هدم القديم: حداثة أم تغريب؟

أكتب أم لا أكتب؟ وإن كتبت فلمن أكتب؟ من ينظر للحياة من منظور مادي، رأسمالي، تجاري، لن يُقدر ما نقصده باختصار، لأنه يعرف سعر كل شيء ولكنه لا يعرف قيمة أي شيء، ولهذا إن كنت من هؤلاء لا تضيع وقتك في قراءة هذا المقال لأنك ستخطئ العنوان. لا يفهم ما أقوله رجال الأعمال ولا شركات المقاولات لأنه شيء معنوي لا يلتمسه إلا نبلاء الفكر والقلب.

لا شك أن تراث مصر ملكًا للإنسانية كلها وليس حكرًا على المصريين، ببساطة لأن الانسانية كلها اشتركت في صناعته مع المصريين، وليس من الشرف أن نهدم أشياء من الصعب بل المستحيل أن تعاد من جديد، وان كانت مصر غنية حقًا وأم الدنيا فبسبب «أصالتها»، وكأن كل أمة كانت تعجز عن بناء حضارة في وطنها فتأتي لمصر غازية أو مهاجرة أو لاجئة لتصنع المجد هنا، نعم كنية «أم الأمم» لم تأتِ من فراغ.

الشعب الحي يجب أن يعيش دائمًا على اتصال وجداني بتاريخه، لأن التاريخ قوة هائلة على التنبيه والإحياء، إنه إحياء لليقظة أمام موجات التغريب. لست مؤرخًا ولكنني أعشق التاريخ، فقراءته عندي معايشة له، فتاريخ بلادي توكيد لشخصيتي، والتاريخ الإسلامي توكيد لإيماني، والتاريخ العام توكيد لرفعة الإنسان.

هنا عزيزي القارئ  يجب أن أميز بين مفهومين: التحديث والأصالة. لا شك أن «التحديث» جهد إنساني خلاق كإنشاء مدينة جديدة تواكب العصر ومتطلباته، أما الأصالة كل ما يمتلكه وطن من أيقونات وجواهر خالدة تتعلق بالماضي القريب أو البعيد. التحديث في حد ذاته شيءعظيم ولابد منه فالحياة متغيرة وما كان يصلح لعصر لا يناسب عصر آخر، والأصالة شيء أعظم بمفردها وتفردها وهي انطلقت من منظور الحداثة – القاهرة مثلًا منذ ألف سنة كانت مدينة عصرية- فالزمن كما يغير البشر والطبائع والأدوات يغير المدن. أصبحت القاهرة مزيج بين الأصالة والحداثة والعشوائية، وليس موضوعي الآن شرح حالة القاهرة فهذا يتطلب مجلدًا ضخمًا لوصف الحالة بشكل دقيق،  ولكن ما نفسره أن الوضع في القاهرة أصبح مقلق لحدوث خلط أو سوء فهم أو تقدير بين ما هو عشوائي وما هو تراثي!!

مقابر الإمام الشافعي والسيدة عائشة ليست بعشوائيات ياسادة لنفضل شبكة كباري عليها. قد تقول مصلحة البلاد أهم من الأموات لكن أجيبك:

أولاً مصلحة البلاد أن لا يهدم تراثها، وأن لا نصل تلك المنطقة بكباري وطرق سريعة من الأساس، بل يجب تفريغ على الأقل نصف سكانها الأحياء وهذه هي العشوائية التي تجاهلتها الحكومة وانتقلت إلى الأموات. الجميع يعرف أن مناطق الإمام والسيدة والدويكة والخليفة وما يجاورها سكانيًا مجتمع غير حضاري يعيش في منطقة حضارية، مع انتشار نسبة الجريمة والمخدرات وظاهرة سكنى المقابر موجودة في تلك المنطقة، وإذا كنا في دولة حقيقية لابد أن نواجه المشكلة الحقيقية وهي توفير شقق سكنية أولًا وإيجاد فرص عمل لهم خارج نطاق المنطقة الحضارية، بدلاً من إنشاء كباري ينامون ويتسولون أسفلها وأعلاها فهم لا يمتلكون سيارات ولا حتى ثمن المواصلات.

أما عن قيمة أموات هذه المنطقة فهي تضم مفكرين وساسة وعلماء وفنانين من مصر وخارجها، ولهذا فإن الأموات هنا أقوي وأجود من الأحياء، أقوى بما تركوه لنا فالشعب مدين لهم بالكثير وهو مسير بأمواته أكثر مما بأحيائه. والأموات في القرن بعد القرن هم الذين أوجدوا أفكارنا ومشاعرنا، ولسوء الحظ فإن تلك المنطقة دُفن فيها أعظم مفكرين وفنانين مصر، وإن كان الناس موتى فأهل العلم أحياء، وهذا لم يكن إطلاقًا رد الجميل، فالأموات وحدهم سادة الأحياء بلا جدال، ونحن نحمل وزر خطايا الأموات ونقتطف ثمرة فضائلهم لنهدم في النهاية قبورهم!

أتريد مني أن أقف صامتًا أمام محاولة اغتيال مصريتي ؟ المادية هنا تغلبت على الأصالة، لذلك أقول أن بناء مدينة العالمين الجديدة يعد «حداثة» بينما إنشاء أي عمران على حساب تلك الأحياء القديمة حتى وإن كانت مقابر هذا يسمى«تغريب». أتذكر أنه كان يميز شارع مدرستي الثانوية عقار قديم مختلف مر عليه أكثر من مائتي عام ربما من عصر أسرة محمد علي، كان شامخًا وسط المباني الخرسانية بتفاصيله المميزة، وكانت رؤيته مهدئة للأعصاب كلحن جميل وسط صخب وضجيج العصر، ولكن تفاجئت قريبًا عند مروري من أمامه لم ألاحظ الشارع ولم أعرفه وكأنه مكان مجهول لأول مرة أتعرف عليه، على الرغم من مروري به ثلاثة أعوام!! شعرت بأن شيئًا ثمينًا فقده على الرغم أني لم أمتلكه، ولكن كنت أمتلك الإحساس الذي لم يمتلكه أصحاب القصر. هم ورثوه بعقود لكن لم يعيشوا فيه، وإن عاشوا كان من الصعب عليهم هدمه، من الناحية الاقتصادية هذا شيء مجدي جدًا لملاكه، سيشيد مكانه عمارة تستغل استغلالًا جيدًا، ولكن هذا هو التغريب لم يكن تحديث أبدًا لأنه تعارض مع الأصالة، وهما لا يمكن أن يلتقيان في نفس النقطة، فالتغريب هو عملية تجريد المكان من هويته حتى المسخ، وأخشى على القاهرة من هذا الداء لأنها في خلال نصف قرن فقدت الكثير من مقتنياتها، وما يحدث في الآونة الأخيرة من هدم وتغيير للملامح الأصيلة أشد أثرًا في نتائجة من حريق القاهرة وزلزال 1992، فإن تم تجريد القاهرة من وظيفتها السياسية فلا يمكن أن نجردها من وظيفتها الحضارية، أنا لم أعرف شعبًا يعامل تراثه الذي مازال حيًا بين يديه بهذا الإهمال المفرط!

بعد تناول مفاهيم التحديث والأصالة والتغريب  ماذا عن التقليد؟

أن نهدم شيئًا عظيمًا أو نفقده عمدًا أو قصدًا ونحاول أن نبني مثله فينتج شيء بلا هوية يفقتد لأهم عناصر الأصالة وهي الزمن، سواء كان هذا الأثر بيت أو لوحة أو تمثال أو لحن أو مأذنة أو كتاب أو صوت أو فكرة أو حتي مشربية أو زخرفة أو نقش على معدن نحاس، فلا يمكن أن يكون التقليد بنفس جودة الأصل مهما كان، فلكل عمل فني ظروفه الخاصة النابعة من صدق احساس صانعه، كما تناول هذه الفكرة الكاتب العظيم الذي تحل ذكراه اليوم أسامه أنور عكاشة في عمله الدرامي الخالد «أرابيسك» بخصوص الهوية، ومصير التقليد والدمج هو السقوط لأن كل عمل فني متفرد في عصر ما ولكل عصر روحه وظروفه الخاصه ولا يمكن أن نجمع مظاهر كل العصور في عمل فني واحد.

ومن الأمثلة الحية للتقليد الذي أقصده هنا جامعة القاهرة في أكتوبر. من المعروف أن جامعة القاهرة وقبتها الشهيرة وساعتها المميزة تقع في قلب الجيزة، لكن الفرع الجديد في مدينة أكتوبر أخذ بشكل ساذج أو بمعنى أدق سرق شكل القبة التي تميز الجامعة الأم ونسخها في صحراء أكتوبر، لكن إن سرق الشكل لن يستطيع أن يسرق الجودة والإبداع، وإن سرق الاسم فمن الصعب أن يسرق تاريخ المبنى الأصلي، والمثل الشعبي بيقول «عالأصل دور» و«من فات قديمه تاه».

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة