كن لك وللآخر (2)

في رحلة الشيخ العلامة الصوفي محي الدين ابن عربي من مراكش إلى مكة عبر القاهرة، كان بصحبته في هذه الرحلة عالم الرياضيات المراكشي أبو بكر الحصار، وكان الحصار مهووسًا بكل ما يخص الرياضيات والهندسة. ظل الحصار طول نصف الطريق يلقن ابن عربي علوم الحساب البسيطة سهلة التعلم، وكان نتيجة هذا أن ابن عربي بعد وقت قصير صار قادرًا على القسمة والضرب وحساب الكسور وجمعها وقسمتها وطرحها بشكل أدهشه هو شخصيًا، وسر به أيضًا، وهنا طالب الحصار بأجرة فسأل ابن عربي: «وماذا تريد من أجر؟»، قال: «أعطني من علمك ما تيسر».

وهنا جاء هذا الحديث بينهما: «أتعلم يا أبي بكر أن هناك ثلاث قوى غيبية، هم الوحي والعقل والقلب، فإذا مال المرء للوحي فقط صار ظاهريًا، وإن مال للعقل فقط صار ماديًا فيلسوفًا». قال الحصار: «وإن مال للقلب؟»، فقال ابن عربي: «صار صوفيًا»، فسأل الحصار: «ألا يمكن أن يميل المرء لهم جميعًا؟!»،  قال ابن عربي: «هنا لابد أن يبني بينهم جسور، فبين الوحي والعقل لابد من جسر التفسير، وبين الوحي والقلب لابد من جسر التأويل، أما بين العقل والقلب فلابد من جسر الحب».

تذكرت اليوم هذا الحديث الذي قرأته في رواية «موت صغير» بين ابن العربي والحصار، وفكرت للحظة ما فائدة علم الحساب لابن عربي؟ وما فائدة الفلسفة الصوفية  للحصار؟

فهذا عالم يؤمن بالأرقام والمساحة والمسافة وما شابه، وهذا شيخ صوفي مهتم بالخلوات والتجليات وما شابه، لماذا إصرار الحصار على تعليم ابن عربي؟ وكيف تقبل ابن عربي هذا الإصرار بمزيد من شغف التعلم؟ ولماذا طالب الحصار بأجرة علم؟ ولماذا وافق ابن عربي وأعطى من علمه أجرًا لما تعلمه؟!

توقفت عند هذه الأسئلة وأكثر، وتملكت الحيرة مني بشكل كامل، وطافت الإجابات في عقلي من اليمين إلى الشمال، ومن الأعلى إلى الأسفل، مرة أخمن أنها مجرد محاولة منهم للتغلب على عبء السفر لأيام وأسابيع وشهور، وأخرى أتسائل إن كان ذلك تفاخرًا من كل منهما بعلمه؟ أم أنه مجرد حدث عابر ليس في باطنه أي شئ؟

رحلة طويلة تستغرق برًا أكثر من شهر، ثم بحرًا شهر أو أكثر، إلى أن يصلوا إلى الإسكندرية، ثم إلى القاهرة، ثم إلى السويس، ثم إلى الحجاز. شهور وشهور سيقضيها ابن عربي مع الحصار، فماذا لو كانت هذه الرحلة هي الحياة ذاتها؟

نعم إنها الحياة ذاتها، قصد الحصار وابن عربي أن الرحلة هي الحياة، وأن الآخر هو أنت، وأنت هو الآخر.

ابن عربي والحصار مثال للاختلاف في كل شيء، عالم يؤمن بالماديات والأرقام والحساب، وشيخ صوفي يؤمن بتجلي الأرواح وتلاقيها في العوالم المختلفة، تلاقيا صدفة في رحلة طويلة كالحياة فماذا هم بفاعلون مع اختلافاتهم هذه؟

تقبل كل منهما الآخر على ما هو عليه من أفكار ومعتقدات، والبداية كانت أن قرر الحصار تقبل الشيخ الصوفي كما هو، بجذبته ودروشته وعوالمه الظاهر منها والباطن، وقرر أيضًا أن يكون بينهما ما هو مشترك، فبدأ حديثه بـ: «أتعلم يا محي أن الكسور والأجزاء من الأرقام يمكن جمعها وطرحها وقسمتها ؟»، فجذب انتباه ابن عربي، وهو للجذب دائمًا مُريد، وزاد شغفه وأصبح هو أيضًا لتعلم الأرقام والحساب مهتم، وتعلم بعد أن قطعوا تقريبًا نصف المسافة كل ما علمه له الحصار، فبعد نصف المسافة فقط أصبح هنالك ما يتفقوا عليه، ولو فقط أن اثنين زائد اثنين يساوي أربعة.

التقط ابن عربي الخيط بعد أن أصر الحصار على أن يأخذ مقابل ما علمه له «علم» مما ينعم الله به على ابن عربي. وصلت الرسالة للشيخ، كشف الله له بصيرته، وعلم أن ما فعله الحصار معه ما هو إلا رسالة من الله، في ظاهرها علم ينتفع به، وفي باطنها محبه ورحمة، فوافق ابن عربي، وأخذ يفكر ما الذي يستطيع أن يقدمه للحصار؟ فكانت الفكرة الأعظم هي الغيبيات الثلاثة، وهنا هي مجاز لا أكثر ولا أقل من وجهة نظري، بمعنى أن الوحي الذي ذكره ابن عربي هو الله، والعقل هو الكون، والقلب هم البشر، فكيف لنا أن نحيا نحن البشر على هذا الكوكب  من دون أن يكون هناك جسورًا بيننا وبين الطبيعة ما خفي منها وما ظهر؟ وكيف يظل الكون قائم بطبيعته من دون جسر بينه وبين الله وما خلق من غيرنا؟ وكيف كل ذلك من دون حب بيننا جميعًا، الله والكون ونحن البشر؟!

علم ابن عربي أن الحصار كان رسالة من الله ليعلمه أن هذه الأرض لا تكون من دون الآخر، وأنه لا حياة على هذه الأرض إلا بنا جميعًا، فقرر أن يزيد من علمه للحصار، وكثف من دروسه له حتى وصلوا للقاهرة، وفي خلال استراحتهم واستعدادهم للسفر إلى الحجاز لآداء فريضة الحج مات الحصار فجأة، في أقل من أربع ساعات أصابته الحمى وفارق الحياة، فعلم ابن عربي أن الله أراد تعليمه درسًا لا يفارق عقله وقلبه إلى أن يأتيه، وبالفعل ظل ابن عربي طيلة ما تبقى من حياتة – وزادت عن 30 عامًا بعد هذه الواقعة-  يعلم كل مريديه وتلاميذه القاعدة الأهم في حياته، وهي أن «تقديس جميع خلق الله تقديسًا لله نفسه»، وأنا أفسرها بطريقتي وأقول: «كن لك وللآخر».

تقبل الآخر ولو اختلف معك في كل أفكارك ومعتقداتك، فتقبُّل الآخر انتصار لإنسانيتنا. تقبل الآخر، كل آخر، تقبل كل شريك لنا على هذه الأرض، تقبل الحيوانات واحترمها، واعلم أننا ليس بمالكيها، وما نحن إلا شركاء لها على هذه المساحة من فضاء الله. تقبل واحترم التراب والرمال والجبال، واعلم جيدًا أنه لولاهم ما كانت هناك حياة من الأساس. تقبل واحترم البحار والأنهار والمحيطات، واعلم جيدًا أنهم إن غضبوا فنت الأرض ومن عليها. تقبل الأشجار والغابات والزهور، واعلم جيدًا انهم مثلنا تمامًا، لهم نفس ما لنا، ولكنهم يقدموا أكثرمما نقدم نحن لهذا الكوكب، فوجب احترامهم وتقديسهم جميعًا.

ما فعله الحصار وابن عربي هو نموذج لتقبل الآخر والرحمة والود، وأيضًا نموذج لحب المعرفة والعلم واستنكار وكره الجهل والتخلف. أشعر الآن أني أنقل دعوة عبر الزمن من أبي بكر الحصار ومولانا محي الدين ابن عربي لنا جميعًا، أسمعهم يقولون لنا: «قدسوا مخلوقات الله جميعًا. اعتزوا بإنسانيتكم وانحازوا لها. تعلموا لآخر يوم في حياتكم. أحبوا المعرفة والعلم. وكونوا لكم وللآخر.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة