن تألفها، ومازلت أشعر أني تركت بيتي خلفي وبأن على الرغم من محاولتي لاستيعاض ما فاتني إلا أن مازلت أخاف من تلك المدينة وأشعر بضآلة حجمي فيها.