جيل “زد” أم رجل الصفقات.. أي سلام ستختاره نوبل؟

تقف جائزة نوبل للسلام أمام اختبار حقيقي، بعد غدٍ الجمعة، لن يحدد هوية الفائز فحسب، وإنما سيرسم مستقبل الجائزة ومصداقيتها. وهو اختبار سيعكس انقسامات العالم الحديث حول مفهوم “السلام” نفسه.

فمن جهة، تقف الناشطة السويدية الشابة جريتا ثونبرج، التي تم ترحيلها قبل يومين فقط من إسرائيل بعد اعتقالها ضمن أسطول الصمود، مرشحةً وبقوة كما يرى مؤيدوها الذين تزداد أعدادهم عالميًا، بينما من جهة أخرى، يقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، محوّلًا ترشيحه إلى حملة ضغط سياسي مستمرة، معتبرًا الفوز استحقاقًا لدوره في “اتفاقيات أبراهام”.

وهذا التباين الحاد بين الناشطة التي واجهت الاعتقال والتنكيل في سبيل قضيتها، والسياسي الذي يقود الدولة الأكثر تسليحًا في العالم ويطالب بالجائزة كجزء من إرثه، يضع لجنة نوبل النرويجية أمام معضلة وجودية: هل تختار تكريم الشجاعة الأخلاقية للنشاط الشعبي وتتبنى تعريفًا أوسع للسلام في القرن الحادي والعشرين، أم ترضخ لمنطق السياسة الواقعية وتكافئ دبلوماسية القوة؟

ثونبرج.. الصمود في وجه التنكيل

لم يعد اسم ثونبرج مرتبطًا فقط بإضرابات المناخ؛ لقد تحولت الشابة البالغة من العمر 22 عامًا، والتي شُخصت بمتلازمة أسبرجر، إلى أيقونة لحركة سلام تتحدى الأنظمة القائمة وتتحمل في سبيلها مخاطر شخصية جسيمة. فخلال مشاركتها الأخيرة ضمن “أسطول الصمود العالمي” لكسر الحصار عن غزة، لم تواجه ثونبرج الاعتقال والترحيل فحسب، بل تعرضت لمعاملة مهينة ارتقت إلى التعذيب، وفقًا لشهادات متطابقة من مشاركين آخرين.

وقد أفاد الناشط والصحفي التركي أرسين تشليك، الذي كان على متن الأسطول، بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أجبرتها على الزحف وتقبيل العلم الإسرائيلي. وهي شهادة تتطابق مع ما ذكره الصحفي لورنزو داغوستينو، الذي أكد أن الإسرائيليين “لفوا علم الاحتلال حول جريتا واستعرضوا الأمر كما لو كان جائزة”.

وتضيف هذه الشهادات عمقًا مأساويًا للتقارير التي نقلتها صحيفة “الجارديان” البريطانية عن وزارة الخارجية السويدية، والتي أكدت احتجاز ثونبرج في ظروف قاسية بكميات غير كافية من الطعام والماء، وإصابتها بطفح جلدي بسبب حشرات الفراش.

جيل زد وسلام لا تعرفه الدول الكبرى

إن هذا التحول الجذري في مسيرة ثونبرج، من ناشطة مناخ إلى مدافعة عن حقوق الإنسان في قلب أحد أعقد الصراعات العالمية، يمثل جوهر الحجة لمنحها الجائزة. فشهرتها العالمية التي اكتسبتها منذ إضرابها المدرسي الأول عام 2018 تحت شعار “أيام الجمعة من أجل المستقبل”، وتحولها إلى “شخصية العام” لمجلة “تايم” عام 2019، لم تكن سوى مقدمة لدور أكبر.

وقد كانت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة هي “المحطة الفاصلة” التي دفعت ثونبرج إلى ما هو أبعد من المناخ، لتربط بشكل مباشر بين العدالة البيئية وحقوق الإنسان، كما جاء في مقالها بصحيفة “الجارديان”: “لا عدالة مناخية من دون حقوق الإنسان”.

وهو التحول أيضًا الذي عرّضها ليس فقط لسخرية قادة مثل دونالد ترامب وفلاديمير بوتن في الماضي، بل لحملة انتقادات واسعة واتهامات بمعاداة السامية، تطورت إلى قرار وزارة التعليم الإسرائيلية إزالة اسم ثونبرج من المناهج الدراسية.

وبهذا المعنى، فإن ترشيح جريتا ثونبرج للجائزة أصبح يمثل رؤية متكاملة للسلام، وليس مجرد رفع الوعي بقضية الاحتباس الحراري، بينما تحولت هذه الشابة إلى تجسيد حي للناشط الذي لا يكتفي بالخطابات، وإنما يضع جسده على المحك ويواجه الاعتقال والتعذيب في سبيل قناعاته، وهو ما يثير ربما “هستيريا اللوبي الصهيوني وحلفائه“، لأنها تستخدم شعبيتها الهائلة وثقة “جيل زد” بها في رفع الوعي بما تصفه تقارير الأمم المتحدة بـ”الإبادة الجماعية” في غزة.

ومن هنا، فإن منحها الجائزة سيكون إقرارًا رسميًا من لجنة نوبل بأن السلام لا يصنعه السياسيون في الغرف المغلقة، وإنما ينتزعه شباب عنيدون، يرفضون الفصل بين سلامة الكوكب وكرامة الإنسان.

ترامب.. هل يستحق رجل الصفقات نوبل للسلام؟

على النقيض تمامًا من نهج ثونبرج الميداني، يتعامل دونالد ترامب مع جائزة نوبل للسلام باعتبارها استحقاقًا سياسيًا وإنجازًا شخصيًا يسعى للحصول عليه عبر حملة ضغط منظمة. ولا يخفي الرئيس الأمريكي رغبته في الفوز بالجائزة، بل يطالب بها علنًا، مدعومًا بترشيحات من حلفائه السياسيين، بينما يرى منتقدوه أن سياساته المثيرة للجدل تجعله غير مؤهل لها من الأساس.

يرى مؤيدو ترامب أنه يستحق الجائزة بالفعل، ليس فقط لاتفاقيات أبراهام، بل لوضعه أطرًا لإنهاء حربين من أسوأ صراعات القرن الحالي: غزة وأوكرانيا.

ويقدم بريت ماكجورك، محلل الشؤون العالمية في شبكة CNN، تحليلًا مفصلًا لهذه الحجة، موضحًا أنه إذا نجح ترامب وفريقه في تحقيق السلام، فإنه “يمكن للجنة نوبل، بل ويجب عليها، الاعتراف بهذا الإنجاز”.

ففيما يتعلق بغزة، يشير ماكجورك إلى أن ترامب قدم خطة من 20 نقطة لإنهاء الحرب، تتخلى بموجبها إسرائيل عن الضم أو الاحتلال، وتتخلى حماس عن سيطرتها على غزة وتطلق سراح جميع الرهائن. وقد حظيت هذه الخطة، وفقًا لـ CNN، بتأييد إسرائيلي ودعم من دول عربية وإسلامية كبرى، من بينها السعودية وقطر ومصر وتركيا.

ويدفع ماكجورك بأنه على الرغم من أن حماس “قد تسعى للمماطلة”، فإن الخطة تضع مسارًا واضحًا لإنهاء الحرب وإرساء واقع جديد في غزة من دون حماس، وهو شرط ضروري لسلام طويل الأمد، تريده إسرائيل وتدعمه الأنظمة العالمية والعربية.

أما في أوكرانيا، فيرى تحليل CNN أن ملامح صفقة بدأت تظهر بعد أشهر من السياسات المتقلبة.

تتكون هذه الصفقة من عنصرين رئيسيين: ضمانات أمنية لأوكرانيا من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ومبادلة أراضٍ على طول خط التماس الحالي في شرق أوكرانيا لإعادة ترسيم حدود آمنة.

ويعتقد ماكجورك أنه إذا واصل ترامب الضغط على موسكو بالتوازي مع تشكيل ملامح هذه الصفقة، فإن التوصل إلى تسوية أمر ممكن، مما يمنحه “مطالبة ذات مصداقية” للفوز بجائزة نوبل للسلام في الذكرى الـ 125 لتأسيسها العام المقبل.

حملة ضغط مستمرة.. الجائزة كهدف شخصي

وبعيدًا عن التحليلات الدبلوماسية، فإن السمة الأبرز لترشيح ترامب هي حملته الشخصية والمستمرة للفوز بالجائزة. وكما تشير شبكة “سكاي نيوز“، فإن ترامب “لم يخفِ أنه لا يرغب في شيء أكثر” من الفوز بالجائزة المرموقة. وتعود تصريحاته حول استحقاقه لها إلى فترة ولايته الأولى.

ففي عام 2019، زعم أن رئيس الوزراء الياباني آنذاك، شينزو آبي، قد رشحه بعد قمته مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وشكا من أن باراك أوباما فاز بها “دون أن يعرف حتى سبب حصوله عليها”.

وتستعرض “سكاي نيوز” سجلًا حافلًا بتصريحات ترامب، مثل قوله في عام 2020 إنه كان يجب أن يفوز بالجائزة بدلًا من رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وقوله في تجمعات انتخابية: “لو كان اسمي أوباما لحصلت على جائزة نوبل في 10 ثوانٍ”.

وقد وصلت هذه الحملة إلى ذروتها مؤخرًا، حيث صرح أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن “الجميع يقول إنني يجب أن أحصل على جائزة نوبل للسلام”، وادعى أنه “أنهى سبع حروب”. وقد لاقت هذه التصريحات المتكررة، دعمًا عنيفًا بحملة من فريقه الصحفي الذي يصفه بـ”رئيس السلام”، في سعي واضح يضع الجائزة هدفًا سياسيًا شخصيًا يتم السعي إليه علنًا.

لماذا يرى الخبراء فرصًا ضئيلة لترامب؟

على الرغم من هذه الحملة المكثفة، يرى معظم الخبراء والمحللين أن فرص ترامب في الفوز بالجائزة هذا العام ضئيلة. والسبب الرئيسي، كما توضح وكالة “رويترز“، هو أن أفعاله تتعارض بشكل مباشر مع المبادئ التي تعتز بها لجنة الجائزة.

فوصية ألفريد نوبل تنص على أن الجائزة يجب أن تذهب لمن “عزز الأخوة بين الأمم”، وهو ما يتعارض، وفقًا لـ نينا جريجر، مديرة معهد أوسلو لأبحاث السلام، مع انسحاب ترامب من منظمة الصحة العالمية واتفاق باريس للمناخ، وحربه التجارية ضد الحلفاء القدامى.

علاوة على ذلك، قد تكون حملة الضغط التي يمارسها ذات نتائج عكسية. ففي تصريح نادر لـ رويترز، قال أسلي تويا، نائب رئيس لجنة نوبل الحالية، إن “حملات التأثير هذه لها تأثير سلبي أكثر من إيجابي… نحن لا نحب ذلك”. ويتفق مع هذا الرأي تقرير لوكالة أسوشيتد برس، الذي يؤكد أن اللجنة لن ترغب في أن يُنظر إليها على أنها “رضخت للضغوط السياسية”.

ويضيف تقرير أسوشيتد برس سببًا آخر، وهو أن اللجنة تعطي الأولوية للجهود المستدامة متعددة الأطراف على الانتصارات الدبلوماسية السريعة. ويشير ثيو زينو، الزميل الباحث في جمعية هنري جاكسون، إلى أن هناك “فرقًا كبيرًا بين وقف القتال على المدى القصير وحل الأسباب الجذرية للصراع”، وهو فارق “يجعل ترامب بعيدًا عن نيل الجائزة”.

جائزة للشعوب أم أداة للأقوياء؟

لم يتبق سوى ساعات، وستجد لجنة نوبل نفسها أمام اختيار يتجاوز المفاضلة بين شخصيتين مثيرتين للاستقطاب. إنه قرار يتعلق بروح جائزة نوبل للسلام نفسها. فمن خلال منحها لجريتا ثونبرج، ستصدّر اللجنة موقفًا حاسمًا بأن السلام في القرن الحادي والعشرين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعدالة المناخية وحقوق الإنسان. وهو سلام لا تقوده الدول، بل حركة عالمية يقودها شباب جيل Z. وسيكون ذلك اعترافًا بأن السلام الحقيقي قد يكون مزعجًا للقادة السياسيين، يتحدى الوضع الراهن ويواجه الحقائق الصعبة بشكل مباشر.

وعلى النقيض، فإن منحت الجائزة لدونالد ترامب، سيعيد ذلك تأكيد الدور التقليدي للمؤسسات الدولية كأداة للاعتراف بالدبلوماسية وصناعة الصفقات على مستوى الدول، مكافئةً بذلك نهجًا فوقيًا لحل النزاعات. وسيكون ذلك بمثابة إشارة إلى أن الطريق إلى السلام يُعبد بالاتفاقات القائمة على المصالح بين الرجال الأقوياء، بغض النظر عن الحقائق على الأرض أو المظالم التاريخية للشعوب.

|الآراء الواردة لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة فكر تاني

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة