بل اطعموا الكلاب يرحمكم الله

يضمر قطاع عريض من الناس كراهية سوداء تجاه الكلاب، ذلك أن ذا لحية شعثاء وعمامة تحتها خواء، تنطع وتمطع ثم تفيهق فجعل يهرف بأن هذه الكائنات نجسة، تُبطِل الصلاة وإذا ما دلفت إلى دار ولت الملائكة منه هربًا.

من تداعيات هذا الهَرف والخَرف، أن الكلب في شوارعنا يكابد تنكيلًا فظًا، فإذا وقف إزاء قصَّاب أو بائع دواجن، فجعل يُرسل نظراته المتوسلة أن يجود بشيء من مخلفَّات الطعام التي يأنف منها البشر، مثل الأمعاء والأرجل، ألقمه حجرًا أو هوى على رأسه بعصا فإذا بالبائس المسكين يفر صارخًا مولولًا.

ومن سوء حظ الكلب، أنه ليس صيادًا، وليس لصًا خبيث الطوية كالهررة التي تقنص الفئران والعصافير، أو أفراخ الطيور المنزلية من أعشاشها، أو تنقض على طاولات السمك بالأسواق، فتلتقُط براثنها ما تستطيع حمله، فتتسلق بمرونتها الفطرية فروع الأشجار والجدران، لتتلذذ “بالمسروقات” هنيئًا مريئًا.

وحده الكلب من فصيلة الكلبيات التي تضم الذئاب والثعالب وابن آوى، لا يحسن القنص، إذ يعتمد في الحصول على ما يقيم أوده على عطاء الإنسان، الذي يحسبه صديقه، فيمنحه حبًا دفَّاقًا صافيًا وغير مشروط.

يا لسذاجة الكلب؛ يثق في أكثر مخلوقات الله إقبالًا على الشر، وإيغالًا في الإيذاء، وإكثارًا من القسوة.

*** *** *** ***

منذ نعومة أظفاري ربيت الكثير من الكلاب، على رأسها كلب الراعي الألماني “جيرمان شيبرد”؛ أرق الفصائل طبعًا وأحنها قلبًا.

واقتنيت “الدوبرمان” صعب المراس، ومثله “الروت وايلر” و”الجولدن ريتريفر” اللعوب، و”السلوقي” الرشيق، و”البلدي” خفيف الظل، و”الكولي”، الذي ينحدر إلى أستراليا ويعد ثاني أكثر الكلاب ذكاءً، بعد “الجيرمان شيبرد”، وقد كان هنالك مسلسل تلفزيوني أمريكي نهاية الثمانينيات، بطلته كلبة من هذه الفصيلة واسمه “الكلبة لاسي”.

كما ربيت الكلاب الصغيرة مثل “الجريفون الفرنسي” و”البَج” و”البيكنيز” و”اليوركشاير”.

الكلاب بغير استثناء شديدة التعلق بأصحابها، وحتى الأنواع متناهية الصغر مثل “اليوركشاير”، ومنه سلالة الـ”بوكيت سايز” التي لا يزيد حجمها عن حجم الكف الآدمي، تستبسل أيما استبسال في الذود عن أصحابها، وإن كلفها ذلك حياتها.

لذلك أحب الكلاب، وأعدها أطيب مخلوقات الله.

*** *** *** ***

قبل أيام نشرت “الأهرام” تحقيقًا للزميلة هاجر صلاح، عنوانه: “تحذير عاجل من الأطباء البيطريين: توقفوا عن إطعام حيوانات الشارع”.

أكن للزميلة هاجر احترامًا جمًا وودًا صادقًا، لكن ذلك لا يمنعني من الاختلاف مع ما ورد في متن تحقيقها، ولا أحسبها ستستاء من ذلك.

في التحقيق هرطق “متخصصون” بخرافات، لا علاقة لها بالعلم، ومنها أن إطعام الكلاب الطعام النيئ يتسبب في “تشريسها”.

الأصل أن الكلب حيوان لاحم، والأفيد لصحته أن يأكل الطعام نيئًا، كما فطره الله، ولا علاقة بين ما يتناوله وشراسته.

الشراسة تُزرع في شخصية الكلب إثر تراكم خبراته الحياتية، أو برامج تدريبه.

أرأيت إلى جرو مربوط بحبل ثقيل يكاد أن يمزق رقبته يشده الأطفال شدًا عنيفًا ويركلونه وهم يتضاحكون؟

لا تتوقعن ألا يعقر من يدنو منه، بعد أن تسقط أسنانه اللبنية، وتنمو أنيابه ويشتد فكاه.

لقد أفقدته وحشية البشر الثقة فيهم، بات يخشاهم، ويظن أنهم سيبادرون إلى إيلامه بغير جريرة، وانطلاقًا من وازع الخوف هذا قد “يهبشهم”.

أليس حريًا أن نهتم بالأزمة الأخلاقية ذات الصلة بـ”ثقافة الرفق”؟

*** *** *** ***

قبل أيام كنت أتسوق في وقت متأخر من الليل، فإذا بكلب “جولدن ريتريفر” وسط مجموعة من المراهقين، وقد ألبسوه “فانلة”، لكني بعين الخبير بطبائع الكلاب، لمست أنه خائف مضطرب، أو قل “مكسور الخاطر”.

سألت: ما به هذا الجميل؟

قيل: إن شريرًا مؤذيًا قد دلق على ظهره سائل “ماء النار”.

منخلعَ القلب صرختُ: مَنْ هذا المجرم؟.. لا أحد يعرفه.

لو أدركته لدككت عنقه دكًا، لا أستقبح فعلًا ولا أمقت صفة، بقدر ما أستقبح الإيذاء وأمقت القسوة.

**** **** **** ****

عشت خارج مصر نحو نصف عمري، في دولة تهتم باعتبارات البيئة، وكانت رؤية حيوان ضال في الشوارع، من المشاهد التي تسترعي الانتباه وتستدر العجب.

ولمَّا رجعت بعد ثورة يناير، فانتقلت من مسقط رأسي الإسكندرية إلى القاهرة، لاعتبارات العمل الصحفي، سكنت في عديد من الأحياء التي توصف بأنها شعبية.

من المؤسف حقًا -على سبيل الملاحظة الاعتراضية- أن مفردة “شعبية”، تقترن في مصر بكل ما هو سيء رديء وفقير الجودة ومنحط الذوق.

على كل حال، فقد رأيت وأنا الذي نشأ في حي مخملي بعروس المتوسط، كيف يعيش فقراء وبؤساء ومهمَّشو هذا الوطن؟

ما تسمى بالأحياء الشعبية ليست إلا مستودعات يُخزن فيها الناس، أو قل “جيتوهات قذرة”؛ أزقة ملتوية كالديدان الشريطية، وصرف صحي مهترئ، وأكوام قمامة تنتشر حولها الحيوانات الضالة، والحشرات الطائرة والزاحفة والقوارض التي تكاد أن تطالب بحق المواطنة.

من المشاهد التي راعتني وروَّعتني أن الكلاب والقطط تنام فوق عربات الخضر والفواكه، متى ينصرف أصحابها، لكن ليست الكلاب والقطط مصدر الخطر الوحيد، فالقوارض ذات الأحجام المهولة تعيث في كل شيء فسادًا، ومنها “ابن عرس” أو باللهجة المحكية “العِرسة” التي تنقل الطفيليات إلى الإنسان، فضلًا عن الأوبئة البكتيرية، ومنها بالمناسبة داء الكلب.

فوضى وعبث وهزل لا أول له ولا آخر.

*** *** *** ***

لكن الناس لا يتذمرون إلا من الكلاب، يريدون إفناءها، ويبررون ذلك بمصطلحات براقة على غرار “القتل الرحيم”.

لا قتل رحيمًا، ولا قتل قاسيًا.. القتل هو القتل مهما تغيرت وسائله وتباينت طرائقه.

يبرع بنو آدم في اختراع المصطلحات الزائفة، لتسويغ جرائمهم وتبرير وحشيتهم.

خذ مثلًا برئيس أكبر دولة في العالم، إذ يطلق على جريمة اقتلاع أصحاب الأرض الفلسطينيين من قطاع غزة، بعد تدميره عن بكرة أبيه من قبل جيش الاحتلال الصهيوني، مصطلح “التهجير الطوعي”.

كذلك لا يجد الإنسان بأسًا في أن يرتكب “التصفية العرقية” إزاء خلق من خلق الله، ربما لأنها تنبح فتؤرقه ليلًا.

من ذلك ما رأيناه من إقدام مجرم دنئ، لا مثقال ذرة من الرحمة في قلبه، على تسميم 500 كلب بمنطقة حدائق الأهرام بمحافظة الجيزة.

في البلدان التي هي “ليست أشباه دول”، تؤسر الحيوانات الضالة فتؤخذ إلى ملاجئ إيواء، فتُمنح اللقاحات والعلاجات، ثم تُطرح لراغبي اقتنائها، فتُرحم من التشرد، ويدرأ الناس الأذى الناجم عن سيحانها في الشوارع.

وفي تلك البلدان أيضًا، لا توجد قوارض وأكوام قمامة ومواسير صرف صحي “طافحة”، ولا صرف صناعي في مياه الأنهار، ولا تلوث هواء يتجاوز مستويات السلامة العالمية، ولا مواد غذائية مجهولة المصدر على الأرصفة.

*** *** *** ***

أعيش منذ سنين في شقة طويلة عريضة، لا يشاركني فيها غير كلبتي “بيلا”.

بلغت “بيلا” التي تنحدر إلى فصيلة “الجيرمان شيبرد” من العمر عشر سنين ونيفًا، وقياسًا بعمر الإنسان فقد تجاوزت السبعين.

وهن العظم منها، ونادرًا ما تبرح مستقرها الأثير إلى جوار مكتبي، ترمقني إذ تدق أصابعي على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، فإذا قمت لإعداد قهوتي مثلًا، اقتفتني بخطى وئيدة ونظرات مستطلعة حتى أعود إلى موضعي فتعود ورائي.

تحت وطأة الوحدة كثيرًا ما أشتاق إلى سماع صوتي.. لا يرن هاتفي، ولا أتصل بأحد، في الحقيقة لا أريد، لعلي أعاني اكتئابًا بدرجة ما.

لولا “بيلا” لما نبست ببنت شفة أيامًا: “تعالي يا بيلا”.. “يلا عشان تاكلي”.. “نامي يا جزمة”.

تفهمني بحكم العشرة، وتستشعر حالتي المزاجية، حتى إن أمي تقول حين أزورها في مسقط رأسي: “ناقص تكلمك”.

كثيرًا ما أكون متعبًا؛ روحي مكدودة ونفسي مستنزفة وشهيتي مسدودة، لكني أغالب سوء مزاجي، فأغادر البيت لابتياع طعام “بيلا”، فأشتري عادةً كميات زائدة لإطعام كلاب الشارع.

تتبعني الكلاب حين تراني.. تتقافز حولي فتهز خواصرها، كأنما تؤدي رقصاتها تعبيرًا عن الحب، فألقي لها من رزق الله ما تيسر.

أعلم يقينًا أن وجود الحيوانات الضالة في الشوارع يحمل مخاطر صحية على الإنسان، غير أني لن أخذل جائعًا “ذا كبد رطبة” يتوسم أن أبره.

**** **** **** ****

يطلب المستاءون من انتشار الكلاب، من الدولة العمل على حل المشكلة، وفق قيم ومبادئ الرحمة والرفق بالحيوانات، بينما يزعم مسؤولون وجود حزمة خطط تتوخى ذلك.

إزاء هذا الكلام لا أملك إلا أن أجلجل بضحكة رقيعة، أو أطلق صوتًا إسكندرانيًا حلقيًا.

في بلد ينام فيه المشردون تحت الكباري، ويهيم المرضى العقليون على وجوههم، ويلتحف أطفال الشوارع العراء، مرتجفين منتفضين تحت بطشة ريح الشتاء، ولا أحد يسأل عنهم أو بالأحرى يسأل فيهم، سيغدو من الحماقة أن نتوهم أن الكلاب ستلقى الرفق الذي يُحرم منه البشر.

سأطعم الكلاب ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، عسى أن يرحمني البارئ الذي منح كل مخلوقاته الحق في الحياة، وعساه يغفر لي ذنوبي، مثلما غفر لرجل نزل بئرًا فملأ خفه ماءً، فسقى كلبًا كان يأكل الثرى من العطش.

“جبر الخواطر على الله”.. ومصر ليست جنة بيئية وصحية، حتى نخشى من أن انتشار الكلاب سيقوضها.

عندما نحل مشكلات الماء والطعام والهواء والتلوث البيئي والسمعي والبصري حلولًا رشيدة، سنجد بالضرورة الحل الرحيم والمتحضر لأزمة الحيوانات الضالة، والمؤكد أن هذا الحل لن يشمل “تصفيتها عرقيًا” أو الكف عن إطعامها.

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة