تحكي الناجيات من العلاقات المؤذية والتي كانت أساسها العنف النفسي، عن تجربة الخروج منها كما الولادة الجديدة، تنتظر في ترقب هل سيعود الخوف من جديد لكن تكتشف أن ما عاشته لن يتكرر مجددا على الأقل الآن، وهي لحظات لا تقدر بثمن على حد قولهن.
في صالون نسائي للحكي، حكت إحداهن عن تجربة الخروج من علاقة مؤذية كانت خالية من الضرب، أو أي مظاهر للعنف واضحة مما جعل مهمة الخروج منها صعبة وليست سهلة كما يظن البعض حين ننفي حدوث عنف بدني، على حد قولها كانت تظن أنها الجاني حتى خرجت من العلاقة فكيف سيبدو حقيقة ما يحدث للآخرين.. خوف وقلق وترقب وتهديد واستغلال وفن قلب الطاولة.. خيانة وكذب وادعاء وتخلي واحتكار صورتها عن نفسها، كل هذا حكته تلك السيدة حول ما عاشته في هذه العلاقة، لكن كان تحت غطاء فضفاض وواسع يحمي الجاني، اسمه التلاعب، جعلها تظن أنها هي الفاعل وأنها من تمارس طول الوقت على الطرف الآخر ما تعيشه هي، حتى تجد نفسها مكبلة بحبال متشابكة تمنعها من الخروج عنوانها الشعور بالذنب.
يشمل أيضا العنف النفسي التعرض للسب أو الشعور بالإهانة، الإذلال أو التقليل من القدر أمام الآخرين. والتهديد والتخويف بطريقة مقصودة مثل الصراخ أو قذف الأشياء.. التهديد بالإيذاء سواء مباشرة أو غير مباشرة أو الرغبة في التحكم والسيطرة على الضحية. ومازال قياس نسبة ضحايا العنف النفسي مهمة صعبة، وذلك لقلة الوعي به أو كما ذكرنا لاعتقاد أغلبية الضحايا بأنهم الجناة، وصعوبة لمس آثار وتبعات هذا النوع من العنف، لذا يصعب على القانون تتبعه وتقييمه إلا في حالات نادرة.
أما المجتمع نفسه مازال يتعامل مع أنواع أخرى من العنف أكثر وضوحا كالضرب والاغتصاب الزوجي، بأنهما من الشرع وتحت راية التأديب والواجبات الزوجية، فما المتوقع حين تحكي ضحية عن إيذاء نفسي مثلا كالمنع والاحتجاز أو التهديد على يد الزوج.. بل يضمن الشريك المؤذي أو المعنف في هذه الحالة حماية مجتمعية حول دوره في تهذيب أو حماية الطرف المجني عليه.
وحين يأتي الحديث عن الدعم بكل أنواعه لا بد أن نذكر أن ما يجعل مهمة الخروج صعبة هو قلة الوعي لدى الضحية نفسها وعدم تعريفها لما تتعرض لها بالعنف أساسا، كما أن تلك السلوكيات صعب إثباتها خاصة وإن تلاعب الشخص المؤذي بضحيته واستطاع إقناعها باستحقاقها ذلك أو تسببها فيه، وهو ما يجعل مهمة الخروج من هذا الجحيم النفسي صعبة ومرهقة نفسيا، قلة الوعي والتلاعب أو gaslighting قد يجعل الضحية لا تثق في شخص آخر غيره، كما قد يضعها بين جلد الذات وشعورها بالذنب تجاهه، وذلك نتيجة الابتزاز العاطفي المستمر المصاحب لهذا النوع من الإيذاء تحديدا.
التلاعب يأتي في صورة جعل الضحية تشعر بالارتباك والشك تجاه ما شعرت به، بل وشعورها بالذنب وهو ما يؤدي إلى شعور الضحية بأنها تبالغ في مشاعرها بسبب فرط حساسيتها. لا تستطيع تحديد موقفها تجاه الأمور بسهولة، تعتذر بشكل مستمر وتبرر سلوكيات غير معتادة، كذلك الخوف من الحديث عما مررت به، التحسس في التعامل مع الشريك خوفا من ردة فعله
كسر دائرة الأذى النفسي لا بد أن تبدأ من الضحية سواء كان بوعيها لما تتعرض له وإدراكها بأنها ضحية حتى تستطيع أن تصف ما تعيشه وتحكيه لتطلب المساعدة، وهي أصعب مرحلة كما ذكرنا، كما أن أحيانا قد يكون مصاحبا لهذا النوع من العنف أنواع أخرى مما يمنعها بشكل مادي عن الخروج، لذا قد تحتاج الضحية لسنوات حتى تتخلص من شبكة عنكبوتية تحتجزها داخل العلاقة لسنوات أحيانا.
"الولادة من جديد".. كل ما سبق يجعل الخروج من هذه العلاقة أشبه بفرصة جديدة للحياة، على الرغم مما قد تعانيه الناجية بعد الخروج من اضطرابات قلق وخوف ونوبات هلع وخطوات متخبطة إثر ما تعرضت له، حيث أن 7 من كل 10 سيدات يعانين من اضطراب ما بعد الصدمة بسبب خروجهن من علاقات مشابهة لما سبق، هذا الاضطراب يجعلها تعاني باستمرار من الفلاش باك أو أصوات تهاجمها من الداخل تركها الشخص المؤذي أو ذكريات سيئة تلاحقها، لذا قد تكون لحظة واحدة في هدوء بعيد عن الضجيج بعيدة عن بوابة الجحيم النفسي الذي استمر لسنوات قد تشعرها وكأنها تولد من جديد.