محمد صلاح
ظل سؤال "من يكتب التاريخ؟" يتم طرحه داخل أروقة الكُتاب والمؤرخين، خلال عصور التاريخ المختلفة، الغريب أن التاريخ ظل يكتب قبل وأثناء وبعد صياغة السؤال الشهير، دون الإجابة عنه، ودون توقف التاريخ عن التسجيل والتدوين
كما ظلت الإجابة الأشهر على السؤال، "المنتصر يكتب التاريخ" وظلت تتربع على العرش طوال أعوام وأعوام باعتبارها الإجابة الأشهر والأكثر تداولا، والأهم من ذلك أنها الإجابة التي دللت عليها أغلب كتب التاريخ، بحكم أن التاريخ من وجهة النظر الأكثر انتشارا، يعتمد في أساسه على الوثيقة التاريخية، الوثيقة التي يستطيع أن يتحكم المنتصر فيها بسهولة، عبر الإصدار والتعديل والاخفاء، فالوثائق التاريخية، مستندات سهلة التزوير، وهو ما جرى بالفعل على مدار حركة التاريخ، من احراق للدواوين والمكتبات وتمويل كتب ومدارس، بهدف ترسيخ رواية تاريخية تدعم وجهة نظر المنتصر وتثبت سرديته للأحداث، عبر وثائق سوف تتحول بمرور الزمن الى تاريخ
بعيدا عن التعريفات والمفاهيم المختلفة للتاريخ، فان المنتصر بالفعل هو أقرب لتدوين التاريخ بمفهومه العلمي، عبر قدرته على توثيق سرديته من خلال مخطوطات وكتب ووثائق، وقدرته على تدمير بدائلها عند المنهزمون
ولكن بالنظر الى التاريخ الشعبي غير المدون، فان الحكايات والأغاني وحتى الأساطير، وحدها خارج سيطرة المنتصرون، فرغم سيطرة المنتصرون على التاريخ المدون، الا أن التاريخ الشعبي دائما ما يميل للتعاطف مع الهزيمة، يصنع أبطاله ورموزه، يسهب في سرد محاسنهم ويتغافل عن عيوبهم بالكلية، ربما يكون التاريخ الشعبي أقل عقلانية ومنطقية، ولكنه أقرب للقلوب
فالتاريخ الشعبي يجعل من كل متلقي مؤرخ، ومن كل راوي مصدر ووثيقة، فكل حكاية شعبية يجري تداولها، تحمل في طياتها ركام من الثقافة والزمن وفيض من المشاعر المتغيرة على مر العصور، فقد ظلت السير الشعبية والنوادر والحكايات والأشعار، هي زاد التاريخ، كما أن الأمثال الشعبية هي لب العرف والتقاليد
الذاكرة الشعبية من الطبيعي ألا تكون بقدر الدقة من ذاكرة الكتب والسجلات، لكنها عصية على التزوير والتلاعب، فتغيير المكتوب أسهل كثيرا من انتزاع أفكار ومشاعر ومعتقدات تحملها الشعوب في عقولها ونفوسها، يخفونها أحيانا ويعلنوها كثيرا، ورغم عدم امتلاكهم القدرة على طباعتها في السجلات، الا أن تكرار الرواية يبقيها محفورة في وجدانهم
شعوبنا ملت من تاريخ الانتصارات والإنجازات، تعبت من تاريخ الفتوحات والأمجاد، لقد أصبح السرد التاريخي من وجهة نظر المنتصرون عندنا، موضع سخرية من الأجيال الأكثر انفتاحا على العالم، من يجدون عبر وسائط أخرى أكثر تطورا، بديلا أكثر سرعة وقبولا للتاريخ الرسمي
هناك نظرة مختلفة للماضي، فان فشل المنتصرون في الكتب من الحكام الحاليين، يدفع بالأجيال الجديدة الى البحث عن المهزومين، الاستغراق في سير المنسيين والمستضعفين، إعادة البحث في الذاكرة عن مواضع التزوير والحجب والالتفاف، إيجاد مصادر أخرى ترى الأحداث من وجهة نظر مغايرة
فالمنتصرون رغم امتلاكهم للوثائق الا أن أعمارهم أيا كانت، فلا تقارن بأعمار الشعوب، وما يمكن تزويره اليوم سيجري تصحيحه غدا، وان فرغت السجلات والوثائق – وهو ما لن يحدث – الا أن الذاكرة الشعبية ستظل حية وزاخرة بالحكاوي والبطولات
ولا يجب أن ننسى أن في بعض الهزيمة حياة، وأن التاريخ انتصر كثيرا لمنهزمين بل وجعلهم روادا وأبطالا، فالمسيح بعد أن ذاق مرارة الهزيمة وتجرع الألآم جعل منه التاريخ الشعبي إلها ومخلصا، وصارت حكايته دينا يدين به البلايين، كما انهزم الحسين وانفرط أصحابه، فأصبحت حكايته مذهبا يتبعه الملايين
نحن جيل مهزوم، وربما لم تغادر مرارة الهزيمة حلوقنا بعد، ولكننا بلا ريب أبرع الحكائين