الجزء الثاني من «رحلتي من الشرق إلى الغرب حرفيًا»

إعادة اكتشاف القبح والجمال… معايير أوروبية أم إنسانية؟                                               

صدمني الصمت. نزلت إلى مطار برلين Berlin Brandenburg Airport في ظهيرة يوم ٢٣ مارس ٢٠٢٣، كان اليوم الأول في شهر رمضان أيضًا.

يوجد حاليًا في برلين عاصمة ألمانيا مطاران يعملان فقط، بعدما تم إغلاق مطار برلين تيغل (Berlin Tegel Airport) – وكان هو المطار الرئيسي السابق لبرلين حتى إغلاقه  في نوفمبر 2020. وبدلًا منه تم افتتاح مطار برلين براندنبورغ (Berlin Brandenburg Airport) – وهو المطار الرئيسي الجديد لبرلين، تم افتتاحه في أكتوبر 2020، ويخدم الرحلات الجوية الوطنية والدولية. كما يوجد مطار برلين شونفيلد (Berlin Schönefeld Airport) – وهو مطار دولي يستخدم بشكل أساسي للرحلات المنخفضة التكلفة والرحلات الجوية إلى الدول الأوروبية.

كان في استقبالي صديق وصديقه من ألمانيا. المطار مزدحم وواسع، يحتل مساحة ١٤٫٧ كم، لا رائحة هنا، لكن رائحة «الحدث المهم» تفوح من جسدي، خلال عمري عهدت تلك الرائحة مرات، خليط بين الحماسة والخوف والترقب، للأسف في أغلب المرات السابقة كان يغلب الآسي على التجارب، تلك المرة مآلي وأمالي أن أحمل وأكنز كل ما أستطيع أن أحمله في جعبتي من تلك الرحلة عبر الزمن، لأستطيع أن أنجو عندما تُظلِم مرة ثانية.

علمتني لحظات القبح أن أحفظ عن ظهر قلب كل لفتة ولحظة وهمسة للجمال، أقتات عليها في أوقات الألم. لأنجو.

اتبعت خطوات الفوج لأول مرة، صامتين لا يصدر عنهم صوتًا. استلمت حقائبي وخرجت نحو البوابة، أحضان وقبلات المستقبلين لأحبائهم كانت دافئة جداً لكنها هادئة أيضًا.

لمست قلبي نسمه بارده تحمل رائحة الشجر. اتخذت نفسًا عميقًا للداخل وقلت لنفسي: «هذا أول نفس لكِ ليس مملوكًا لمصر»، ثم ضحكت من عبث الفكرة واستنكرت فكرتي «وهل يملك الهواء أحد؟»، فلماذا ملكنا الأرض قطعًا وقسمناها وصنعنا حدودًا وفوارق؟

هي السلطة لعنها الله، داء الإنسان البحث عن مساحاته لفرض سيطرته، فإذا كان الكلب يتبول حول منطقته ليعلمها بخط من رائحة بوله النفاذة، فكذلك فعل الإنسان فصنع حدوده وعلمه بالرصاص والحديد والفواصل، وحيناً بالشجر والماء، وحيناً اكتفى بخط فاصل تعبره بقدم واحدة. هي فواصل في كل الأحوال إلا أن نعومتها وتطورها تتناسب عكسيا مع خشونة وبدائية الدولة.

سمعت للمرة الأولى صوت الصمت. وكانت كلمات الشجر والعصافير هي التي تهيمن على أذني، لا ضوضاء، لا ضجيج سيارات، لا أغاني بصوت مرتفع في الطرقات. وانعكس هذا على البشر فكان حديثهم همسًا وتلاقيهم عيون باسمة سريعة في الطرقات.

الهدوء، النظافة، النظام ورغم أن حركتهم سريعة كعادة ساكني المدن الكبرى – وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة في عام 2022، يبلغ عدد سكان برلين حوالي 3.7 مليون نسمة-، مما يجعلها أكبر مدينة في ألمانيا من حيث عدد السكان، إلا أنك تشعر أنهم يملكون الوقت للمتعة والرياضة. يبدو من حديث قصير معهم في المرة الأولى أنهم يعلمون كيف يشعرون بالحياة. نعم أقصد هذا تمامًا. الحياة.

برلين على خلاف أغلب مدن أوروبا تحمل إرثًا ثقيلًا، قرأت قبل أن آتي أنه لا يفضل أن تأتي على ذكر هتلر لأنهم يشعرون بالخزي من هذا الماضي. لكن الواقع مختلف تمامًا، فأغلب من تحدثت معهم لا يتجنبون الحديث عن ماضي برلين على العكس، دومًا تنجرف دفة الحديث نحو التاريخ ومواقعه وحروبه، وبهذا يعترفون بأخطاء أسلافهم ويتحدثون من دون خجل ولا خزي، بل بمزيج من الفخر أنهم انتقلوا من هناك لهنا، رغم أن بعضهم مازال يرى المدينة مليئة بالعيوب والمشاكل ويوجه الاتهامات للحكومة وينتقد بشدة النظام.

ومن المفارقات أن ثاني أيامي في برلين كان هناك دعوات واسعة الصدى للإضراب العام اعتراضًا على سياسات الدولة فيما يخص ارتفاع أسعار الإيجارات والغاز والكهرباء، وكذلك مشاكل متعلقة بحقوق البيئة والأثر السلبي على المناخ.

وفقًا لتقرير نشره موقع «Numbeo» في مارس 2022، فإن متوسط سعر إيجار شقة بغرفة واحدة في وسط المدينة يتراوح بين 750 و 1100 يورو شهريًا، ويمكن العثور على إيجارات أرخص خارج وسط المدينة، في حين أنه وفقًا لتقرير نشره الموقع نفسه في مارس 2022، فإن متوسط دخل الفرد في برلين يتراوح بين 1800 و 2400 يورو شهريًا بعد الضرائب، وهذا يشمل جميع الأعمار والمهن. ومع ذلك، يتفاوت متوسط الدخل بين الأفراد بشكل كبير بناءً على عدة عوامل.

أظن أن أي قادم من مصر خاصة يصدمه في أيامه الأولى في برلين نظافة ونظام الشوارع وكذلك انتشار المساحات الخضراء والورود الملونة – خاصة مع بداية فصل الربيع- تمثل المساحات الخضراء حوالي 34٪ من إجمالي مساحة ألمانيا، تتمثل المساحات الخضراء في ألمانيا في الغابات والحدائق العامة والمساحات الريفية، وتهتم الحكومة الألمانية على حماية هذه المساحات الخضراء وزيادتها من خلال العديد من المبادرات والبرامج البيئية، لأنها تهدف إلى زيادة نسبة المساحات الخضراء إلى 40٪ بحلول عام 2030.

والأمر الثاني الذي تلتقطه عينك فورًا هو النظام المروري السلس، بالطبع هناك تفهم لاختلاف الكثافة السكانية، فلا يوجد مقارنة منطقية بين حوالي 4 مليون ساكن في ألمانيا وأكثر من 11 مليون ساكن في القاهرة، لكن بلا شك تظل الفجوة واضحة في احترام إرشادات المرور والحرص على اتباعها، بالإضافة للانتشار الواسع لأماكن عبور المشاة.

كما أنني ولأول مرة أجد أرصفة طويلة وعريضة أستطيع أن أمشي عليها بأمان من دون خوف من أن يدهسني «موتوسيكل»، وأيضًا بالطبع  حارات العجل وحارات الشجر على الرصيف ذاته، وهي الأمور التي لا يبررها زحام القاهرة إنما يشرحها عدم اهتمام الحكومة بتوفير رفاهيات للمواطن «العادي» الذي لا يحمل على رأسه «كاب» ولا على كتفه نجوم ولا في جيوبه ذهب.

ومن نفس المنطق فإن المواطن العادي يشعر بقيمته في مدينته وبقيمة المدينة، فينعكس سلوكه المنضبط في الحفاظ عليها حبًا واحترامًا لها من دون أن أرى أية شرطي في الطرقات لأيام طويلة، في مشهد يذكرنا بالـ 18 يوم ثورة عندما اختفت الشرطة من شوارعنا واهتممنا بنظافتها ونظام حركة المرور وشعرنا أننا نملكها.

وهي الفكرة نفسها التي تملكتني في أيامي الأولى هنا.. وانسحبت إلى الثورة وذكرياتها، ومنها إلى شهدائنا. أحسدهم أنهم انتهوا ويعصر قلبي حزنًا على أمهاتهم وآبائهم وأخواتهم وأبنائهم، ومنهم إلى الزنازين، وطافت روحي عائدة إلى كل بلاطة زنزانة نمت عليها.. أرى الأجساد المكدسة، رائحة العطن، واللون الرمادي، وطعم الظلم الذي تسبب لي في ورم في جانب حلقي يأتي ويذهب مع الذكرى. كيف أذكرهم إذ لست أنساهم؟!

القبح في بلادنا لا يأتي من أهلها، لسنا همج وليسوا متحضرين، إنما نحن نبحث عن قيمتنا ونحاول أن نجد منفذًا لإشباع حاجاتنا الأساسية، ونحيا في ظروف تجعلنا ما نحن عليه، وهم في ظروف تجعلهم ما هم عليه.

لسنا شياطين وليسوا ملائكة، على الأرض لا يوجد سوى بشر، إلا أن قدرتنا على التكيف ومرونتنا على التقولب في القوالب هي ما تشكلنا. هو القالب الذي نتكدس فيه ومن يحاول أن يخرج ذراع يفقده.

أنتهي ختامًا عند فكرة واحدة جعلتني أنظر للمستقبل بشكل مختلف في نهاية أسبوعي الأول، وهي أن تلك المدينة الهادئة المنظمة وهذا الشعب المستقر المستمتع بإنسانيته قادم من ماضي شديد الظلمة والظلم.. وعبر نحو النور.

1 تعليق

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة