السجن الإسرائيلي ليس مجرد مكان للاحتجاز، بل بنية مادية مُصممة هندسيًا للإخضاع. هنا، يتحول الجدار إلى خطاب صامت لتوليد القهر والسيطرة، وتتقاطع العمارة مع السياسة ليصبح الحديد والخرسانة جزءًا من منظومة لا تكتفي بحبس الجسد، وإنما تسعى إلى إعادة تشكيل وعي الأسير وتحطيم إنسانيته.
الهندسة المعنية في هذا البناء ليست محايدة على الإطلاق؛ إنها سلطوية توظف المساحة والضوء والهواء والحرارة كأدوات عقاب وتطويع ضد الإرادة المقاومة.
النقب نموذجًا لـ”الهندسة العقابية”

يتجلى هذا المفهوم بأبشع صوره في تصميم مجمع سجون النقب الصحراوي (كتسيعوت)، الذي يُعتبر نموذجًا صارخًا لما يُعرف بـ”الهندسة العقابية”.
هذا السجن، الواقع في صحراء النقب جنوبي فلسطين المحتلة قرب الحدود المصرية، لم يُختر موقعه صدفة؛ فالعزلة الجغرافية القاسية تُستخدم كجزء من سياسة العقاب الممنهج.
يضم هذا المجمع آلاف الأسرى الفلسطينيين، وهو أحد أكبر السجون الإسرائيلية كثافةً، حتى أُطلق عليه لقبان يكشفان حقيقته: “مقبرة الأحياء” و”جوانتانامو الإسرائيلي”، كما يصفه الأسيران المحرران محمد زواهرة وإسماعيل حمدان، في حديثهما لـ فَكّر تاني، لأنه يجسد العقاب الجماعي والإذلال اليومي في كل تفاصيله.
“ريمون” حيث التفاصيل أدوات تعذيب
داخل هذا المجمع الصحراوي، يبرز سجن “ريمون” باعتباره الأكثر عزلة وقسوة، حيث تصل “الهندسة العقابية” إلى أدق تفاصيلها وتتحول إلى منظومة قهر يومية.
السجن مُقسم إلى “مربعات” أمنية، كل مربع يضم عشرات الخيام أو الزنازين، وهو تصميم لا يهدف فقط إلى العزل، بل إلى تكريس شعور الضياع والانقطاع التام عن أي امتداد إنساني.

هنا، داخل هذه الزنازين، تصبح كل تفصيلة معمارية سلاحًا موجّهًا ضد الأسير:
– المساحة: الزنازين ضيقة بشكل خانق، لا تتجاوز أمتارًا معدودة، وتُكتظ عمدًا بأكثر من عشرة أسرى أحيانًا، ليتحول الحيز الشخصي إلى رفاهية مستحيلة، ويصبح الاحتكاك الجسدي الدائم مصدرًا للتوتر المستمر.
– الهواء: التهوية محدودة ومصممة بعناية لتكون شبه منعدمة. لا يتعلق الأمر بالإهمال، بل هو قرار هندسي يجعل الهواء نفسه عنصرًا من عناصر العقاب، فيتحول التنفس من فعلٍ للحياة إلى صراع يومي من أجلها.
– الضوء: الإضاءة إما خافتة بشكل يرهق البصر ويدخل النفس في كآبة دائمة، أو مفرطة وموجهة بشكل مؤذٍ لا ينقطع ليلًا أو نهارًا، بهدف تفكيك الإحساس بالزمن وتعطيل الساعة البيولوجية للأسير، وسلبه القدرة على التمييز بين يومه وأمسه.
– المادة: الأرضيات خشنة، والجدران إسمنتية باردة، لا تعكس سوى البرودة على الجسد، وتساهم بشكل مباشر في نشر الأمراض الروماتيزمية والاضطرابات الصحية والنفسية.
القهر الواصل بين النفس والجسد
والقهر في “ريمون” لا يتوقف عند عنف الخرسانة، بل يتجسد في ممارسات يومية تحول المكان إلى ساحة تعذيب ممنهج، حيث تُضاف إلى قسوة المكان قسوة السجّان.
ووفقًا لما تم توثيقه على لسان خمسة من الأسرى المحررين، أصبح الاعتداء الجسدي روتينًا: تكسير الضلوع، وإهانة كبار السن بالضرب المتعمد على الوجه، وإطلاق الغاز المسيل للدموع في الأماكن المغلقة حتى تتوالى حالات الإغماء، فضلًا عن الاعتداءات اللفظية، والاستفزازات المستمرة، وحفلات الترهيب الليلي بالكلاب البوليسية.
يتخذ هذا العنف الممنهج أشد أشكاله فتكًا في سياسة الإهمال الطبي المتعمد، التي حولت المرض إلى حكم بالإعدام البطيء. فمنذ نحو عامين، وتحديدًا بعد السابع من أكتوبر 2023، أصبح صرف الدواء ممنوعًا منعًا باتًا. ولم يعد الأمر يقتصر على الأمراض الجلدية التي تُركت لتتفشى مثل “السكابيوس”، الذي ظهر بوضوح على جسد الأسير “أبو سراج” لشهور دون أي محاولة لتشخيص أسبابه أو علاجه، بل وصل الأمر إلى الموت المباشر والموثّق.

في شهادته، يروي أسير محرر قضى 24 عامًا داخل جدران السجن، وهو يرسم كروكيًا للسجن من ذاكرته، واقعة وفاة أسير من الظاهرية بالخليل في القسم رقم 5.
لقد شاهده رفاقه وهو يحتضر ويخرج من فمه أغشية بنية اللون بعد رفض إدارة السجن إعطاءه دواء الأنسولين. كل محاولاتهم لإسعافه أو طلب النجدة قوبلت بالتجاهل التام، لتنتهي حياته بإهمال متعمد. ولكي تكتمل الجريمة، تم تزوير تقرير وفاته الرسمي ليُدَّعى فيه أنه تلقى الدواء، في تدليس يكشف أن هذه المنظومة لا تقتل الجسد فحسب، بل تسعى لقتل الحقيقة أيضًا.
بعد الموت هناك ساحة أخيرة للعذاب
فصول القهر لا تنتهي عند لحظة الموت، بل تمتد إلى ما هو أبعد، حيث ترفض منظومة الاحتلال أن تمنح الأسير كرامة الدفن أو أن تمنح عائلته حق الوداع الأخير.
هنا، يتحول جسد الأسير المتوفي من ضحية للإهمال الطبي إلى رهينة محتجزة، وتتحول البنية الطبية داخل السجن من أداة للقتل البطيء إلى امتداد مباشر لهندسة القهر، مسؤولة عن إخفاء الحقيقة والتلاعب بمصير الجثامين.
تتواتر شهادات الأسرى المحررين والمصادر الحقوقية لتكشف عن ممارسة ممنهجة ومروّعة فيما يتعلق باحتجاز جثامين الأسرى الذين قضوا داخل السجون في ثلاجات لفترات طويلة وغير معلومة.
هذا الاحتجاز ليس مجرد إجراء إداري، بل هو فعل عقابي إضافي يهدف إلى معاقبة ذوي الأسير وزيادة ألمهم، واستخدام الجثمان كورقة تفاوض سياسية.
وتتصاعد خطورة المشهد مع ظهور ادعاءات بالغة الخطورة، تتحدث عن انتهاكات محتملة تصل إلى “سرقة الأعضاء والجلود”، وهي اتهامات تضع النظام الطبي والأمني الإسرائيلي بأكمله في دائرة الشك.
وفي هذا السياق المظلم، تبرز قصة وفاة الأسير معتز أبو زنيد من مدينة الخليل كنموذج لهذا اللغز المتعمد.

لم تكن وفاته طبيعية أو واضحة المعالم؛ فقد فارق الحياة في ظروف يلفها الغموض، قبل أيام قليلة فقط من صفقة تبادل الأسرى التي كان من الممكن أن تمنحه حريته.
ووفقًا لروايات رفاقه الذين شاركوه الزنزانة، ظهرت عليه أعراض مرضية غامضة ومفاجئة قبل وفاته بوقت قصير، وسط شكوك قوية بانتشار عدوى مجهولة داخل السجن في تلك الفترة، تحديدًا في شهر أكتوبر من العام الحالي.
ما يجعل قصة أبو زنيد رمزية هو الصمت الرسمي المطبق الذي أحاط بوفاته. فلا تزال ملابساتها غامضة تمامًا في ظل الغياب الكامل لأي تقارير طبية رسمية مستقلة أو تشريح نزيه للجثة.
لقد تحولت وفاته إلى مجرد رقم في سجل، وبقي جسده محتجزًا، لتصبح قصته جزءًا من مشهد أوسع يوثق كيف يمكن للبنية الطبية داخل السجن أن تكون أداة لإخفاء الأدلة بدلًا من كشف الحقيقة، وكيف يصبح جسد الأسير بعد موته ساحة معركة أخيرة بين حق العائلة في معرفة الحقيقة ورغبة النظام في طمسها.
ومضات إنسانية في عتمة الجدار
وسط هذا المعمار محكم القسوة، حيث كل تفصيلة مصممة لسحق الروح، تظهر أحيانًا ومضات إنسانية نادرة وخافتة، لا تلغي حقيقة القهر المؤسسي، لكنها تثبت أن الجدار، مهما بلغ ارتفاعه، لا يمكنه حجب النور الإنساني بالكامل.

يروي الأسرى المحررون قصصًا عن أفعال قد تبدو بسيطة في عالم الحرية، لكنها كانت ذات أثر بالغ في عالم العزلة. يتحدثون عن ضابط إسرائيلي كان ينقل لهم أخبارًا عن عائلاتهم أو عن أحداث العالم الخارجي، كاسرًا بذلك جدار الصمت الذي يفرضه السجن.
يتذكرون كيف كان يوفر لهم مستلزمات نظافة أساسية سرًا، متجاوزًا القوانين العقابية التي تحرمهم منها، وكان يفعل ذلك خفيةً خوفًا من العقاب أو المحاسبة من رؤسائه. وأحيانًا، كان يكتفي بالحديث معهم لدقائق قليلة، ليس كضابط يتولى تعذيبهم، وإنما كإنسان يتحدث إلى إنسان آخر.
يقول محمد زواهرة، الأسير المحرر، مسترجعًا تلك اللحظات بامتنان حذر لا يغفل السياق العام للقمع: “نحن نشكره ونحترم ما قام به، فهو الرابح بإنسانيته. الله يرسل رسائله عن طريق بعض البشر، ولو بالقليل. هذا الضابط كان يتحدث معنا أحيانًا، ينقل لنا أخبارًا من الخارج، ويوفر لنا الحد الأدنى من مواد التنظيف خفية عن أعين المراقبة، خوفًا من العقوبة أو المحاسبة”.
في حوار يكثف هذه الفلسفة دار بينه وبين ذلك الضابط، قال الزواهرة: “الجميع خاسر في هذه الحرب، أداة البطش والاضطهاد خاسرة، إلا شخص واحد فقط سيكون المنتصر، بعيدًا عن قضيتنا الفلسطينية، بل كإنسان، أنت الفائز”.
نظر إليه الضابط مندهشًا وسأل باللغة العبرية: “?Eikh איך (إيخ)؟ (كيف؟)”.
فأجاب زواهرة: “ستنتصر بإنسانيتك… وسنرد لك الإنسانية بإنسانية، لأننا نحترم ما قمت به، أنت كضابط إسرائيلي اخترت أن تكون إنسانًا رغم التعليمات من القيادة العليا”.
حينما تتكلم البندقية نيابة عن القانون
تلك اللحظة الإنسانية نادرة. لم تكن سوى ومضة خافتة سرعان ما تبتلعها عتمة الواقع. لم تُلغِ يومًا حقيقة العنف المتكرر والممنهج الذي كان يمارسه ضباط آخرون، ليس بتصرفات فردية معزولة، بل بتعليمات مباشرة وصريحة من وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، الذي حوّل السجون إلى مختبر لتطبيق أيديولوجيته القمعية.

لقد كانت سياساته تترجم بشكل يومي إلى تهديد مباشر بالقتل، وإلغاء لكل ما هو إنساني، وتحويل السجان من حارس إلى جلاد بصلاحيات مطلقة.
يروي الأسير المحرر كيف يظهر الوجه الحقيقي للمؤسسة الأمنية بلا أقنعة، راويًا مشهدًا بينه وبين مدير سجن ريمون، الذي لم يكن يتصرف كمسؤول عن سجن، بل كقائد ميليشيا داخل معركة: “مدير سجن ريمون، كان يحمل بندقيته ويهددنا باستمرار. في إحدى المرات، رفع سلاحه ووضعه مباشرة على صدري من خلف باب الزنزانة وقال بوضوح: سنقتلكم. لدينا صلاحيات للقتل، لا يوجد قانون يحميكم هنا. نحن في حالة طوارئ، نحن في حالة حرب”.
كان ذلك إعلانًا صريحًا بأن السجن غير خاضع لأي قانون سوى قانون القوة. إنه تجسيد لسياسة “بن غفير” التي تمنح السجان رخصة للقتل، التي رفم البطش يواجهها الأسرى. قلت له: “سنخرج أحياء، سنخرج أحرارًا، رغمًا عن أنفك”.
حين هزمت “ملعقة” جدارًا من خرسانة

الجدار لا ينتصر دائمًا. في قلب زنزانة سجن جلبوع شديد الحراسة، شمالي فلسطين المحتلة بالقرب من مدينة بيسان، حيث تُقفل النوافذ وتُخنق التهوية وتُحسب كل حركة، كان هناك عقل يرفض الاستسلام لمنطق القمع.
هناك، حيث يُفترض أن ينتهي كل أمل، كان الأسير محمود العارضة يقلّب أفكاره كما يقلّب السجان مفاتيح الأبواب، مؤمنًا بأن بعض العقول لا تقبل أن تُسجن.
رفض العارضة ورفاقه أن يكونوا مجرد أجساد سلبية داخل مخطط القمع الهندسي؛ فشرعوا يفكرون كمهندسين مضادين. لم تكن خطتهم مجرد صياغة أدوات للعنف. كانت إعادة تكوين المساحة المحاصرة لتكون منفذًا للحرية والكرامة. ولم يكن عملهم مجرد حفر في الأرض، بل فعل رمزي عميق للهروب من حالة الانكسار التي صُمم السجن لفرضها.
كانت العملية مزيجًا من الحسابات البسيطة للمساحات، واستشراف للزوايا الهندسية، وفهم دقيق لتوزيع حركة الحراس، والأهم من ذلك كله، إيمان راسخ بأن التصميم، أي تصميم، يمكن أن يُقلب رأسا على عقب لكشف ثغرات الضعف والغطرسة في الآلة الهندسية للاحتلال.
إن قصة “نفق الحرية”، التي حفرها الأسرى بملعقة طعام على مدى أشهر، ليست محاولة مادية جريئة للخروج من السجن، وإنما قصة “هندسة إنسانية” مضادة، تُظهر كيف يمكن للعقل الأسير أن يعيد رسم الجدار من داخله.
