الإصلاح الديني في أوروبا

معاذ الشرقاوي 

لقد كان من تبعات حركة النهضة العلمية التي شهدتها أوروبا في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي؛ التي انتفض فيها العقل الأوروبي على ممارسات العصور الوسطى؛ أن بدأوا في تحقيق مبدأ الاهتمام بالفرد، الذي كان مطية النسيان طوال فترة العصور الوسطى في أوروبا، وأخذ الأوربيون في  تحقيق الانتصارات العلمية الواحدة تلو الأخرى، والتي كان من نواتجها بداية الرحلات الكشفية الجغرافية واكتشاف العالم، تلك النقلة التي فتحت العقل الأوروبي على عوالم أخرى وثقافات متنوعة شكلت في مجملها ما يعرف بتحرر العقل الأوروبي.

شكلت العصور الوسطى في أوروبا حلقة سوداء للمواطن الأوروبي الذي كان واقعًا تحت نير قوانين إقطاعية وسيطرة كنسية، جعلت منه دمية يتم تحريكها والتحكم فيها بواسطة طبقات أعلى منه استأثرت لنفسها الجاه والثروة وتركته كأثاث للأرض، ينقل من إقطاعي إلى غيره كما تنقل الأرض، كما تحكمت الكنيسة ورجالها في مقدرات هذا المواطن طوال تلك الفترة، وفرضت عليه حالة من العزلة عن التقدم العلمي والحضارى الذي وصلت إليه شعوب أخرى وحضارات معاصرة لهم.

غير أنه في نهايات القرن الثالث عشر الميلادي، بدأت ممالك جنوب إيطاليا، بيزا، جنوا، والبندقية، تعمل بالتجارة بين الشرق والغرب، ولا شك أن الحركة التجارية يواكبها حركة امتزاج حضاري، فبدأوا في نقل الكتب والمخطوطات العلمية من مكاتب الشرق، وتأسيس مكاتب في بلادهم، حتى وصل الحال بالأسر النبيلة أن تقاس درجة مكانتها بما تمتلك من كتب ومخطوطات، هذا إضافة أن الحركة التجارية أحدثت طفرة في رأس المال، فبدأت الشعوب الأوروبية تتخلص شيئًا فشيء من الهيمنة الإقطاعية، حتى انهار ذلك النظام، ومن السيطرة العلمية الكهنوتية، ودرجوا دروب المعرفة في الفلسفة والمنطق والكيمياء والطب والرياضيات، تلك العلوم التي كانت تحرم الكنيسة دراستها في السابق.

لقد نتج عن هذه الروح العلمية ظهور روح النقد والنظر العقلي؛ تلك الروح التي اختلفت بين أهالي الجنوب الأوروبي عن شمالها، ففي الوقت الذي نظر فيه أهل الجنوب إليها أنها تعني التبذل ونبذ التقاليد الدينية والآداب العامة، نجد أن أهل الشمال الأوربي لم يستهويهم ما وصل إليه أهل الجنوب، بل تمسكوا بأهداب الدين ودرسوا الفلسفة والكتب الدينية الأولى، ومن هنا وصلوا إلى حقيقة الديانة المسيحية ومبادئها، ومن هنا بدأ ظهور الحركات الدينية في الشمال التي تطالب بضرورة الإصلاح الديني.

كانت الكنيسة والبابوات يشكلون معضلة في عقل المواطن الأوروبي، ولقد كان من سمات عصر النهضة نبذ كل ما هو رجعي، ومع انتشار الحركة العلمية والتطور الاجتماعي والسياسي عن العصور الوسطى، بدأ المواطن الأوروبي ينظر بعين مجردة إلى ممارسات البابوية ورجال الدين، كانت بابوية روما قد فقدت الكثير من نفوذها منذ القرن الربع عشر الميلادي، نتيجة للأسر البابوي والانشقاقات الدينية، الذي نتج عنه قيام ثلاثة بابوات في وقت واحد في مدن أفنيون، روما، وبيزا، ووصل حد الصراع والتنافس بين البابوات الثلاثة إلى أن أصدر كل منهم ضد الآخر قرار حرمان كنسي، فاهتزت صورة البابا اللامعة في نظر العالم الأوروبي، وانشق العالم المسيحي على الكنيسة إلى قسمين: قسم ابتعد عن الكنيسة إلى حياة مثمرة، وقسم عكف على الدراسة الدينية الجادة للوقوف على فساد الكنيسة، ومن هؤلاء الإنجليزي حنا ويكلف والتشيكي حنا هتسي، اللذان ذاع صيتهما ولقيت آرائهما ترحيبًا لدى الشعوب الأوروبية، فبدأت صورة الكنيسة تهتز في أعين المسيحيين، وأقر الجميع بأن الكنيسة الأوروبية في حاجة إلى الإصلاح، خاصة بعد أن حول البابوات الكنيسة إلى دولة علمانية، استخدموا فيها كافة الوسائل في التآمر والغدر والاغتيال وإثارة الحروب لتحقيق أغراض سياسية. 

ونتيجة لهذا الفساد ظهر اتجاهان لإصلاح الكنيسة، أحدهما نادى بضرورة الإصلاح من الداخل، وكان يتزعمه أرزمس، وقوام دعواه أن يقوم رجال الكنيسة أنفسهم بإصلاح الكنيسة من المفاسد التي لوثتها، والاتجاه الآخر نادى بإصلاح الكنيسة على يد رجال من خارجها، وكان على رأس هذا الاتجاه رجل الدين الألماني مارتن لوثر ، الذي خرج بحركة احتجاجية على ممارسات البابوية في روما ورجال الدين، نتج عنها ظهور مذهب كنسي جديد، حركته وأسبابها وأحداثها وما نتج عنها هو موضوع مقالنا القادم.. انتظرونا

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة