158.3 % نموًا بوارداتها.. ماذا يُخبرنا كوب القهوة عن اقتصاد مصر والمصريين؟

لا يُمثل كوب القهوة بمصر مجرد مشروب ساخن لضبط المزاج، لكنه يحمل بين حجمه الصغير حكايات عن التضخم، وفوق رغوته مؤشرات حول طبيعة الاستثمارات والأنشطة الاقتصادية، وفي قاعه دلالات حول الطبقات وعلاقتها بأنماط الإنتاج والاستهلاك، وحتى قضايا اللاجئين.

في النصف الأول من العام الحالي، سجلت واردات مصر من البُن مستوى قياسي لتبلغ 204 ملايين و703 آلاف دولار، مقابل 125 مليونا و81 ألف دولار خلال الفترة المقابلة لها من العام الماضي 2024، بزيادة 79 مليون و622 ألف دولار بنسبة تعادل 158.3%.

تنوعت واردات مصر من البن غير المحمص لصالح  محال المطاحن” بواقع 190 مليون و197 ألف دولار مقابل 113 مليونًا و169 ألف دولار خلال الفترة ذاتها من العام الماضي 2024، بزيادة بلغت نحو 77 مليونا و28 ألف دولار، والبن المحمص الجاهز، بواقع 14 مليونا و506 آلاف دولار، مقابل 11 مليونا و912 ألف دولار، بزيادة مليوني و594 ألف دولار.

قيمة البن التي استوردتها مصر خلال النصف الأول من 2025 تعادل 74% من حجم واردات عام 2024 بالكامل والتي بلغت حينها 279.55 مليون دولار، كما تزيد بنسبة 4.5% عن الكمية التي تم استيرادها في 2023 بالكامل، التي بلغت 195.86 مليون دولار.

تزايد الاستهلاك رغم ارتفاع الأسعار عالميًا

جاء تنامي الاستهلاك رغم ارتفاع أسعار البن عالميا لأعلى مستوياتها منذ 47 عاما، فأسعار بن الأرابيكا حققت ارتفاعًا بالأسعار بنسبة 90% في يناير 2025 قبل أن تتراجع لتبلغ مكاسبها السنوية 60.5% على أساس سنوي في مايو الماضي.

في ظل اعتماد السوق المصرية على استيراد القهوة بنسبة 100%، ارتفع السعر في السوق المحلية، لأعلى مستويات سعرية في تاريخها؛ ليصل سعر البن السادة إلى 600 جنيه للكيلو، ووصل سعر البن المحوج 680 جنيهًا.

تستورد مصر ما يقرب من 80 ألف طن من البن سنويًا، ما يجعلها عرضة مباشرة لأي تغيرات في الأسواق العالمية، وساهم التعويم أيضا في المستويات السعرية القياسية التي حققتها مع فقدان الجنيه قيمته الشرائية أمام الدولار.

يتسم السلوك الشرائي بزيادة الكثافة في الشتاء عن الصيف بنسبة 25%، في ظل تزايد الإقبال على المقاهي والكافتيريات المغلقة كوسيلة ترفيه عن الأماكن المفتوحة.

ويمثل الإنفاق الأسري على الطعام والمشروبات بكافة أنواعها حوالي 200 مليار جنيه سنويًا طبقا لمسح الإنفاق الكلي للأسر المصرية الذي أعده الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء عن العام المالي 2018/2017.

وتحتل المطاعم والكافيهات بكافة أنواعها نسبة تصل إلى %5 من إجمالي المنشآت الاقتصادية في مصر، وتعد الثانية في الحجم بعد قطاع التجزئة والجملة، حيث يقدر عددها بحوالي 180 ألف منشأة على مستوى الجمهورية، وينفرد القطاع الخاص بالسيطرة الكاملة عليها.

انتشار كثيف لمحال بيع القهوة

تلك التقديرات لا تتضمن جميع باعة القهوة بمصر من النصبات بجوار مواقف السيارات، والمقاهي غير الرسمية وعربيات بيع القهوة في الشوارع وأكشاك البقالة ومحلات بيع التسالي التي تقدمها كنشاط جانبي بجانب نشاطها الأصلي.

التقديرات الرسمية تشير إلى انتشار كثيف للمطاعم والكافيهات في جميع أنحاء الجمهورية، حيث يتواجد مطعم أو كافيه في كل 400 متر تقريبا من مساحة الجمهورية، بينما يقدر عدد رواد المقاهي باستمرار بقرابة 12 مليون مصري يوميًا.

يقول عصام سُليمان، صاحب مقهى، إن استهلاك البن ارتفع مع رفع المقاهي أسعار المشروبات التقليدية التي تقدمها، فبات الفرق بين كوب القهوة والشاي 3 جنيهات فقط، ما عزز من الإقبال على الأخيرة باعتبارها تتضمن كافيين أكبر خاصة في فترات الصباح.

يضيف سُليمان أن تزايد عدد المقاهي خاصة في المشروعات تحت الكباري رفع  عدد محال بيع البن، خاصة أن القهوة أصبحت ترند المشروبات في تلك الأماكن مع تقديمها بصور غير تقليدية عن “القهاوي البلدية”.

من المتوقع أن ينمو حجم الاستهلاك المنزلي بنسبة 2.0% في عام 2026، وأن يصل متوسط ​​نصيب الفرد من الدخل المنزلي إلى 0.24 كيلو جرام (حوالي ربع كيلو) في عام 2025. ومن المرجح أيضًا أن تبلغ إيرادات سوق القهوة المحلية بمصر مثل إيرادات محال بيعها ومتاجر التجزئة 434.24 مليون دولار أمريكي في عام 2025.

في السنوات الأخيرة، ارتفع عدد محال البن بوتيرة متسارعة بحسب شعبة البن بالغرفة التجارية. قفز العدد بالقاهرة من ٤ محلات كبرى للطحن والبيع في عشرينيات القرن الماضي  إلى 14 محلًّا في السبعينيات، ثم 6000 محل في 2023.

ساهم دخول رأس المال الأجنبي أيضا في المزيد من الانتشار كسلسلة أبو عرف التي استحوذت مجموعة “أغذية” الإماراتية على حصة منها تعادل 70%، ودشنت شبكة فروع واسعة لها بكل المحافظات ومحطات السكك الحديدية.

فرق كبير بين قهوة البسطاء والأغنياء

تظهر تغيرات طريقة تقديم القهوة قدرا من التمايز الاجتماعي في مصر حاليا، فالمقاهي البلدية “الشعبية” تقدم نوع واحد منها بمسميات مختلفة مرتبطة فقط بعدد ملاعق السكر (على الريحة، مضبوط، سادة، زيادة)، أو مضاف إليها اللبن لتسمى فرنساوي.

أما المقاهي الفاخرة فلديها أنماط أخرى من القهوة بإضافات تبدو غريبة بالنسبة للمتذوق التقليدي، كالقهوة بالكركم والقهوة بالطحينة والقهوة بالحليب المكثف، والمكسرات كالبندق، والقهوة بالمارشميلو والآيس كريم، والعسل، والشيكولاتة.

 القهوة والتضخم والسوق

بحسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، ارتفعت أسعار  مجموعة البن والشاي والكاكاو بنسبة (4.8%) على صعيد سنوي في سبتمبر 2025 مقارنة بالشهر ذاته من العام السابق، وعلى صعيد شهري (سبتمبر 2025 بأغسطس 2025) ارتفعت بنسبة (0.4%).

لكن مؤشرات السوق تظهر أرقاماً أخرى، فسعر كيلو البن السادة ارتفع من 400 جنيه لـ 580 جنيه وكيلو البن المحوج ارتفع من 480 جنيها لما بين 620 و650 جنيها للأنواع المتوسطة.

ارتباط القهوة بالتضخم أعادت مجلة “الإيكونوميست” الشهيرة هيكلته في  مؤشر اقتصادي لقياس التضخم والقوة الشرائية الحقيقية للعملات ويعتمد على “كوب القهوة اللاتيه الكبير” الذي يقيس مستويات الأسعار وأسعار العملات الحقيقية وفق سعر كوب قهوة ستاربكس في 76 دولة حول العالم، ارتكانا على أن مكونات كوب القهوة واحدة في جميع فروع تلك السلسة عالميا، وبالتالي يمكن القياس على أسعارها لتحديد هل العملة مقومة بأعلى أم أقل من قيمتها الحقيقية.

أمام ارتفاع أسعار البن، وعدم قدرة المستهلكين على تحمل زيادات الأسعار، كان الحل بالنسبة للمقاهي هو القهوة المغشوشة، وآخرها ضبط نصف طن بن مغشوش ومطحون من مواد مجهولة المصدر ومعبأ داخل شكائر بلاستيك بيضاء غير مدون عليها أي بيانات في الفيوم.

في نهاية العام الماضي، ضبطت الأجهزة الأمنية بمديرية أمن القليوبية، أيضاً، مصنعًا لإنتاج وتعبئة “البن” بدائرة مركز شرطة الخانكة لإدارته المصنع “بدون ترخيص” وحيازة كميات من البن المغشوش والمقلد والذي استخدم خامات “مجهولة المصدر” ورديئة وسابقة الاستخدام.

القهوة.. في قلب النشاط التجاري للاجئين

مع توافد اللاجئين العرب، أصبح نشاط مطاحن البن والمقاهي عنصرا أساسيًا في استثماراتهم خاصة السوريين واليمنيين، حتى أن بعض التقديرات تشير لامتلاك السوريين وحدهم نحو 482 مطعما ومقهى في مصر، بينها 126 في الجيزة و55 في الإسكندرية.

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

يقدم السوريون البن كنشاط أساسي في المحمصات التي انتشرت في جميع مدن مصر، واستفادوا من ارتفاع سعر البن المصري المعلب في جذب الزبائن بجانب إضافات خاصة من المكسرات أو هدايا على المشتريات الكبيرة، ما اجتذب قطاع عريض من الشباب.

كان لليمنيون في مصر تواجد سابق للسوريين في مجال صناعة البن في ظل السمعة العالمية للبن اليمني لكن نشاطهم تركز أكثر على المطاحن والبيع المباشر وليس تقديم القهوة، وتركزهم كان مقصورا في أماكن بعينها في القاهرة والجيزة على عكس السوريين الذين انتشروا في الأماكن السياحية.

يقول أحمد عوض، صاحب مقهى مصري، إن تواجد المقاهي السورية واليمنية يركز على استقطاب أبناء جنسيتهم في المقام الأول وإن كان بعض رجال الأعمال السوريين اشتروا أو أجروا بعض المقاهي من المصريين، في أماكن شديدة التميز بالمحافظات خاصة المطلة على البحر بالإسكندرية أو المواجهة لمحطات السكك الحديدية في المحافظات.

للأجانب تاريخ طويل مع الاستثمار بالقهوة في مصر خاصة اليونانيين الذين أسسوا مقاه بالقاهرة والأقاليم كمقهى الخواجة اليوناني “أندريا” في المنصورة، و“لا باس” و“كورسال”  و“السان جيمس” و“ساتشي”، وغيرها من المقاهي التي أسسها الأوربيون وكانت تقدم القهوة فقط قبل دخول الشاي لمصر وانتشاره بفضل الجنود المصريين العائدين من الحرب العالمية.

هل المقاهي نشاط اقتصادي؟

انتشار استثمارات المزاج، هو ما يرفض قطاع عريض من الخبراء الاقتصاديين في الدفع إلى تنامي تلك الأنشطة من الأساس، إذ يتحفظ هاني توفيق، الخبير الاقتصادي، على إنشاء المزيد من المشروعات الترفيهية والعقارية والكافيهات بمصر خاصة على الشواطئ في الفترة الأخيرة.

وتوجهت الأجهزة المحلية في مصر نحو تأجير المناطق تحت الكباري كمقاهي ووصل الأمر لتجريف بعض أجزاء من الحدائق كحديقة المسلة والزهرية في الزمالك من أجل بناء أنشطة تتعلق بالمطاعم والمقاهي على أطرافها.

يقول توفيق إن الدول تتقدم عندما تكون أبخرة المصانع أكثر من دخان الشيشة، مشددا على ضرورة التصنيع وعدم التركيز على الأنشطة السياحية والترفيهية التي تتسم بأنها عرضة للتقلبات وعانى منها اقتصاد مصر في فترة كورونا.

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

يرتبط نمو قطاع المقاهي في مصر بجدلية كبيرة حول النمو الاقتصادي في مصر ومدى ارتباطه بالاستهلاك والإنتاج، حتى أن عضو اللجنة الاستشارية المتخصصة للاقتصاد الكلي التابعة لرئاسة مجلس الوزراء مدحت نافع، تساءل أخيرا حول طبيعة نمو الاقتصاد المصري ومدى ارتباطه بالإنتاج أم بالزيادة السكانية.

وقال نافع إن المشكلة بمصر ليست  في تحقيق النمو ولكن كيفية وشكل النمو، وهل معزز بالاستهلاك أم بالاستثمار والتصدير؟، وتابع:” نمو ناشئ عن تطور ديمغرافي في الأساس لا عن تطور قدرات إنتاجية وتحسن تنافسية” .

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة