ضد اللاجئين.. متى بدأ خطاب الكراهية في “بلد الغريب”؟

مع دقات السادسة صباحًا، استيقظت “آمنة” التي مدت يدها سريعًا إلى المنبه لتطفئه قبل أن يوقظ كل من في الغرفة. تحركت بخفة بين أطفالها الخمسة متجهة إلى أكبرهم، مدت يديها، سحبت “عمر” و”أحمد” من بين البقية، ورافقتهما لإعدادهما للمدرسة في عجالة. ارتدت ثوبها المزركش المميز، وأمسكت بالطفلين منطلقين سريعًا إلى الشارع الهادئ نسبيًا في هذه الساعة المبكرة.

أثناء سيرها مرت بمجموعة من الصبية يقودون “توكتوك” بمحاذاتها. “يازولة.. محروقااااه.. شبه كيس الزبالة يا أسود”؛ بدأ الصبية بسيل من عبارات التنمر والسباب التي انهالت على الأم، التي آثرت ألا تلتفت إليهم وسارعت خطوات طفليها مبتعدة، بينما أخذ الصبية دورة كاملة حولها بالتوكتوك قبل أن يلقوا عليها أكياس صغيرة من القمامة، تلقى رأسها إحداها وظهرها ووجهها بعضها الآخر، وبدأت تصرخ في وجههم اعتراضًا، لكنهم أصروا على استكمال اعتراض طريقها بالتوكتوك الذي ترجلوا وبدأوا يكيلوا لها الضربات والصفعات والشتائم.

كانت الأم منشغلة بحماية صغيريها المرعوبين، وانهار الوضع تمامًا بعدما حاول أحد صبية التوكتوك شد “الثوب السوداني” الذي ترتديه. “ورينا لابسين إيه تحت الخرقه دي يا… ولا مبتلبسوش حاجة؟”؛ قال أحدهم خلال موجة العنف التي استمرت لعدة دقائق حتى بدأ المارة في التدخل وانطلق صبية “التوكتوك” هاربين، وجلست “آمنة” على رصيف قريب من المدرسة تبكي بألم بينما كانت تحتضن أطفالها المنهارين.

أن تكون من اللاجئين.. هربًا من الموت

نزحت “آمنة” إلى مصر مع 5 من أبنائها، أكبرهم كان يبلغ 10 سنوات، بعد هروبهم الصعب من قوات “الدعم السريع” في العاصمة الخرطوم، حيث أُحرق منزلهم وقتل الزوج والأخوين.

رحلة طويلة وشاقة كان على “آمنة” خوضها وحيدة بصغارها في السودان وفي مصر أخيرًا، حتى تمكنت من اتخاذ منزل متهالك بغرفة نوم واحدة وصالة اقتسم المطبخ قطاعًا كبيرًا منها في منطقة عين شمس (شمالي شرق العاصمة القاهرة).

في ظل هذه الظروف العصيبة بشق الأنفس تمكنت “آمنة” من إلحاق اثنين من الأبناء بمدرسة قريبة من المنزل الجديد. “توفيرًا للنفقات أستيقظ كل صباح واصطحبهما سيرًا على الأقدام إلى المدرسة. ليس لدي من المال ما يكفي لأكثر من ذلك”؛ تقول في حديثها لمنصة “فكر تاني”.

مصر واللاجئين.. بلد الغريب

تحظى مصر بتاريخ طويل ومكانة منفردة في الترحيب بالوافدين وتوفير الملاذ للاجئين، فموقعها على مفترق الطرق بين أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا سهل أن تكون وجهة للعديد من المجتمعات المتنوعة، سواءً كان لأغراض تجارية أو ثقافية أو بسبب الحروب.

خلال القرن التاسع عشر سمحت مصر للأجانب من خلفيات متنوعة بالاستقرار فيها وبدأت مجتمعات تجارية أجنبية كبيرة وثرية في التطور، منهم اليوغوسلاف واليونانيين والإيطاليين والأرمن والروس واليهود ودول شمال أفريقيا، وكان نمو هذه المجموعات مدفوعًا بالأهمية الاستراتيجية لقناة السويس.

مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كانت الحروب والصراعات هي سبب تضاعف أعداد اللاجئين في مصر، الحروب اليونانية التركية في 1897 و1919؛ والإبادة الجماعية للأرمن على يد العثمانيين عام 1915، والحرب العالمية الأولى1914 والثورات الروسية عام 1917، وما تلاها من حرب أهلية، ومع الإجلاء الجماعي والتهجير القسري والطرد والترحيل والإبادة لملايين الأشخاص في معظم البلدان المشاركة في الحروب العالمية، فتحت مصر ذراعيها واستقبلت أعدادًا مهولة من اللاجئين وقدمت لهم المأوى وحق اللجوء السياسي بناءً على التزام البلاد عام 1917 بمنح الأجانب حق اللجوء السياسي، كما نسقت مع الحكومات الأجنبية لتوفير الحماية لهم، وأنشأت منظمات إغاثة من شأنها أن تتحول إلى وكالات جديدة تعمل على توفير المساعدة والحماية على المدى الطويل اللاجئين.

“كنا كتير أوي آلاف، قالولنا هانعيش في مصر في أمان وهناخد جنسية مصرية، جيت مع بابا وماما والعيلة على اسكندرية، بابا فتح دكانة يبيع جبنة وسجق وحاجات تلاجة..عارفة الجبنة التركي؟ احنا اللي جايبينو معانا.. الناس في مصر زمان كانوا كلهم صحابنا، كلهم ساعدونا وفتحوا بيوتهم وكنا ناكل مع بعض، خلاص حبينا مصر وبنينا في مصر وحياتنا وتجارتنا في مصر..احنا مصريين أوي والناس كانت حلوة أوي” الجدة “آن” أرمينية الأصل في حديثها مع “فكر تاني”.

هذا التنوع الثقافي الذي اجتاح مصر ترك أثرًا ونقلة حضارية وثقافية وتجارية وفنية كبيرة في مصر، وخاصة في المدن التي استقبلت هذه الأعداد الهائلة من الجنسيات المختلفة مثل القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، فنجد محال الأحذية الجلدية والذهب والساعات ومحال بقالة وصيدليات موجودة بأسماء أصحابها “الخواجات” حتى هذه اللحظة.

“الأرمن حضروا لمصر وقت مذابح الأرمن منتصف 1914، اتقتل منهم أكتر من مليون شخص ووجد من تبقى منهم الآمان في مصر وعملوا بالصاغة وصناعة الساعات، وانسجموا مع المجتمع بسهولة، وانصهروا في نسيج هذا الشعب”؛ قالت نورا جمال مخرجة فيلم “أرمنلي” الحاصل على جائزة الجمهور بمهرجان يوسف شاهين في دورته الثامنة، في حديثها لمنصة “فكر تاني”.

ولم يتوقف الأمر في تعاطي المصريون مع اللائجين عند حد ما ترويه المخرجة نورا جمال، إذ إلى جانب تقديم المساعدة العملية لهؤلاء المستغيثين بالمصريين، لعبت مصر دورًا رئيسيًا في الجهود الدولية لحماية حقوق اللاجئين، والمساعدة في صياغة اتفاقية عام 1933 المتعلقة باللاجئين الدوليين، والتي كانت خطوة تاريخية نحو المعاهدات الدولية الكاملة اليوم بشأن حماية اللاجئين.

في الفرق بين اللاجئ والمهاجر والنازح

هناك خلط عند الناس بين مصطلحات اللاجئ والمهاجر والنازح، إذ أصبح من الشائع استخدام كلمتي “لاجئ ومهاجر” بشكل تبادلي في وسائل الإعلام والنقاشات العامة، ولكن بالإضافة للفارق القانوني بين المصطلحين، هذا الخلط قد يسبب مشكلات تتعلق بأمن وسلامة اللاجئين.

ولا يوجد تعريف موحد شامل متعارف عليه دوليًا “للمهاجر”، ولكن إن أردنا التبسيط وإيضاح الفروقات، فإن المهاجر هو من اختار طوعًا أن يعبر حدود بلده إلى بلد آخر بحثًا عن فرص اقتصادية أفضل، بلا وجود أي خطر يهدد أمنه إذا عاد إلى بلده الأم.

أما اللاجئ فهو من فر أو أُجبر على الخروج من منزله وترك بلده خوفًا على حياته بسبب تعرضه للاضطهاد -بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لفئة مجتمعية معينة- أو بسبب الحرب أو العنف أو ظروف أخرى مخلة بالأمن.

ويتشابه النازح مع اللاجئ إلى حد كبير، فغالبًا ما يفر النازحون من بيوتهم بسبب نزاعات مسلحة واعتداءات على حقوق الإنسان وكوارث طبيعية، لكنهم يختلفون عن اللاجئين بأنهم لم يجبروا على عبور الحدود الدولية طلباً للجوء وبالتالي فهم في حماية حكومة بلدهم، كما أن النازح أيضًا يمكن أن يكون انتقاله اختيار شخصي.

وحتى اليوم، وطبقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، هناك ما لا يقل عن مائة مليون شخص في جميع أنحاء العالم أجبروا على الفرار من ديارهم بسبب الحروب والنزاعات المسلحة والفقر وأزمة الغذاء والاضطهاد بسبب عرقهم أو دينهم أو جنسيتهم أو هويتهم الجندرية، فلم تعد بيوتهم تشكل ملاذاً آمناً لهم كما لم تعد حكوماتهم توفر لهم الحماية، وهو أعلى عدد من النازحين واللاجئين يسجل منذ الحرب العالمية الثانية.

اللاجؤون في اتفاقية 1951

في عام 1948 احتوت مصر آلاف اللاجئين الفلسطينيين الهاربين من الصراع الإسرائيلي وكان هذا قبل انشاء المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 1950، والتوقيع على اتفاقية 1951 حيث أرست الجمعية العامة للأمم المتحدة مجموعة من القوانين والاتفاقيات والمبادئ التوجيهية لحماية اللاجئين وقع عليها 139 دولة من بينهم مصر.

وتوضح الاتفاقية تعريف اللاجئ وما هو نوع الحماية القانونية التي يحتاجها وغير ذلك من المساعدات والحقوق الاجتماعية التي يجب أن يحصل عليها من الأطراف الوطنية الموقعة على هذه الوثيقة.

كما تحدد التزامات اللاجئ تجاه الحكومات المضيفة. وفي عام 1991، تمت ترقية مكتب المفوضية في القاهرة إلى المكتب الإقليمي للشرق الأوسط ليتولى المسؤولية عن إدارة اللاجئين في المنطقة بأكملها، ومسؤولية الاتصال بجامعة الدول العربية فيما يتعلق بسياسة اللاجئين في العالم العربي.

كذلك سهلت الحكومة المصرية على اللاجيء أن يمارس حياته بشكل آدمي، فغير الحق في السكن في أي مكان يختاره، منحت وزارة الصحة المصرية اللاجئين وطالبي اللجوء حق الحصول على خدمات صحية عامة وخدمات غرف الطوارئ تمامًا كالمصريين، كما سمحت وزارة التربية والتعليم المصرية ووزارة التعليم العالي للطلاب السوريين والسودانيين واليمنيين من الالتحاق بالمدارس والجامعات، كما دعمت الدولة توفير سبل عيش للاجئين بدعم مشروعاتهم الصغيرة وتسهيل ممارسة أعمالهم التجارية.

فكيف تحول الأمر الآن إلى شيوع خطاب الكراهية؟

ملف اللاجئين وما تغير في تركيبة المصريين

يرى نور خليل، المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين في مصر، إن الحديث عن أسباب خطاب الكراهية ضد المهاجرين/ات و اللاجئين/ات على أساس الجنسية أو اللون أو العرق في مصر حاليًا لا يمكن فصله عن انتشار خطاب الكراهية وتكريسه على مدار سنوات وبشكل عام.

ويضيف “خليل”، في حديثه لمنصة “فكر تاني”، أن هذه الكراهية تمت تغذيتها ضد فئات أخرى في المجتمع مثل النساء أو المسيحيين وغيرهم من فئات المجتمع، وأنا هذا الأمر يرجع بشكل أساسي إلى انخفاض الثقافة والوعي بأهمية الاختلاف والتنوع وشيوع الصوت والرأي والفئة الواحدة في المجتمع.

في دراسة ميدانية بعنوان “محددات وعي الشباب المصري بمفهوم خطاب الكراهية واستراتيجياته بوسائل الإعلام الرقمية”، تعرف الدكتورة هبة محمد شفيق، أستاذة بقسم علوم الاتصال والإعلام بكلية الآداب جامعة عين شمس، خطاب الكراهية بأنه “أي خطاب يحرض على العنف، التمييز، العدوانية نحو أفراد، جماعات، مجتمعات، دول، أو أي محاولة لإثارة مشاعر الكراهية نحو الآخر بشكل ضمني أو غير ضمني”.

وتوضح “شفيق” أن منتج خطاب الكراهية يسعى حثيثًا للتأثير في وعي المتلقين، حيث يمثل الوعي جملة من الأفكار والمعتقدات والقناعات التي من شأنها أن تترجم في مرحلة متقدم إلى أحد أنماط السلوك. وتقول إن الفئة المستهدفة من منتجي خطاب الكراهية بشكل أساسي هم الشباب، الذين يسهل استقطابهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والتلاعب والتأثير في المبادئ الراسخة بعقولهم، من أجل تحويلهم لأداة يسهل تطويعها لخدمة مصالح أفراد أو جماعات.

السياسة واللاجئين.. السوريون مثالًا

في منتصف 2013، قال الرئيس الراحل محمد مرسي عبارته الشهيرة “لبيكِ يا سوريا”. حينها، اكتسب دعم وموالاة الشعب السوري -الذي يتبع في الأساس النهج السلفي. وعقب انتهاء حكم الإخوان، أدخل البعض السوريين إلى ساحة منازلاتهم السياسية، وتم الربط خطأ بينهم وبين الجماعة التي ثار المصريون عليها، وهو ما ارتد بطبيعة الحال إلى وضع اللاجئين منهم في مصر، وقد تمت تغذية الكراهية بقوة من قبل بعض الإعلاميين.

“بالأول ما كانت تعمل شي لا خير ولا شر، بعد هيك عرفنا إنها تحاول تقلعنا من البيت بأي طريقة، وما بيفوت يوم إلا وهي تتحركش فينا وتسكر الباب بوجنا”؛ تقول إحدى السيدات السوريات عن جارتها المصرية، التي لم تخف كراهيتها لها.

الأزمة الاقتصادية واللاجئين

يصدّق أمجد عزت، الباحث في التاريخ المصري، أيضًا أن التحول في قبول المصريين للاجئين بدأ مع العام 2013، حيث تزايدت تدفقات الهاربين من الصراعات في الدول المجاورة، ما أدى إلى ظهور “جيتوهات” -تجمع عرقي أو ديني واحد- وهو أمر منع اندماجهم بشكل صحيح داخل المجتمع، ويسر تفاقم الوضع بينهم وبين السكان المحليين مع أي مناوشة أو تصرف خاطئ.

ويوضح “عزت” أن نجاح السوريين في استغلال الفرص الاقتصادية في مصر بشكل لافت كان عاملًا مساعدًا في إثارة الحساسية الاجتماعية ضدهم، وهم من هذه الوجهة مختلفين عن السودانيين، المتواجدين في مصر بأموالهم.

وبينما لا ينكر “خليل” حساسية وضع اللاجئين في بلد يعاني في الأساس أزمة اقتصادية طاحنة، فإنه يشير في الوقت نفسه إلى مغذيات هذه الحالة من الكراهية بالتحريض في وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام والسينما. وفي بعض خطابات المسؤولين التي تحمل معلومات مغلوطة وتمثل تضليلًا للجمهور.

على من تقع مسؤولية مواجهة خطاب الكراهية؟

“قولًا واحدًا؛ مسؤولية مواجهة خطاب الكراهية تقع على عاتق الجميع، وعلى رأسهم المشرع المصري الذي يفترض عليه أن يحدد ويعرف خطاب الكراهية وكيفية مواجهته ومواجهة تأثيره من الناحية القانونية، وأيضًا كيفية حماية ضحاياه ودعمهم”؛ يقول “خليل”، الذي يحمل مؤسسات الدولة التنفيذية أيضًا مسؤوليتها سواء على مستوى مؤسساتها التعليمية أو الثقافية.

كذلك، يؤكد “خليل” على ضرورة عودة الصحافة والإعلام إلى دورهما التوعوي في نقل الصورة والمعلومات الحقيقية. بينما يحمل المجتمع ككل مسؤولية رفض خطاب الكراهية الذي يعزل المصريين عن هويتهم الحقيقة كأحد أكثر شعوب العالم ترحيبًا بضيوفهم.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة