“بلا ضمانات”.. خبراء يحللون اليوم التالي لـ”اتفاق غزة”

بين صور الإبادة في غزة ومشاهد السلام الاحتفالية في شرم الشيخ، تكمن مسافة شاسعة لا تقاس بالكيلومترات، بقدر ما تُقاس بعمق التشكيك في الأسس التي بُني عليها الاتفاق الأخير. ففيما تحتفي الدبلوماسية الرسمية بـ”إنجاز تاريخي”، يُطلق عدد من الخبراء والمحللين الاستراتيجيين تحذيرات متشائمة، معتبرين أن ما تم التوصل إليه ليس أكثر من هدنة هشة، وأن “اليوم التالي للسلام” قد يكون مجرد استراحة مؤقتة قبل جولة عنف أكثر ضراوة.

يجمع هؤلاء الخبراء، في تصريحاتهم لـ فَكّر تاني، بمختلف خلفياتهم، على أن الاتفاق يعاني عيوبًا هيكلية قاتلة؛ فهو يخلو من أي ضمانات دولية حقيقية تمنع تكرار العدوان، ويتجاهل بشكل كامل جوهر الصراع المتمثل في حل الدولتين والمرجعيات الدولية، ويترك الأسئلة المصيرية حول مستقبل حكم غزة ونزع سلاح المقاومة مفتوحة على كل الاحتمالات، ما يجعله أقرب إلى صفقة تكتيكية لإدارة الأزمة منه إلى تسوية استراتيجية تنهيها.

فما هي الأسباب التي تدفعهم للاعتقاد بأن السلام المعلن عنه هو مجرد وهم مؤقت. وهل نحن أمام بداية حقيقية للاستقرار، أم نشهد مجرد فصل جديد في صراع ممتد، حيث يظل الانفجار الكبير كامنًا تحت رماد اتفاق يفتقر إلى مقومات الحياة؟

هدنة مؤقتة والانفجار قادم

في البداية، يقول الكاتب الكبير عبد الله السناوي لـ فَكّر تاني: “يمكننا أن نتحدث بدقة عن اتفاق لوقف إطلاق النار أو هدنة مؤقتة في غزة، وهذا يوافق عليه الجميع، لكن الحديث عن السلام مسألة أخرى، إذ لا توجد أي إشارة إلى حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، ولا كلمة عن المرجعيات الدولية، ولا حتى إشارة إلى دولة فلسطينية أو حل الدولتين”.

يؤكد السناوي أن الحديث عن السلام يأتي بصيغة عامة، بينما المقصود به – وفقًا لما قاله ترامب في الكنيست أو في شرم الشيخ، وهو المتحدث الوحيد في حقيقة الأمر – هو التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية. وهذا الطرح يتعارض تمامًا مع المبادرة العربية التي قدمتها السعودية مطلع القرن، وأُقرت وأصبحت مبادرة عربية شاملة، تتحدث عن سلام شامل مقابل تطبيع كامل.

ويضيف الكاتب الكبير أن ما يطرحه ترامب ونتنياهو هو ما يمكن تسميته بـ”سلام القوة”، أي فرض اشتراطات لإعادة تشكيل المنطقة لصالح إسرائيل، على حساب العرب وحقوق الفلسطينيين. فلا توجد أي إشارة حقيقية إلى سلام مستدام.
وحتى اتفاق غزة نفسه يمكن تأويله؛ فالمرحلة الأولى منه كانت صعبة وقد مضت، لكنها كشفت عن مشكلات كبيرة، خاصة في قوائم الأسرى، وعدم الإفراج عن القيادات التاريخية مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات، وهو ما يعكس عجزًا واضحًا في هذا الملف.

ويتساءل السناوي: ماذا سيحدث عندما نصل إلى المرحلة الثانية؟ من سيتولى الحكم في غزة؟ كيف ستُدار عملية الانسحابات الإسرائيلية؟ ومن سيتولى نزع سلاح المقاومة؟ ومن سيشكل مجلس السلام؟ وما صلاحياته وحدوده؟ ومن هي القوى التي ستتولى الأمن في غزة؟

ويشير إلى أن عناصر حماس أثبتت في اليوم الأول أنها قادرة على السيطرة على القطاع، فكيف يمكن نزع سلاحها دون الاعتراف لها بأي حقوق سياسية أو وطنية؟ التعقيدات – كما يقول – شديدة، والمشهد مرشح للانفجار في أي لحظة، في ظل غياب أي ضمانة حقيقية سوى الضمانة الشخصية للرئيس الأمريكي، الذي قد يقول الشيء ونقيضه في اللحظة ذاتها، ويغيّر مواقفه في أي وقت.

العدو لم يلتزم بأي اتفاق

اللواء علاء عز الدين مدير مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة الأسبق
اللواء علاء عز الدين مدير مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة الأسبق

يتفق اللواء علاء عز الدين مدير مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة الأسبق، مع السناوي، حين يقول: “لا شيء يضمن أن يوقف الاحتلال الصهيوني عدوانه على غزة وعلى فلسطين بعد اتفاق السلام في شرم الشيخ، حتى مع كل الضمانات المعلنة، وعلى رأسها الضمانة الأمريكية.. سبق وحدث أن ضمنت أمريكا اتفاق أوسلو واخترقه الاحتلال، وها نحن نرى ما حدث ويحدث بعد الاتفاق”.

ويضيف عز الدين، في حديثه لـ فَكّر تاني، أن العدو الصهيوني يتحدث عن هدم أنفاق المقاومة في غزة، قبل تنفيذ بنود الاتفاق، ومع الإفراج عن أسراه، كما يريد نزع سلاح المقاومة، الذي هو في مجمله سلاح خفيف لا يقارن بأي شكل من الأشكال بأسلحة العدو الصهيوني، ثم أن اللجنة الدولية التي ستدير قطاع غزة ستعمل لصالحه، وعلى المدى القريب والبعيد سيسيطر الاحتلال الصهيوني على كامل غزة.

الاتفاق ضروري والصراع ممتد

يقول مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، لـ فَكّر تاني: “في البداية، تقتضي الأمانة التأكيد على أن الموقف الرسمي المصري برفض التهجير، والذي تواكب مع الموقف الشعبي، وكذلك رفض استدعاء ترامب للسيسي للبيت الأبيض، ومواجهتنا لغواية ‘العصا والجزرة’، فضلًا عن الابتعاد لمسافة عن المسار الإماراتي-السعودي والخليجي”.

ويضيف الزاهد أن ملخص المسار الإماراتي-السعودي-الخليجي هو قراءة الفاتحة على فلسطين، والاستعداد لعصر السلام الإبراهيمي، لكن صمود الشعب الفلسطيني وانتفاضة شعوب العالم ساهمت بشكل كبير في التوصل إلى اتفاق وقف العدوان على غزة الذي تم التوقيع عليه.

مدحت الزاهد
مدحت الزاهد

ويؤكد رئيس حزب التحالف الشعبي أن اتفاق شرم الشيخ مهم وضروري، سواء كان هدنة مؤقتة أو طويلة الأجل، مشيرًا إلى أن الصراع طويل وممتد، وتتعدد أشكاله، وأن حلم التوسع والتمدد الصهيوني لم تُطوَ صفحته رغم أي مهرجان خطابي.

ويرى الزاهد أنه من الضروري التأكيد على احتمالات الردة والانقلاب في زمن قد يقصر أو يطول، وأن الضمانة الأهم لمنع هذه الردة هي بناء شبكة العلاقات المصرية الإقليمية والدولية مع القوى المناهضة للعنصرية والصهيونية، التي عبّرت عن نفسها في مليونيات الميادين وأسطول الصمود، ومحكمة العدل الجنائية الدولية، وكل القوى المناهضة للهيمنة.

ويشير الزاهد أيضًا إلى أهمية تعظيم قدرة الشعب على المشاركة، ورفض التبعية وما يُسمى بالشراكة الاستراتيجية مع أعداء شعبنا والإنسانية، وإطلاق الحريات، وتأكيد الحق في تداول السلطة واحترام الدستور، وفتح النوافذ والزنازين لشمس الحرية، والتمتع بحقوق المواطنة، وتحقيق العدالة، والانتصار لمبدأ توازن السلطات، وتأكيد الدور الرقابي للبرلمان، وحرية الإعلام، واستقلال القضاء، والإيمان بأن الحرية ليست تهديدًا للأمن القومي المصري، بل هي ضمانته.

مرحلة انتقالية دقيقة

يقول الدكتور هيثم عمران أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي بجامعة السويس، لـ فَكّر تاني: “في اليوم التالي لاتفاق شرم الشيخ للسلام بين حماس وإسرائيل، تبدو الساحة الفلسطينية أمام مرحلة انتقالية دقيقة، ستُحدد ما إذا كان الاتفاق سيشكل نقطة تحول نحو الاستقرار أم مجرد هدنة مؤقتة”.

الدكتور هيثم عمران أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي بجامعة السويس
الدكتور هيثم عمران أستاذ العلوم السياسية والقانون الدولي بجامعة السويس

ويضيف عمران أن اليوم التالي عمليًا يبدأ بسلسلة اختبارات ميدانية وسياسية تتعلق بمدى التزام الأطراف ببنود الاتفاق على الأرض، حيث يُتوقع أن تشهد غزة تحركات لإعادة انتشار القوات الإسرائيلية، وبدء دخول فرق الإغاثة والمواد الإنسانية، تحت إشراف مصري ودولي مشترك.

ويوضح أستاذ العلوم السياسية أنه في الوقت نفسه، ستُختبر قدرة الأجهزة الفلسطينية المحلية على ضبط الأمن الداخلي ومنع الخروقات، خاصة من فصائل قد ترفض الاتفاق أو ترى فيه تنازلاً. أما على المستوى السياسي، فسيبدأ الجدل حول إدارة مرحلة ما بعد الحرب: من يتولى الحكم؟ وكيف تُدار عملية إعادة الإعمار؟ وما الضمانات لعدم عودة المواجهات؟

ويشير عمران إلى أن مصر والولايات المتحدة تدركان حساسية هذه اللحظة، التي تتطلب إجراءات سريعة لبناء الثقة: فتح المعابر، تثبيت وقف النار، وإطلاق مسار اقتصادي – إنساني يمنح الاتفاق مضمونًا عمليًا. غير أن هشاشة البيئة الأمنية، والانقسام الفلسطيني، وغياب رؤية مشتركة طويلة الأمد، قد تجعل هذا “اليوم التالي” بداية مرحلة رمادية بين الحرب والسلام، تُحدَّد نتائجها بإرادة الأطراف وقدرة الوسطاء على تحويل التهدئة إلى استقرار دائم.

تحديات اليوم التالي للاتفاق

ترى كريمة أبو النور الباحثة السياسية، أن الحضور الكبير لاتفاق السلام في شرم الشيخ دليل قاطع على أن الأغلبية بعد هذه الحرب الدامية أصبح لديهم قناعة بأن السلام هو الوسيلة الوحيدة للتعايش، وهو الموقف الذي اتخذته مصر بأكملها منذ البداية، سواء على الصعيد الرسمي أو غير الرسمي.

كريمة أبو النور
كريمة أبو النور

وتقول أبو النور لـ فَكّر تاني: “إن اليوم التالي لانتهاء الحرب يواجه كثيرًا من التحديات، لأننا نتحدث عن ٢ مليون شخص محرومين من أساسيات الحياة، خسروا في سنتين كل شيء، كما أننا نتحدث عن تيارات متناحرة منذ زمن، وعدم وجود أي ضمانة تجعل نتنياهو يقرر إنهاء الحرب بشكل حقيقي”.

وتضيف الباحثة في علم النفس السياسي أن السعي الدائم لتثبيت وقف الحرب، والتخوف المستمر من رجوعها، قد يكون سببًا مهمًا لعدم عودة الحرب، فالمجموعات التي تعمل على وقف الحرب، سواء سياسيين أو حقوقيين، إذا استمرت في أفعالها نفسها، سيكون بإمكانها تحقيق سلام دائم.

وتشير أبو النور إلى أنه للأسف لا توجد أي ضمانات لمنع حدوث حرب إبادة أخرى، لكن هناك عدة أطراف، ومن ضمنهم شعب مصر وسلطتها، التي يتفق أغلب الناس على دورها الهام، إلى جانب جهود كبيرة قام بها الكثيرون من أنحاء العالم، لضمان وقف حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة