عند نقطة الالتقاء بين شارعي “شريف” و”قصر النيل”، الدور الرابع في عمارة “الإيموبيليا”، تعود سارة بعد خمسة عشر عامًا إلى القاهرة لتنتقل فجأة عبر الزمن.
المفتاح الذي دار في الباب القديم لم يفتح شقة جدتها فقط، بل فتح كبسولة زمنية. رائحة الخشب القديم والكتب المكسوة بالغبار المتراكم، والأثاث الذي بعدما رفعت عنه الملاءات البيضاء المُغبرة وجدته على حاله، وخيط ضوء رفيع يتسلل من نافذة الشباك المطل على السماء من ناحية شارع قصر النيل. لم يتغير شيء منذ أن كانت في العاشرة من عمرها.. إلا هي، منذ ذلك اليوم الذي رحلت فيه جدتها، وتركت هي وأسرتها من بعدها مصر ورحلوا إلى الخارج، اليوم تعود إلى ذكرياتها هنا..

على الجدران، كانت صورهم العائلية تحكي قصصًا نسيتها سارة عبر السنوات، وقفت أمام صورة زواج والدي جدتها هنا، في بداية الحكاية، فكانا من أوائل سكان العمارة، تأملت بساطة الفستان الأنيق الذي يحكي عن زمن آخر.
فكرت كيف أنها لم تلاحظ من قبل أن صور هذا البيت كانت كلها بسيطة رغم أناقتها، وأنها الآن.. تشتاق لهذه البساطة المليئة بالجمال الطبيعي غير المزيف. غير هذه الأيام، فكل صور البنات “بالفلتر” وهي لا تعرف كيف تتعايش مع هذه الموضة وتلك الأفكار، تريد سارة أن تعود إلى هذا البيت وأصالته مرة أخرى.
لم تكن “الإيموبيليا” مجرد عمارة، بل كانت أسطورة وسط البلد. صممها المعماريان ماكس أذرعي وجاستون روسي، وبناها رجل الأعمال أحمد عبود باشا في أواخر الثلاثينات لتكون تحفة معمارية لا مثيل لها. كانت أول عمارة فيدي مصر بها جراج تحت الأرض، وبها مصاعد حديثة كانت تعتبر ترفًا في ذلك الوقت.
لكنها لم تعد لتستعيد، بل لتودع هذا البيت الذي أرادت أن تعود إليه وأصالته مرة أخرى، جاءت اليوم لتُفرغه، وتُغلف كل تلك الذكريات في صناديق كرتونية استعدادًا لبيع الشقة. قرار اتخذه والداها في الخارج، قرار منطقي وعملي، لكنه هنا، في الدور الرابع، يبدو كأنه خيانة.
اقرأ أيضًا:بُقع بيضاء تُثير سخرية السخفاء
تغليف الذاكرة
أحضرت “الكراتين” الفارغة، وبدأت المهمة المستحيلة. صوت شريط اللاصق البلاستيكي وهو يُسحب كان نشازًا، يمزق صمت المكان المقدس.
بدأت بالصور. أنزلت صورة زفاف والدي جدتها بحذر، كأنها تحمل قطعة أثرية هشة. وضعتها في الكرتون، وشعرت وكأنها تدفن جزءًا من تاريخ عائلتها. ثم صورة الطفلة “جدتها” في حديقة الأورمان، نظرت إليها للمرة الأخيرة، وهمست: “فاكرة كل حكاياتِك”.
تحت سرير جدتها، وجدت صندوقًا خشبيًا صغيرًا. فتحته، فاحت منه رائحة عطر قديم. بداخله، لم تجد هناك مجوهرات ثمينة. بل روشتة طبيب، وتذكرة سينما مترو لفيلم “الباب المفتوح”، وبضع رسائل، بهُت حبرها، كان كتبها الأخ الأصغر لجدته، حين كان مجندًا لحبيبته، عادت الرسائل مرة أخرى إلى بيت العائلة بعد وفاة الإثنين في حادث أليم بعد خطبتهما بشهرين.. كل تلك الذكريات في يد سارة الآن.. تحكي حياة بأكملها.
كل قطعة تضعها في الكرتون كانت تطرح سؤالاً: هل يمكن تغليف رائحة؟ هل يمكن وضع إحساس بالأمان في صندوق؟
الإيموبيليا عالمًا
كانت جدتها تحكي لها كيف أن هذه العمارة لم تكن مجرد مبنى، بل كانت عالمًا كاملًا. كانت تحكي لها عن ليالي الصيف التي كان يتردد فيها صوت ضحكات الفنانين في الممرات، وعن الكاتب نجيب محفوظ الذي كان يمر من هنا في طريقه إلى مقهى ريش، وعن أغاني عبد الحليم حافظ التي كانت تُسمع من شرفة شقته في الطابق الأعلى.

لم تكن مجرد حكايات للتسلية، بل كانت جزءًا من هوية هذا البيت. هوية لم تكن لتعرفها سارة إلا من خلال ذاكرة جدتها، واليوم، هي آخر من يحمل هذه الذاكرة.
اقرأ أيضًا:لأجلها.. رحلة الـ “جنوبي” من أجل تحقيق المعجزة
الوداع الأخير
بعد أيام، بدت الشقة فارغة ومجردة، كأن روحها قد سُحبت منها. لم يتبق سوى علامات باهتة على الجدران حيث كانت الصور معلقة.
وقفت سارة للمرة الأخيرة عند النافذة المطلة على شارع شريف.. في الأسفل، كانت القاهرة تضج بالحياة، بالسيارات، بالأصوات الحديثة التي لا تشبه شيئًا من هدوء هذه الشقة.
أغلقت الباب خلفها بهدوء، والمفتاح في يدها لم يعد يفتح شقة، بل يغلق فصلًا كاملًا من حكاية عائلتها. أدركت أنها لم تكن تغلف أثاثًا وصورًا، بل كانت تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من زمن البساطة والجمال الحقيقي. سوف تأخذ معها الكراتين إلى الخارج، وتأخذ معها بقايا الحكايات.
