دراويش ولكن!

في رحلة مولانا العارف بالله محيي الدين بن عربي، كانت مربيته فاطمة هي الدليل المرشد له، هي العلامة أو الإشارة التي نبهته لموضع الطريق، وكان شرط هذا:

«طهر قلبك ثم أتبعه، وشرط التطهر تثبيت القلب،

 لماذا؟! لتصبح إنسان.. وكيف يُثَبتْ هذا القلب؟؟

 كما يثبت أي شيء!! إذ كيف تقيم خيمة؟

– أُثبتْ أوتادها ثم أقيمها.

– إذًا إفعل ذلك يا محيي، ابحث عن أوتادك..  تطهر قلبك وتقيم نفسك».

وهذا ما صار، ظل مولانا في رحلته يبحث عن هذه الأوتاد، أربعة أوتاد تقيم القلب من الأربع جهات، وصل للوتد الأول ثم الثاني إلى أن أتم الأربعة، وأصبح العارف بالله محيي الدين بن عربي.

وهنا توقفت لحظة، أتأمل وأفسر معنى هذه الأوتاد، فهي (القوة، الضعف، الحب، البصيرة). كان وتد مولانا الأول هو معلمه الأول من علمه أنه لن يكون إلا أن يصبح قويًا، فاندهش محيي فهو ابن شخصية مهمة بل حاكمة، ويرى قوة أبيه وقوته في عيون كل الناس، فكان الدرس الأول بأن القوة بك وليست لك، القوة في التخلي، القوة أن تعد فتفي، القوة أن تخطئ فتقر، وأن تصيب فتزهد.. فتعلم القوة.

أما وتده الثاني فكان الضعف، وهو الأخ الأكبر لرفيق رحلته أحمد، كان محيي وقتها ذو سيط وله حلقة دروس ومريدين، وكان جليس الملوك والسادة، وشهد طرد ابن رشد ونفيه، وشاهد سخط الخليفة على أبي مدين وعاصر موته، هذان الاسمان تحديدًا لهما عليه وقع الألم والضعف وإحساس بالذنب لعدم تمكنه من الدفاع عنهما أمام الخليفة، فأحس طوال حياته بأنهما ذنبه الذي لا يغفر، إلى أن قابل وتده الثاني في رحلته للحج، بعدما قرر بعد موت ابن رشد أن يترك قصر الخليفة ويذهب إلى الحج عن طريق مصر، وهناك في مصر قابل الخياط، ضعيف مشلول لا يتحدث، فقرر أن يؤجل السفر إلى الحجاز وأن يقيم مع أحمد والخياط لموسم الحج القادم، وخلال تلك السنة شفي الخياط نسبيًا، على الأقل أصبح قادرًا على الكلام، وأصبح لمحيي حلقة درس يومية، لكن فقهاء القاهرة وشوا به للحاكم وسجنه، وكانت كرامة من كرامات الخياط أنه استطاع تحريره وأعلمه بعدها بأنه وتده الثاني.

وكان الدرس الثاني الضعف، وكيف وأنا ضعيف ومسجون ومشرد أي ضعف أكثر من هذا!!

الضعف أن تكون قوي بما يكفي لأن تعترف بهذا الضعف.

أما وتده الثالث فكان الحب، وكان الدرس بأن كل شوق يزول باللقاء لا يعول عليه، والوتد الأخير هو البصيرة، وكان الدرس انظر بقلبك فإن العقل لا يرى أحيانًا.

لماذا أكتب هذا الآن؟ منذ يومين وأنا أفكر ماذا سيحدث في الحوار الوطني؟ هل يبدأ فعلًا في مايو القادم؟ من سيشارك؟ مين سيعتذر؟ وإيه اللي هيحصل؟! وفجأة توقفت عن التفكير وعقلي استحضر ما رويته عن الشيخ محيي الدين بن عربي، استغربت عقلي جدًا وقتها، وقلت لنفسي أنا في إيه ولا إيه؟ بس بعد شوية الفكرة نورت وفهمت، بكل بساطة.

لإقامة أي شيء لابد من أوتاد، ولإقامة هذا الحوار وبدئه لابد من توافر هذه الأوتاد.

القوة: هي قدرتك على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من كل الأطراف، وعلى رأس هذه الاتفاقات الإفراج عن كل سجناء الرأي الذين لم تلوث أيديهم بالدماء، وبالأحرى يملكون خطابًا سياسيًا يساهم في إثراء الحوار الوطني.

ولو حدث هذا بالطبع تكون الثقة قد أسست لتعاون حقيقي بين الحكومة والمعارضة، وهذا يعد بالأساس جزءًا من نجاح الحوار الوطني، بل أهم جزئية في هذا الحوار.

الضعف: هو قدرتك في أن تعترف بالخطأ وتصححه، تُعلن أن هناك إرادة سياسية للإصلاح السياسي والنقاش والحوار مع المعارضة، وتعلن أيضًا عن انفراجة في ملف حقوق الإنسان فيما يخص حرية التعبير على سبيل المثال، أريد أن أذكركم فقط أن الموقع الصحفي الذي كان يرأس تحريره نقيب الصحفيين محجوب، بالإضافة إلى عدة مواقع إخبارية أخرى! إذًا يوجد هنا خطأ يجب تصحيحه بكل بساطة.

الحب: وهنا نستبدل الحب، ليكون الصدق. الصدق في أن تكون أهداف هذا الحوار فعلًا كما أعلن عنها من الدولة والمعارضة، بمعنى أن تكون لدى الدولة إرادة حقيقية للإصلاح السياسي، تترجم في شكل أفعال، وأن تتخلى المعارضة عن المكاسب الشخصية والخلافات غير المفهومة، والأهم من كل هذا أن تكون معارضة حقيقية.

البصيرة: أن تدرك كل الأطراف أننا أمام لحظة فارقة، إذا تم التعامل معها بشفافية وصدق ونية حقيقية من الجميع للإصلاح وإنهاء كل أشكال القمع وكبت الحريات، وإلا فلا جدوى من ألف حوار وطني.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة