مصر في “عربة الترحيلات”

عربة ترحيلات؛ هذا هو المكان، حيز حديدي ضيق، يستحيل كتلةً من الحميم المصهور حين تقذفه شمس الصيف بشواظها، ويغدو ثلاجة للبشر ترتعش في جوفها الأبدان المكدودة، إثر نهش الزمهرير عظامها في الشتاء.

وهنالك؛ خلف الباب الموصد، زُجَّ بخليط من البشر؛ ناس من كل الاتجاهات والمشارب والثقافات والطبقات؛ المتدين والزنديق، والمؤيد والمعارض، والصحفي والأمي، والإخواني والعلماني، والمسيس وغير المسيس، والشيخ والكهل والشاب والمرأة والطفل، وجميعهم يصرخون في خوف واستجداء: “ما عملتش حاجة”.

ذاك المشهد البديع من فيلم “اشتباك” للمخرج محمد دياب، يكاد أن يختزل حال مصر بعد الثلاثين من يونيو، حيث اتسعت دوائر الاشتباه السياسي، ولوحق خلق الله بتهمة “الأخونة”، وارتفعت صرخات إقصاء الآخر أو بالأحرى سحقه، على وقع كلمات الأغنية النازية والقبيحة للغاية: “إحنا شعب وانتوا شعب”.

في مساحة لا تزيد عن ثمانية أمتار، تدور عدسة الكاميرا على وجوه المقبوض عليهم دورانًا سريعًا، فتنقل ملامح القلق المحفورة عليها، ثم تتوقف برهةً خلف نافذة العربة الضيقة، التي تمرر بالكاد خيوطَ ضوءٍ شاحبة، لتأخذنا الصورة السينمائية العبقرية من وراء القضبان الصمّاء إلى المشهد الخارجي؛ أرتال عساكر مدججين بالسلاح يحومون في محيط المكان.

كانت العربة رمزًا مرهفًا لوطن في محنة كبرى، تحاصره المتاريس والدشم من كل الجهات، ولا صوت يعلو فيه فوق صوت السحق، وكان ذاك الرمز أعمق من أن يؤرخ للحظة عابرة، بل كان تأريخًا لواقع هذا الوطن الرازح منذ عقود تحت نير القمع.

وتزداد اللحظة العارمة غرابةً، متى جعل أولئك المحشورون في “قفص حديدي”، يشتبكون لفظيًا فيتقاذف هذا وذاك الاتهامات: ملحد ومتطرف.. خائن وإرهابي.. وجاسوس عميل، والأخيرة كانت موجهةً لصحفي ساقه سوء حظه إلى شرطي جلف يعد الكلمة مصدر خطر على الأمن القومي، فرماه في عربة الترحيلات حتى يُبت في أمره.

وما هي إلا محض ثوانٍ حتى كانت شرارة الاشتباكات اللفظية، قد أشعلت نيران الاشتباكات البدنية الضارية.

إنَّ أولئك الذين تفترسهم المخاوف إزاء ما سيؤول إليه حالهم، وتتطاير الهواجس في مخيلاتهم، كما يتطاير الشرر من الحديد المحمَّى، يضمرون كراهية سوداء إزاء شركائهم في المحنة.

كان المحبوسون كالديوك في أقفاصها، حين تنقر بعضها البعض، وتنتف ريش بعضها البعض، وتمزق لحم بعضها البعض، في محاولة بائسة وعبثية لتفريغ شحنات الغضب المخبوءة في صدورها.

هذا ما أراد الفيلم الذي هوجم بضراوة في مصر، وحظي بتقدير نقدي عالمي واسع أن يقرره أو بالأحرى يحذر من مغبته.

مع مد الخط على استقامته، فالظاهر أنه ليس مجافيًا للمنطق إن مصر اليوم، قد غدت تحاكي عربة الترحيلات.

حين تولي وجهك شطر الشارع المصري، تجد مشهدًا من مشاهد الغلظة المفرطة والقسوة الفظة..  قسوة وغلظة تقشعر لهما الأبدان وتتمزق الضمائر.

والمؤكد بلا أدنى جدال، أن ارتفاع منسوب القسوة والعنف، لا بد أن يطرح السؤال طرحًا جادًا وموضوعيًا: ماذا حدث للمصريين؟

جمال حمدان.. ملامح الشخصية الحضارية للمصري

في كتابه “شخصية مصر” يقرر الراحل العظيم جمال حمدان: “الشخصية المصرية معتدلة، وبحكم الاعتدال كان المصري العادي أميل في الغالب إلى الوداعة والهدوء والدماثة والبشاشة”.

من يقرأ وصايا الحكام المكتوبة على ورق البردي بالخط الهيروغليفي؛ أول الخطوط المصرية على الإطلاق، لا بد من أن ينحني إكبارًا لحضارة لم تكتف بتشييد الحجارة، بل شيدت صرحًا أخلاقيًا يجعلها بحق “فجر الضمير”.

من تلك الوصايا وصية الحكيم “بتاح حتب” التي ترجع إلى القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد، وتعد أقدم نص أخلاقي في تاريخ البشرية، وفيها يقول: “لا تكن قاسي القلب على ضعيف يحتاج إليك”.. وأيضًا “كن رحيمًا حين تكون منتصرًا، فإن القوة بلا رحمة تجلب الخراب”.

تراكمت الرحمة التي في نفوس المصريين، كالطمي على ضفتي نهرهم العظيم، فأثمرت كل خصالهم الحميدة، وهي رحمة أصيلة راسخة الجذور في وجدان الشعب الجمعي، ذلك أنها مشتقة من عقيدة “ماعت” التي سنها الإله “رع”.

ليس غريبًا إزاء ذلك أن مصر أهدت التصوف للعالم الإسلامي، وأهدت الرهبنة إلى المسيحية.

بحسب “كتاب الموتى” فإن حساب الآخرة يقوم على وضع قلب الميت في كفة ميزان، وفي الثانية توضع ريشة ماعت؛ رمز الحق والرحمة، فإذا كان القلب خفيفًا يدخل صاحبه “حقول السلام”، وهو تعبير مستمد بالقطع من التعلق الوجداني بالزراعة، التي تأسست عليها وبها الحضارة على ضفتي النيل.

أما مَنْ كان فظًا غليظ القلب، يستمرئ قهر العباد، ويستذل رقابهم، ويؤذي مشاعرهم، ولا يلين للمساكين القول ولا يؤمن بأن “الكلمة أفضل من السيف”، فله الفناء في عدم الحياة الثانية.

بوسعك أن تتخيل قوة العقاب بالنظر إلى إيمان المصري بالبعث الذي دفعه إلى بناء الأهرامات.. العقاب مشدد لأن القسوة تستدعي ذلك.

لم تكن هنالك قيمة على الأولويات الأخلاقية للحضارة المصرية أعلى من الرحمة، وحين نرى ما نراه الآن من قسوة وغلظة في سلوكيات المصريين، فلا بد من قرع الأجراس قبل وقوع الفأس في الرأس، هذا إن لم تكن وقعت بالفعل.

ولا مفر مجددًا من السؤال: ماذا حدث للمصريين؟

سؤال كبير وليس وليد اللحظة، وليس منبت الصلة بالأمس، ولطالما شغل النخبة السياسية والأكاديمية منذ الانفتاح الساداتي حتى الآن.

في عام 1996 نقلت دار الهلال العريقة السؤال من مستواه النخبوي إلى المستوى الشعبي، عبر ملف صحفي ثري، شارك في تحريره عديد من أهم الكتاب آنذاك، وكان منهم المرحوم جلال أمين الذي ذهب لاحقًا إلى جمع سلسلة مقالاته في هذا الصدد، بكتيب تحت عنوان السؤال ذاته.

من المفارقات المثيرة، أو قل من الأفكار المشاغبة، أن طرح هذا السؤال اليوم، وعبر مؤسسة صحيفة قومية، وبعد نحو ثلاثين عامًا من مبادرة دار الهلال، يعد في “الجمهورية الجديدة” من المستحيلات، وتتعمق الاستحالة بالنظر إلى أن المقالات التي تضمنها الملف، انطلقت من أن المجتمع مأزوم أخلاقيًا، لأسباب تتحملها السلطة السياسية.

واللافت من قبل ومن بعد، أن نشر الملف لم يُقِم الدنيا ويُقعدها، ولم يُتهم كتاب المقالات بأنهم طابور خامس أو من أهل الشر الخونة، ولم يجد أي منهم نفسه ماثلًا أمام التحقيقات بتهمة الانضمام إلى جماعة محظورة.

الأكثر من ذلك أن “النظام السياسي” أعاد طباعة كتاب جلال أمين في إطار مشروع القراءة للجميع، الذي كانت ترعاه سوزان مبارك حرم رئيس الجمهورية شخصيًا آنذاك.

ما علينا، لنرجع إلى موضوعنا.. بوسعك أن تقول ما تشاء في تأويل ظواهر القسوة المصرية الطارئة، وقد تلعن الضغوط الاقتصادية، وآثارها في “تضييق خلق الناس”، ولا بأس أن تتحدث عن غياب دور الأسرة والتعليم التربوي، ونكوص الفن والإعلام عن تأدية وظائفهما المجتمعية، ولك أن تصرخ بأن العلة في الابتعاد عن الدين، وكل ذلك صحيح لكنه في ظن كاتب السطور ليس السبب الأول والمباشر.

العلة تكمن في أن مسلوبي الحول والقوة، كثيرًا ما يستحيلون ظالمين قامعين باطشين بدورهم.

الضحية يتقمص الجلاد، وهنالك العديد من النظريات السيكولوجية التي تقرر ذلك، منها “متلازمة ستوكهولم”، ونظرية “التماهي مع المعتدي” لصاحبتها “آنا فرويد”، ابنة عالم النفس الأكثر شهرة “سيجموند فرويد”.

ترى النظرية أن الإنسان حين يتعرض لإذلال لا يستطيع رده عن نفسه، يلوذ بإسقاط ضعفه بتقليد المعتدي عليه، وكذلك يشب الطفل الذي يتعرض للضرب عدوانيًا، وقد يتلذذ بإيذاء الآخرين حين يشتد ساعده.

في تمعن تفشي العدوانية في المجتمع المصري، لا بد من النظر إلى مثل هذه التفسيرات، ولعلنا في حاجة أيضًا حتى نفهم الواقع إلى تدبر مقولة الكواكبي: “الاستبداد يفسد الأخلاق، فيصير الناس عبيدًا متملقين حتى إذا ما تمكنوا من القهر قهروا”، بجانب تدبر مشهد المشاجرة بالأيادي في عربة الترحيلات.

صفعة مسن.. يا عزيزي كلنا طغاة

قبل أيام ازدحمت شبكات التواصل الاجتماعي بمادة فيلمية، يظهر فيها مالك عقار وهو يصفع شيخًا مسنًا من المستأجرين لديه، في مشهد وحشي من تداعيات القانون الغاشم الذي يسمى قانون الإيجار القديم، أو وفق التسمية الرسمية “ضبط العلاقة بين المالك والمستأجر”.

مشهد يدمي القلوب والضمائر، وتزداد الميلودراما فيه إيلامًا مع صوت ابنة المجني عليه التي لا نرى وجهها لكن نسمعها تصرخ باستغاثة يائسة: “ضرب أبويا.. ضرب أبويا”.

بعد نحو أربع وعشرين ساعة كانت قوات الشرطة ألقت القبض على الجاني، وهذا جهد مشكور قوبل بفرحة واستبشار شعبيين، غير أن اللافت أن قطاعًا لا يستهان به من الفرحين المستبشرين أظهروا بدورهم فاشية حادة إزاء الجاني، فإذا بمن يطلب إلى رجال الشرطة “تعليقه ونفخه”، وإذا بمن يستحسن نشر صوره، وقد بدت على وجهه آثار صفعات تلقاها على الأغلب لدى احتجازه.

الدعوة إلى “نفخ المتهمين” بغض النظر عن جسامة ما اقترفوه، ليست من القانون، وليست من الرحمة التي تتدفق إلى أعماق المصريين، من رافدين يتلاقيان دائمًا؛ خصوصيتهم الحضارية، وكذلك سنة سيدنا محمد، ومقولات سيدنا المسيح عيسى ابن مريم، عليهما الصلاة والسلام.

أصل الأشياء أن خرق القانون لا يردعه خرق القانون، وأن التصدي للقسوة لا يكون بالقسوة المضادة، بل بالعدالة التي تملك من وسائل الردع والقصاص ما يكفي لكبح شرور القساة الآثمين.

لكن الناس يصيحون طربًا، كزمرة من مشجعي المصارعة الحرة، يريدون مزيدًا من القسوة، يتعطشون لإسالة الدماء، يطلقون صرخات بربرية، وليذهب القانون إلى الجحيم، والذريعة أنه “يستاهل.. داين تُدان.. تسلم الإيد اللي نزلت على وشه”.. ودائمًا هنالك ذريعة.

هذه متغير ينذر بخطر داهم على السلم الاجتماعي، ويضع الوطن بأسره على فوهة بركان تتميز غيظًا أعماقه، ويكاد أن يُسمع لها شهيق وهي تفور.

2 تعليقات

  1. (المجتمع مأزوم أخلاقيا لأسباب تتحملها السلطة السياسية), القول الفصل.
    أين دور مركز البحوث الاجتماعية فى مناقشة مثل هذه القضية، مبني ضخم ويضم بين جنباته أكاديميين ومتخصصين فى كافة العلوم الاجتماعية. لماذا لا يدلون بدلوهم وهذا من صميم عملهم.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة