تُجرى اليوم الجمعة، انتخابات التجديد النصفي لنقابة الأطباء، وسط حالة من الترقب وعدم اليقين تسيطر على قطاع واسع من الأطباء، في ظل تصاعد المخاوف من استمرار ما يعتبره البعض “تآكلًا تدريجيًا” لاستقلال النقابة، وتزايد التدخلات الخارجية في قراراتها.
الانتخابات هذا العام اكتسبت طابع استثنائي بعد إعلان تيار “الاستقلال”، الذي سيطر على النقابة لأربع دورات متتالية، مقاطعته الكاملة للترشح على المستويين العام والفرعي. خطوة أرجعها رموز التيار إلى ما وصفوه بـ”غياب البيئة المناسبة للعمل النقابي في وجود النقيب الحالي”، اعتراضًا على موقفه في تمرير قانون المسؤولية الطبية دون التعديلات المطلوبة لحماية الفريق الطبي.
غياب تيار الاستقلال..والمخاوف تتصاعد
غياب تيار “الاستقلال” عن انتخابات هذا العام، ألقى بظلال إضافية على المشهد، وزاد من مخاوف الأطباء بشأن مدى استقلالية المجلس المقبل. إذ يرى كثيرون أن انسحاب التيار، الذي كان يمثل صوت نقابي معارض لسنوات، ترك الساحة شبه خالية من التيارات القادرة على مواجهة القوانين والتشريعات المجحفة بحق الأطباء.

ويرى آخرون أن هذا الغياب لا يعكس فقط أزمة لحظية مرتبطة بالانتخابات، بل يشير إلى أزمة أعمق بشأن مستقبل النقابة، وتوازن القوى داخلها، ومدى قدرتها على اتخاذ قرارات تعبر عن مصالح أعضائها.
وتستند هذه المخاوف في جزء كبير منها إلى تراكمات من الغضب والاستياء لدى الأطباء، نتيجة مواقف اتخذها مجلس النقابة خلال العامين الماضيين، في عدد من الملفات المفصلية.
أزمة الثقة… إلغاء عمومية الأطباء
واحدة من أبرز المواقف التي فجرت المخاوف لدى الأطباء، وأسهمت في تعميق فجوة الثقة بين عدد كبير منهم وبين مجلس النقابة، كانت قرار تأجيل الجمعية العمومية التي كان من المقرر انعقادها لمناقشة قانون المسؤولية الطبية.

ذلك القرار، الذي جاء قبل أقل من 48 ساعة من موعد انعقاد الجمعية، شكل صدمة في أوساط الأطباء، إذ رآه كثيرون تفريطًا في فرصة لاصطفاف مهني كان يمكن أن يعيد لم شمل الأطباء والتفافهم حول نقابتهم في مواجهة مشروع قانون لا يحمي حقوقهم، وكان في الوقت نفسه لحظة فاصلة كشفت مدى هشاشة استقلال النقابة، وحدود تدخل الدولة في قراراتها.
نقيب الأطباء الدكتور أسامة عبد الحي، حينها برر قرار التأجيل بأنه “خشية على الأطباء من الدخول في صدامات قد تضرهم أكثر مما تنفعهم”، لكن هذا التبرير لم يكن كافيًا لإقناع كثير من الأعضاء، حتى داخل المجلس نفسه، إذ أعلن خمسة من أعضائه استقالتهم مباشرة عقب القرار، بينهم الدكتور إبراهيم الزيات الذي وصف القرار بـ”الكارثي”.
التوقيت.. واتهامات بالتناغم مع السلطة
ويعتقد عدد من الأطباء أن توقيت التأجيل، بالتزامن مع موافقة لجنة الصحة بمجلس النواب على تعديلات وُصفت بأنها “شكلية وغير كافية” في مشروع قانون المسؤولية الطبية، يشير إلى تناغم غير مبرر بين النقابة والسلطة التشريعية، وهو ما زاد من الشكوك حول استقلالية القرار النقابي، وعمق من حالة الإحباط التي انعكست لاحقًا على أجواء الانتخابات الحالية.
ومع اجراء الانتخابات، تتسع هذه المخاوف لتشمل المجلس الجديد أيضًا، إذ يرى كثير من الأطباء أن أزمة استقلال النقابة لا تتعلق فقط بأعضاء المجلس الحالي، بل بطبيعة التوازنات القائمة بين النقابة والجهات الرسمية، مما يثير تساؤلات حول مدى قدرة المجلس المقبل على اتخاذ قرارات تعبّر عن إرادة الأطباء بعيدًا عن الضغوط أو الإملاءات.

في هذا السياق، يقول عضو سابق في مجلس نقابة الأطباء ومرشح بالانتخابات، رفض ذكر اسمه، :”النقابة مفترض أنها مؤسسة منتخبة تمثل مصالح أعضائها، لكن الواقع يظهر وجود مواءمات غير معلنة تضبط إيقاع قراراتها، وتحدد حدود تحركها بما لا يتجاوز ما تسمح به الجهات الرسمية. كان أبرز مثال على ذلك قرار النقيب بإلغاء الجمعية العمومية للأطباء، وهو قرار جاء بعيدا عن رغبة الأطباء، وتم تفسيره على أنه نتاج ضغوط واضحة لم ينكرها النقيب.”
ويضيف أن “هذا السقف غير المعلن لا يمنع وجود محاولات جادة من بعض أعضاء المجلس للدفاع عن استقلال النقابة أو الحفاظ على دورها المهني، لكننا كثيرا ما نجد أنفسنا أمام قرارات فردية – خاصة من النقيب – تتخذ دون توافق داخلي”.
و تابع :”رغم أنني اعترضت على بعض قرارات المجلس، وأبرزها إلغاء الجمعية العمومية، إلا أنني أرى أن الاستمرار في المجلس يمنحني فرصة للضغط والعمل لصالح الأطباء. حتى لو لم أكن راضيا بشكل كامل عن كل اداء المجلس السابق، إلا أن البقاء داخل المجلس قد يوفر بعض المساحة للعمل لصالح الأطباء”.
ويرى المصدر النقابي أنه”في نفس الوقت فإن المناخ السياسي الحالي لا يناسب الصدام المباشر مع مؤسسات الحكم، وبالتالي فمن الأفضل أن العمل داخل المجلس قدر الإمكان، ومحاولة تحقيق ما يمكن من مكاسب للأطباء، دون أن نواجه صدامات قد تؤثر سلبا على مستقبل النقابة”.
وفي المقابل ، تتزايد المخاوف في أوساط الأطباء من أن المجلس الجديد، الذي يتضمن بعض الوجوه التي كانت جزء من المجلس السابق، قد تواجه نفس التحديات التي واجهتها الدورة السابقة في الحفاظ على استقلالية النقابة.
الملفات العالقة… والتحديات المؤجلة
هذه المخاوف تتعاظم في ظل حالة من الجمود بشأن العديد من القضايا العالقة التي لم تجد لها حلولًا حتى الآن، مما يزيد من شعور الأطباء بأنهم قد يكونون أمام مجلس لا يمثل مصالحهم بشكل حقيقي.
يقول الدكتور أحمد حسين، عضو مجلس النقابة السابق الذي استقال اعتراضا على أداء المجلس لـ فكر تاني : “أبرز القضايا العالقة التي تثير القلق هي الأجور، التي لا تزال دون تغيير، رغم المطالب المستمرة بحد أدنى عادل. في الوقت نفسه، يعاني أطباء المعاش من دخول هزيلة لا تتماشى مع سنوات خدمتهم. الأجور المتدنية دفعت العديد من الأطباء، خصوصًا من شباب التكليف، للاستقالة من القطاع الحكومي في العامين الأخيرين”.

ويضيف حسين أن هناك حالة استياء متزايدة بسبب ما يعتبره البعض “صمت نقابي” تجاه تكرار حوادث الاعتداء على الأطقم الطبية داخل المستشفيات، والتي لم تجد ردة فعل حاسمة أو دعم كافي من مجلس النقابة، مما يعمق حالة الغضب ويزيد من عدم الثقة في قدرة النقابة على حماية الأطباء والدفاع عن حقوقهم.
أما القرار الأكثر كارثيا، في وصف “حسين”، فهو موافقة النقابة على تحويل موارد صندوق تعويضات الأطباء، الذي كان مخصصًا لحماية حقوقهم ومستحقاتهم، إلى تجهيز المستشفيات. هذا القرار يعكس إصرار المجلس على اتخاذ قرارات تخدم مصالح أطراف أخرى، على حساب الحقوق المشروعة للأطباء
وفي نفس السياق قالت د.مني مينا :” لا أتوقع مجلسًا قويًا قادمًا ،لكن رهاني الأساسي يبقى على الجمعية العمومية، التي رغم الإحباط التي أصابها، تظل هي الأمل في التغيير”، مضيفة أنه مع الأسف، فإن الجمعية العمومية في حالة إحباط، وهذا سيسهل نجاح مجموعة معينة قد تدفع باتجاه قوانين جائرة على الأطباء، ما يجعل المشهد برمته لا يؤدي إلى التفاؤل.
دوائر المجلس القديم
وفي ظل هذا المشهد المشحون بالغضب والقلق بين أوساط الأطباء، تجرى الانتخابات وسط تنافس بين قائمتين رئيسيتين:
*قائمة “المستقبل”، ومن أبرز مرشحيها: الدكتور جمال عميرة ود.حسين ندا، و د. أيمن سالم ،والدكتور خالد أمين، الأخير عليه توافق ورضا في أوساط الأطباء رغم أنه من المجلس القديم، خاصة أنه اعترض على إلغاء الجمعية العمومية وكان له مواقف داعمة للأطباء في مواجهتهم للاعتداءات عليهم في المحافظات.

* قائمة “ائتلاف الاطباء”، وأبرز مرشحيها: د.اسحاق ابراهيم ود.أحمد علي ، التي يدعمها أعضاء سبق أن استقالوا من المجلس، احتجاجًا على قرار إلغاء الجمعية العمومية، واعتراضا على ما وصفوه آنذاك بانفراد النقيب بإدارة ملف قانون المسؤولية الطبية، بصيغة “مشوهة” لا تعبّر عن رؤية الأطباء.

لكن رغم كون “د. أحمد علي” أحد الأسماء البارزة المرشحة في هذه القائمة ومن ضمن من تقدموا باستقالتهم في أزمة إلغاء الجمعية العمومية، يظل محط جدل واسع في الأوساط الطبية بسبب خلفيات استقالته من المجلس.
بعض الأطباء يرون أن انسحابه لم يكن نتيجة اعتراضات مبدئية على قرارات المجلس أو بسبب قناعاته الشخصية، بل كان خطوة مدروسة تهدف إلى الضغط على المجلس بعد خلافات سابقة بينه وبين بعض الأعضاء. إذ يُعتقد أن قرار إلغاء الجمعية العمومية قد وفر له فرصة للخروج من المجلس بشكل لائق، حيث تمكن من الحفاظ على صورته أمام الأطباء
لكن رغم تباين الرهانات على تغيير محتمل في تركيبة المجلس، تسود حالة من التوجس بين قطاع من الأطباء، إذ يرى البعض أن المنافسة ما تزال – في جوهرها – دائرة داخل حدود المجلس السابق، حتى وإن اختلفت مواقع المرشحين. أبرز الأسماء المطروحة سبق لها التواجد داخل المجلس: بعضهم استقال في وقت سابق اعتراضا على إدارة الملفات، بينما فضل آخرون – رغم إعلانهم رفض بعض القرارات – الاستمرار حتى نهاية الدورة والعمل من الداخل.
هذه الصورة، وفق ما ترصده نقاشات بين الأطباء في مواقع التواصل أو داخل المستشفيات، ساهمت في تعزيز شعور عام بأن التغيير قد يكون محدودًا، وهو ما انعكس بدوره على الحماس للمشاركة، خاصة في أوساط الشباب، الذين يعتبر كثير منهم أن المشهد لا يحمل بدائل جديدة قادرة على تجديد النقابة أو استعادة استقلالها.
ومع استمرار التراجع في مؤشرات الثقة بين الأطباء ومجلسهم، يبقى السؤال الأبرز: هل تنجح الانتخابات الحالية في إفراز مجلس يعيد للنقابة استقلالها وهيبتها، أم تظل الازمة مستمرة حتى انتخابات 2027؟
