غالبًا ما يُسبب مسح دخل وإنفاق الأسرة المصرية حالة من الحرج للحكومات، فهو المرآة التي تظهر واقع الحياة اليومية للمواطنين وانعكاس سياسات الحكومة على معيشتهم، بدون غلاف المؤشرات الاقتصادية المعسولة.
بعد حالة من الجدل، إزاء تأخر الحكومة في إعلان التفاصيل الكاملة لبحوث الدخل والإنفاق، تعتزم وزارة التخطيط إصدار بحث العام المالي 2023/2024، خلال الشهر الحالي، الذي يُفترض أن يكشف انعكاس نتائج عملية الإصلاح الاقتصادي، على مستوى معيشة الأسر المصرية.
ولا يزال بحث الدخل والإنفاق لعام 2021/2022 المرجعية الأساسية حتى الآن في الحديث عن مستوى المعيشة، رغم التطورات التي شهدها الاقتصاد منذ ذلك الحين، مثل تعويم الجنيه، ورفع أسعار المحروقات نحو 13 مرة، وزيادة تكلفة الخدمات على دخل الأسر.
ووعدت حكومة التخطيط والتنمية الاقتصادية أيضًا، بإطلاق الأعمال التحضيرية لإجراء المسح القادم لدخل وإنفاق الأسر لعام 2025/2026 وذلك بحلول يونيو 2026، بما يشمل التقديرات المحدثـة لمعدلات الفقر، على أن يتم استكمال تنفيذ مسح دخل وإنفاق للأسر بحلول ديسمبر من العام ذاته وإتاحة نتائجه للجهات الحكومية المعنية وعدد من المؤسسات الدولية الشريكة المحددة.
اقرأ أيضًا: عاصفة كاملة.. 4 أسباب تدفع الذهب لأعلى سعر في التاريخ
مسح الدخل يحسم نسبة الفقر
تترقب المؤسسات البحثية الاقتصادية نتائج البحث بشغف، خاصةً أن ما أتاحه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حول بحث الدخل والإنفاق لعام 2022/2021 لم يحدد نسبة الفقر القومي أو نسبة الفقر على مستوى الجمهورية، ويُفترض أن يتم الكشف عن تلك الأرقام في أكتوبر الجاري.
خط الفقر القومي هو تكلفة الحصول على السلع والخدمات الأساسية للفرد أو الأسرة، أما خط الفقر المُدقع للفرد، فهو عدم القدرة على الإنفاق للحصول على الغذاء فقط -أي تكلفة شراء السلع التي تبقى الإنسان على قيد الحياة.

يجمع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بيانات الفقرين، القومي والمُدقع، بأسلوب المقابلة الشخصية للأسرة في المسكن الذي تقيم فيه، ويتم الحصول على البيانات من رب الأسرة أو الزوجة أو شخص بالغ رشيد من أفرادها في حالة غياب رب الأسرة أو الزوجة.
يُحدَّد خط الفقر الدولي، المُستخدم لقياس الفقر المدقع في الاقتصادات منخفضة الدخل، حاليًا عند 3 دولارات أمريكية للفرد يوميًا “142 جنيها يوميًا” بما يعادل 4275 جنيها شهريًا، وذلك بعدما رفع البنك الدولي ذلك الرقم من مستوى 1.9 دولار لليوم والذي تم وضعه في 2011.

في المقابل، يضع “التعبئة والإحصاء”، الذي حدد نسبة الفقر في مسح 2019 /2020 بنحو 29.7٪، بمبلغ 857 شهريًا و10279 جنيهًا سنويًا كخط للفقر، و550 جنيهًا شهريًا و6604 جنيهات سنويًا كحد للفقر المدقع.
هذه الفجوة الكبيرة بين خط الفقر المحلي والدولي ناجمة عن تحرير سعر الصرف، الذي ارتفع 16 جنيهًا وقت إعداد المسح السابق. و48.5 جنيهًا حاليًا، وذلك يعني أن دخل المصريين تراجع حال تقييمه بالدولار بنفس نسبة تراجع العملة المحلية أمام الأجنبية.
أنماط مختلفة من الفقر
يوجد العديد من أنواع الفقر بخلاف الفقر المدقع، منها الفقر المطلق وهو الحالة التي لا يتم فيها سد احتياجات الفرد الأساسية. بمعنى آخر، هناك نقص في السلع والخدمات الأساسية التي تتعلق بالغذاء والمسكن والملبس.
كما يوجد الفقر النسبي الذي يرتبط برصد الأشخاص الفقراء أو المحرومين ماليًا أو اجتماعيًا مقارنةً بالأشخاص الآخرين في منزل واحد، أي أنه يرتبط بعدم المساواة في الأسرة الواحدة، أما الفقر الذاتي فيرتبط بنظرة الشخص الذاتية للفقر فإذا أحس أنه لا يستطيع لوصول لما يحتاج بصرف النظر عن احتياجاته الأساسية فهو يعد فقيرًا، وهو نوع يتسم بأنه يفتقر للموضوعية.
يقول عبد الفتـاح الجبالي مستشار وزير التخطيط الأسبق، أن بحث الدخل والإنفاق يوفر كمية هائلة من البيانات التي توضح أهم التغييرات التي حدثت بمستويات معيشة الأفراد وطبيعة الحراك الاجتماعي خلال فترة الدراسة.

ونظرًا لأهمية ذلك البحث، تم تغيير المدى الزمني لإجرائه منذ عام 2008/2009 ليصبح كل عامين بدلًا من 5 أعوام، بإعتباره يضع أمام صانع القرار خريطة كاملة بأهم التغييرات بمستويات المعيشة. ما يساعدهم في الوصول الى أفضل البدائل المتاحة لاتخاذ القرار السليم الذي يحقق الأهداف التنموية وعلى رأسها رفع مستويات المعيشة ورفاهية الأفراد والذي يُعد الهدف الرئيسي لأى سياسة اقتصادية، بحسب الجبالي.
ووفق آخر بحوث الدخل في مصر، فإن الفقر قد تضاعف خلال العقدين الماضيين فارتفع من 7.16 % عام 1999/2000 إلى 32% عام 2017/2018، قبل أن يهبط إلى 29.7٪ بعدها عامين أي العام 2019/2020.
ويشير الجبالي لـ فكّر تاني، إلى ظهور فصيل جديد من الفقراء وهي الطبقات الوسطى الفقيرة، حيث أدت السياسة الاقتصادية الجديدة إلى نقص حاد في دخول الأفراد من الأسر المتوسطة، ما أدى إلى وجود فئة جديدة من الفقراء، وهذه المؤشرات وغيرها، تشير إلى أن الفقر وصل لمستوى مرتفع، يحتاج إلى دراسة دقيقة ومتأنية لمعرفة آليات القضاء عليه.
اقرأ أيضًا: “القطّارة”.. أعمق خزان “جدل” في جغرافيا مصر
اتهامات للحكومة بحجب البيانات
النائب الدكتور فريدي البياضي عضو مجلس النواب ونائب رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، اتهم الحكومة بحجب بيانات أساسية من بحث الدخل والإنفاق لعام 2021/2022، وحذف مؤشر الفقر النقدي لأول مرة منذ ما يقرب من نصف قرن، والاكتفاء بمؤشر “الفقر متعدد الأبعاد” الذي أظهر نسبًا أقل بكثير من المؤشرات المحلية والدولية حول واقع الفقر في مصر، على حد قوله.

لكن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء رفض تلك الاتهامات، وقال إن بيانات بحث الدخل والإنفاق لعام 2021/2022 متاحة على موقعه الإلكتروني منذ نوفمبر 2024. وأن مؤشر الفقر متعدد الأبعاد هو أول دليل وطني من نوعه، يغطي 19 مؤشرًا في 7 أبعاد رئيسية تشمل: التعليم، والصحة، والسكن، والخدمات، والعمل، والحماية الاجتماعية، والأمن الغذائي. وقد أُعد بمشاركة وزارات وجهات وطنية، بدعم من الإسكوا ومبادرة أكسفورد للتنمية.
البياضي في المقابل، قال إن مؤشر الفقر النقدي ظل الأداة المعتمدة يمصر لقياس الفقر لعقود طويلة، لأنه يقيس مدى كفاية الدخل أو الإنفاق النقدي للفرد أو الأسرة لتلبية الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء والملبس والمسكن والخدمات، وهو المؤشر الأكثر وضوحًا ومباشرة في التعبير عن القدرة الشرائية للمواطنين.
وأشار في حديثه مع فكّر تاني، إلى أن الحكومة قررت الاكتفاء بنشر نتائج مؤشر “الفقر متعدد الأبعاد”، وهو مؤشر دولي وضعه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع جامعة أكسفورد عام 2010، ويُستخدم في عشرات الدول كمؤشر مكمل للمؤشر النقدي، وليس كبديل وحيد له.
الفقر متعدد الأبعاد هو طريقة لقياس الفقر تتجاوز مجرد الحرمان النقدي لتشمل أوجه الحرمان المتعددة في الصحة والتعليم ومستويات المعيشة في آن واحد. ويهدف هذا المفهوم إلى تقديم صورة شاملة لحياة الفقراء، ويكشف عن أوجه الحرمان المتداخلة التي يعاني منها الأفراد في مجتمعاتهم.
لكن البياضي يقول إن هذا المؤشر يقيس أبعادًا خدمية واجتماعية “مثل التعليم، والصحة، والسكن، والحماية الاجتماعية”، وقد يُظهر نسبًا أقل للفقر إذا تحسنت بعض هذه الخدمات، حتى وإن تراجعت القوة الشرائية ودخل الأسر.
وأشار النائب إلى أن الحكومة تبنت في البحث الأخير آلية جديدة لاحتساب دخل الأسر، تضيف الدعم النقدي والعيني “مثل دعم التموين والخبز” إلى الدخل النقدي، ما يخفض النسبة المعلنة للفقر بشكل مصطنع لا يعكس الواقع المعيشي، خاصة في ظل موجات التضخم المتلاحقة وتراجع القوة الشرائية للجنيه.
اقرأ أيضًا: المياه والكهرباء وموجة هيكلة.. ماذا ينتظر المواطن في الأشهر التالية؟
من هو الفقير؟
يبتعد الخبير المالي مصطفى عادل، عن خلافات التعريفات إلى نوعية الطبقات الاقتصادية نفسها والمتضمن لها، ففي الدول النامية يتمثل خط الفقر فيمن يعيشون بأقل من 2 دولار يوميًا، والطبقة تحت المتوسطة “المنخفضة” بين 2 و10 دولارات، والطبقة المتوسطة ما بين 10 و20 دولار يوميًا، أما الخمسين دولارًا فأعلى فهم مرتفعو الدخل.
وطبقًا للمعايير العالمية فإن الطبقات الاقتصادية في مصر، تضم ما تحت خط الفقر بدخل 3000 جنيه شهريًا، وتحت المتوسطة “المنخفضة” من 3 إلى 15 ألف جنيه شهريًا، والمتوسطة لا يقل عن 15 ألف جنيه وحتى 30 ألف جنيه شهريًا، ومرتفع الدخل يبدأ من 77 ألف جنيه شهريًا.
ويلمح عادل إلى وضع الطبقة المتوسطة وتضررها من السياسات الاقتصادية، رغم أن 99% من المستثمرين والمبدعين يأتون من تلك للطبقة، وفقط 1% لهم أصول فقيرة أو غنية للغاية.
