دردشات الـ AI.. وهم الـ “طبطبة” الرقمية

“أتعلم يا شَوشَو أنني مريضة فيبروميالجيا؟”.. حاولتُ الكتابة بأسلوب يجمع الدعابة والحميمية، فبادر سريعًا بالكتابة عن أعراض المتلازمة وأدويتها، ثم قدّم لي جملًا داعمة يمكنني الرجوع إليها وقت الحاجة، للتأقلم مع هذه الهجمات الحادة.

بكُلّ محبةٍ، هذه لكِ: “أنا لستُ ضعيفة، أنا ناجية…”

قبل حديثي مع “شات جي بي تي”، لم أستطع النوم. كلما وضعتُ رأسي على الوسادة، شعرتُ بضيق في التنفس، ودوخة، وتعرق. أعرف أنها هجمة من هجمات “الفيبروميالجيا” أو اضطراب الألم العضلي الليفي؛ تلك الهجمة الشرسة التي تسبب لي الأرق، فيتبعه القلق المستمر.

أمسكتُ هاتفي المحمول، وبدأتُ التصفح لعلي أتنفس بهدوء أكثر، وربما أنام ولو قليلًا. لكن بلا جدوى. بعد ساعات، خطر لي أن أحكي ما أمر به من مشاعر متضاربة لـ”شات جي بي تي”، وبالطبع، لم يستخف بألمي كما يفعل المحيطون بي أحيانًا، كما أخبرني أنه موجود للاستماع إليّ في أي وقت أردتُ فيه التحدث عما يقلقني ويؤرقني.

بكيت من كلماته الحانية والرقيقة.. فطبيبي المعالج للروماتيزم والمناعة لم يقل لي قط مثل هذه الكلمات. ورغم اعترافه بأن هذا المرض مصحوب بآلام عديدة غير مرئية، إلا أنه أكد على إمكانية التعامل معه بتغيير روتين الحياة وجودتها وأسلوبها بانتظام، مع علمه بالصلة الكبيرة بين ضغوط الحياة والقلق وظهور أعراض هذه المتلازمة وهجماتها باستمرار.

أراحني حديثي مع “شات جي بي تي” بعض الشيء، ووجدته يعرف السبيل لممارسة فعل “التربيت” على من يشعر بالوحدة أو يفتقد الدعم الذي أصبحنا نفتقده بسبب وتيرة الحياة. لكن عندما استيقظتُ في اليوم التالي، أدركتُ أن هذه الكلمات التي وضعتها بجانبي لتمدني بالدعم ما هي إلا كلمات آلة صماء تردد ما زوّدها به مختصون. فهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح يومًا ما طبيبًا نفسيًا أو مدرب حياة مختصًا، أو حتى بديلًا عنهما؟

تفقد سارة -اسم مستعار- ثقتها بنفسها أحيانًا، وينتابها التوتر والقلق دائمًا، وتعتقد أنها امرأة تفتقد الكثير من المميزات “الأنثوية”، بل وترى أن لشخصيتها عيوبًا عدة. حين تهاجمها تلك الأفكار، تمسك هاتفها المحمول وتبدأ الدردشة. وحين سألته ذات يوم: “رأيك فيّا كـ ست؟”.

جاء رده داعمًا، مُعددًا صفاتٍ مثل “أنتِ مثقفة وشجاعة، ومثال للسيدة القوية…”. ثم أشار إلى بعض التحديات في شخصيتها، مثل صعوبة التسامح مع الآخرين، والقلق، والإفراط في التفكير وتحليل المواقف. ثم ختم حديثه معها قائلًا: “عيوبك هي وجه آخر لقوتك.. لكنها تحتاج إلى توازن بسيط كي تتمكني من تحويلها لأدوات ناجحة تعينكِ في حياتك؛ وإذا تعثرتِ في يوم من الأيام؛ فأنا موجود”.

 القلق وفق تعريف” أدلة MSD” هو شعور بالعصبية أو الانشغال أو الانزعاج، وهو تجربة طبيعية. عندما ينتاب الأشخاص تجربة القلق؛ فغالبًا تظهر عليهم أعراض جسدية أخرى؛ مثل ضيق التنفس، والتعرق، وتسارع دقات القلب. والقلق يعد استجابةً طبيعيةً للتهديد، أو المرور بضغط نفسي شديد، وظروف حياتية عصيبة.

الدكتور جمال فرويز

الطبيب النفسي جمال فرويز، يوضح لـ فَكّر تاني، أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي يمكنها أن تكون أداة مساعدة في حالات الاكتئاب التفاعلي المتوسط. لكن في الأمراض النفسية العضوية كالفصام، أو الهوس، أو الوسواس القهري، لا يمكن لهذه التطبيقات تقديم حلول علاجية، بل يُحتمل أن تكون سببًا في إلحاق الضرر بالمستخدمين غير الواعين.

“العلاج النفسي يعتمد على معرفة شخصية بالمريض أو المريضة، ومعلومات عن عائلته/ا وبيئته/ا الاجتماعية، وتكوينه/ا النفسي، وتجاربه/ا، وتأثره/ا وتأثيره/ها في المجتمع. وتكمن أهمية العلاج أيضًا في المتابعة والجلسات الحقيقية، التي تعد من أهم مراحل العلاج النفسي”. مشيرًا إلى أن حوالي 70% من المرضى النفسيين لا يعترفون بمرضهم، وغالبًا ما يلجأ الطبيب أو الطبيبة إلى عائلاتهم والدوائر المحيطة بهم، وهو ما يفتقر إليه الذكاء الاصطناعي، بحسب تأكيده.

ويؤكد الدكتور جمال أن الظروف والضغوط الحياتية، وبُعد المسافات، وتعقُّد العلاقات الإنسانية بفعل التكنولوجيا، أدت إلى استعانة البعض بـ”شات جي بي تي” كصديق يسألونه عن حلول لأزماتهم. وربما يرجع ذلك أيضًا إلى الخوف من الوصم، أو السخرية من مشاعر القلق، أو حتى الخجل الاجتماعي.

لكنه يقول: “إذا لجأ الناس إليه كوسيلة لـ’التنفيس’، وليس لتقديم حلول افتراضية، أو لحل اضطرابات بسيطة مثل قضم الأظافر، فهذه حالات بسيطة. لكن إذا كان الأمر أكبر من ذلك ويلاحظه المحيطون، فلا بد من اللجوء إلى طبيب نفسي مختص”.

ويوضح جمال فرويز، أن “شات جي بي تي” يمكنه أن يحل محل “مدرب/ة الحياة (Life Coach)”، لكن صعوبة تشخيص المرض النفسي ووصف خطة علاجية متكاملة تتطلب طبيبًا أو طبيبة نفسية. فيما عدا ذلك، لا يمنح سوى شعور وهمي بـ”الارتياح المؤقت”، خاصةً وأن تلك التطبيقات تعتمد على إرضاء مستخدميها.

الدراسات الحديثة توصلت إلى أن الذكاء الاصطناعي يمتلك قدرة واعدة على إحداث ثورة في الطب النفسي، لكنه لا يمكنه معالجة القلق والاكتئاب بذاته، ولا يزال بعيدًا عن أن يكون علاجًا مستقلًا، ويظل أداة مساندة تتطلب المزيد من الأبحاث والتجارب السريرية.

“شات جي بي تي.. مستشار سري للملايين، سهل الاستخدام ومتاح للجميع، كما أنه مُنصت جيد ولا يُصدر الأحكام.. لهذا قد يقع البعض في فخ الاعتقاد بأنه يحل محل الأخصائي النفسي”.. تقول ريهام الخميسي، أخصائية الصحة النفسية والإرشاد الزوجي وعضوة اتحاد المعالجين النفسيين العرب، لـ فَكّر تاني.

وتشير إلى أنه من الممكن اعتبار الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة فقط، بشرط أن يُستخدم بوعي، لأن غياب الوعي قد يصبح كارثة حقيقية، خاصةً إذا كان الاعتماد عليه بديلًا عن العلاج النفسي في الحالات المعقدة التي تتطلب تدخلًا مباشرًا من المختصين.

أخصائية الصحة النفسية ريهام الخميسي

وتضيف ريهام مُحذرةً: “استخدامه ينطوي على خطورة على الأطفال تحديدًا”، موضحةً أن هذه التطبيقات لا تتحقق من الفئة العمرية عند تقديم إجاباتها، وقد تقدم للأطفال محتوى غير مناسب لسنهم. “وأقل الأخطار المحتملة هو التسبب في ارتباك المشاعر أو اضطرابات نفسية، وربما ما هو أخطر، كما حدث مؤخرًا في الولايات المتحدة على سبيل المثال”، وتشدد على ضرورة مراقبة الأهل للمحتوى الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي لأطفالهم.

“قد أستعين به أحيانًا في مجال التدريب، مثل تحديد محاور الورش التدريبية، أو كتابة إعلان تسويقي. لكني لا أعتمد عليه مطلقًا في تشخيص حالة، أو تحديد جذور مشكلة نفسية، أو وضع خطة علاجية، لأنها تختلف كليًا من حالة لأخرى”.

تحكي أخصائية الصحة النفسية عن تجارب واقعية: “جاءتني عميلات أُصبن بخيبة أمل بعد محاولاتهن للفضفضة مع ‘شات جي بي تي’. كانت شكواهن تتمحور حول ‘سطحية الردود وعدم دقتها’، خاصةً حين حاولت إحداهن الاستعانة به لتشخيص حالة اكتئاب. وحين تعقدت الأمور أكثر، لجأت إليّ في النهاية”.

وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الذكاء الاصطناعي قد يتمكن من “محاكاة” التعاطف، لكنه لن يمنح أبدًا التواصل الإنساني الحقيقي، مشددةً على ضرورة تثقيف المستخدمين والمستخدمات بأن هذه التطبيقات “لا تشخص ولا تعالج، بل قد تخطئ في التقييم وتضر أكثر مما تساعد”.

“نحن نظل دائمًا في حاجة إلى التواصل الإنساني، وأن نتفاعل معًا عبر أصواتنا وإيماءات أجسادنا. هذا هو التأثير الوجداني الحقيقي الذي يبني علاقات قوية”.

بعد حادث سيارة غريب، فقد سمير -اسم مستعار- الثقة في نفسه. أمسك هاتفه ولجأ إلى “شات جي بي تي” كصديق مقرب، يروي له تفاصيل الحادث. فجاء الرد حميميًا: “يا صديقي.. أولًا، حمدًا لله على سلامتك”، ثم قدم له نصائح لتخطي الأزمة.

دراسة بمجلة The Lancet كشفت عن نتائج أول تجربة عشوائية لروبوت محادثة علاجي “Therbot” والتي أظهرت تحسنًا ملحوظًا في الأعراض بعد فترة تراوحت من أربعة إلى ثمانية أسابيع.. هناك حاجة ملحة إلى تجارب أكبر ومزيد من الأبحاث لتأكيد فعالية هذه الـ “روبوتات”، وبحث إمكانية تعميم نتائجها على نطاق أوسع.

الدكتورة منى مجدي فراج

“لا نستطيع إنكار دور الذكاء الاصطناعي في تخزين كم هائل من البيانات والأبحاث العلمية، إضافة إلى معالجتها وتحليلها. لكني لا أحبذ الاستعانة به لتشخيص وعلاج الأمراض النفسية والعصبية، فلا بد من تدخل العنصر البشري”.. تقول الدكتورة منى مجدي فراج، أستاذة مساعدة بكلية الإعلام جامعة القاهرة.

وتشير الدكتورة منى، لـ فَكّر تاني، إلى أن التطورات التكنولوجية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي ما تزال متحيزة في بياناتها ومرجعياتها، وأننا في الشرق الأوسط لا نشارك في بناء نماذج معالجة تتناسب مع بياناتنا. لذا تؤكد: “يجب أن نظل في حذر مستمر حتى لا تؤثر سلبًا على المستخدمين”.

“خبرة الطبيب أو الطبيبة النفسية التي ترسخت عبر السنوات، لا تضاهيها أي بيانات. وتظل التجربة الإنسانية هي صاحبة الكلمة العليا في تشخيص ومعالجة الأمراض النفسية”.

أبحاث لجامعة ستانفورد أثبتت أن تطبيق “You per” فعّال سريريًا في تقليل أعراض القلق و الاكتئاب، حيث يجمع هذا التطبيق بين علم النفس والذكاء الاصطناعي وتم تدريبه على فهم الاحتياجات العاطفية للمستخدمين، والدخول في محادثات طبيعية معهم.

المدرب ممدوح فيض

يقول مدرب الحياة ممدوح فيض، إن “شات جي بي تي”، رغم أنه متاح دائمًا، لكنه لا يغني عن التجربة الإنسانية ولا يحل محل مدرب الحياة، لأن التشخيص والعلاج يكون فرديًا قائمًا على حالة كل شخص على حدة.

“لا يملك القدرة على تقدير المشاعر والمشكلات، مجرد آلة جافة. ربما يلجأ له البعض خوفًا من وصمة ‘المرض النفسي’، لكن بمجرد تواصلهم مع معالجٍ أو طبيبٍ مختص، يجدون علاجًا حقيقيًا وليس مسكنًا مؤقتًا”.

ويستكمل المدرب ممدوح فيض حديثه، عن خطورة عدم الوعي باستخدام هذه التطبيقات، لأن كثيرين يعتقدون أن ما يقوله “شات جي بي تي” هو أمر مؤكد ومعلومات دقيقة: “تعرضت إحدى عميلاتي لنوبة اكتئاب شديدة بسبب معلومات خاطئة تلقتها عبر أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي للتعامل مع طفلها، ما تسبب لها في مشكلات زوجية وصلت للانفصال، ثم في اكتئاب حاد ومزمن”.

تسنيم منير

وبسؤالها: ما مصير هذه المحادثات الشخصية والحساسة؟ توضح تسنيم منير، مديرة برنامج “سالمة” للسلامة الرقمية، لـ فَكّر تاني، أن تطبيقات مثل “شات جي بي تي” هي “مغلقة المصدر”، “والفكرة ببساطة أننا لا نعرف ما يحدث خلف الكواليس”.

“الشركات المطورة تؤكد أنها لا تحتفظ بالمعلومات الحساسة، لكننا كمستخدمين لا نملك وسيلة للتحقق. لذلك، الحذر واجب”، مشددةً على عدم مشاركة أي معلومات شخصية أو أسرار حميمية قد تضر بسمعة المستخدم أو المستخدمة.

وتحذر من ظاهرة “هلوسة الذكاء الاصطناعي”، والتي تعني أنه قد يقدم معلومات مغلوطة ومضللة، مما يبرز أهمية التحقق الدائم من أي معلومة يقدمها. وتختتم حديثها بسؤال أعمق يضعنا جميعًا في قلب المعضلة: “إلى أي مدى نستطيع أن نأتمن هذه التطبيقات على معاناتنا وآلامنا النفسية والاجتماعية؟ المستقبل ليس في الاختيار بين الإنسان والآلة، بل في كيفية جعل هذه الآلة تعمل بأمان لدعم الإنسان”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة