الآن أصبحت أعرف!

الحرية وطبقاتها (1)

الأثمان الغالية في الغالب لا ندفعها مقابلًا لأخطائنا. تلك حبكة الروايات المثالية – الرديئة، لكن في الحياة غالبية الأثمان تدفع ثمنًا للشجاعة، للفضول المعرفي، للحرية، للحب. ففي الحياة ندفع الثمن مقابل محاولتنا الحياة.

عشرة أعوام كاملة احترقت في الثورة. هكذا كنت أردد لنفسي وأنا وحيدة في محبسي، بلا شعور مصاحب، أرددها مرارًا في عقلي وتكرارًا في قلبي لعلي أحفظها. أرددها بلا شعور مصاحب، لا حسرة ولا ندم ولا حزن، ربما شيئًا فقط من الدهشة كيف اختلف الزمان وسار؟! خطة بديلة بالكامل عما كنت أفكر فيه وأنا أتغندر في بداية العشرينيات من عمري وقبل الثورة.

في ٢٠١١ كان عمري ٢٠، وكالعادة تمامًا كما كان يحدث وأنا في السجن، كلما رددت في ذهني «٢٠١١ كان عمري ٢٠» تذكرت أغنية منير «امبارح كان عمري عشرين»، فبالأمس فعلًا كان عمري عشرين وعمر الثورة يوم.

شاركت في معارضة نظام مبارك بقلب أخضر وروح بيضاء وجسد يافع منذ ٢٠٠٨ وأنا مراهقة صغيرة ورئيس اتحاد طلاب تقرأ لوائحه وتصدقها وتتابع قناة سبيستون في أوقات فراغها وأيضًا تصدقها، ثم جاءت الطامة الكبرى، فيضان من البشر يهتفون بإسقاط النظام، بعدما كان الأمر لا يتعدى العشرات في وقفة احتجاجية تنتهي بهجمة أمنية واعتقال للبعض وتعذيبهم وإلقائهم في الصحراء بعد ليلة أو أكثر.

كانت بطني تؤلمني ونبضات قلبي تتسارع لكن خطواتي تسير وتهتف، مؤمنة بالحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان. كنت صغيرة وساذجة.. وصادقة.

وانتهت العشرينيات في حبستي وحيدة. انتقلت للثلاثينيات وأنا مقيدة في فراش ممنوعة من النزول إلى الأرض أو دخول المرحاض البلدي من دون مراقب، وممنوعة عن الكتب والكتابة والراديو والحديث.

لكني كنت أملك عقلي يكتب بصوت عالي في رأسي. وأردد ما أكتبه في رأسي مرارًا وفي قلبي تكرارًا لعلي أحفظه. تلك التفاصيل البسيطة وغيرها، تلك اللحظات عرفتني معنى الحرية، ولقد حفظت معناها وإن كنت وقتها ممنوعة من الكلمات. اليوم أملك الكلمة والمعنى.

الحرية ثمنها الدَّم، كان يتردد هذا الهتاف بصوت آلاف الحناجر في فضاء المدينة الواسعة، يذهب صوت البحر ويعود بعبق الحزن القديم في وجوه الأمهات الثكالى في الصف الأول للمسيرة.

لكن لم يكن الدَّم ثمن الحرية، هكذا ربما كان هدير البحر يردد غاضبًا ردًا علينا، فيما لم نكن وقتها نعرف!

أما الآن فقد عرفت أن الثمن أغلى من الدَّم على النفس، وأن الموت رحمة في كثير من الأحوال للنفس، لكن أن تظل حي، تشعر، وترى، وتفهم، ولا تفقد وعيًا ولا عقلًا ولا نفسًا، ولا تملك حتى القدرة على إنهاء وجودها في الحياة، وفي الوقت نفسه تدفع ثمن الحرية، فذلك الثمن أغلى من دَم الجسد في ظني.

الحرية التي كنت أهتف لأجلها وقتها كنت أظنها الحرية التي سأملكها إذا رحل النظام بأدواته، لكني لم أكن أدرك مدى عمق أدواته، ومدى عمق «النظام».

فالنظام الذي كنت أريده أن يرحل هو النظام الأبوي السلطوي، الكابت للحريات السياسية والثقافية والفنية والخاصة، النظام الذي استشرى به الفساد وامتصت عروقه دمائنا حتى صار الفقر قيدًا في كاحلنا – قبل أن أجرب القيد الحقيقي في الكاحل كان هذا التعبير لا يحمل الألم الذي صار يحمله الآن، النظام الذي أشبعنا جهلًا قبل أن ندرك أن هناك ما هو أعمق وأشد بؤسًا، وهو الحرمان من أدوات تملك الثقافة والعلم، وهو أسوأ من نشر أبواق الجهل ومحاربة أصوات الثقافة.

دارت الأيام وامتلكتنا الثورة التي حاولنا صناعتها فصنعتنا، دارت وعجنتنا وغيرتنا وعرفنا الثمن، وأن للحرية مستويات معاني وأشياء وأدوات، وأن التحرر من النظام السلطوي الأبوي ليس في إزالة رأس النظام فحسب – وإن كانت خطوة ضرورية – إنما بإزالة عدة طبقات واحدة بعد الأخرى حتى تنكشف الحرية.

فعن الحريات وطبقاتها وإزالة قشور الأنظمة السلطوية.. أتحدث.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة