في مشهد تحفظه المدينة عن ظهر قلب، يتقلب الناس فيه بين طرقها وأرصفتها فرارًا من هلاكٍ محتوم، وتحتفظ البنايات فيه بقوة نادرة، تحاول الصمود أمام تغيرات مناخية كثيرة لم تعد تقوَ على حملها وحدها، فتنهار على رؤوس سكانها وتشاركهم هلعها، عقارات الجمرك والأنفوشي والابراهيمية ووسط المدينة.
شباب الإسكندرية ونساؤها وأطفالهاو شيوخها، يبكون ذكرياتهم في الطرقات، والحماية المدنية تنتشل ما تحت الأنقاض ببرود قاتل، لا يستسلمون، ويحاولون الوقوف مرة أخرى دونها ويبحثون عن مكانٍ آخر يضم أرواحهم المسلوبة، بالطبع مع انتظار العوض.
على أرصفة الشاطبي، يتجلى السؤال: كيف يمكن توعية السكندريين بمخاطر التغيرات المناخية والتي تؤثر بالطبع على العمران والمباني التراثية في المدينة بسبب ملوحة البحر؟ وكانت الإجابة.. في الكتب. كتب التراث العمراني التي تحملها عقول الشباب على مقاهي شارع سعد زغلول، وتؤكدها الألسنة.

السر في الكتب
تبحثان عن شيء يبدو نادرًا من النظرة الأولى، تدققان الفحص في كل دار نشر. شابتان تبدوان مهمومتين وعيونهما حائرة، تفتشان في كل ركن من أركان مكتبات سور الأزبكية المشاركة في معرض مكتبة الإسكندرية، فلقيتا الغاية: ركن كتب التراث العمراني.
“أنا ساكنة في الأنفوشي، لما موج البحر بيعلى بحس إنه هيزحف علينا، مببقاش مطمنة من ساعة ما بدأت أشوف عمارات بتقع وظروف مناخية صعبة بنتعرض ليها هنا في إسكندرية، وده بيخليني أترعب على عمارتنا القديمة واللي يدوبك واقفة بالعافية، ومحدش عارف مين فينا اللي ساند التاني”.. تحكي روان محروس لـ فكّر تاني.
وتوضح روان -17 سنة، كيف أن هاجسها اليومي المتمثل في انهيار البناية التي تسكن فيها، ولروان رؤية عن أحوال تلك البنايات القديمة في المنطقة والتي تحبها بشدة مع خوفها من أن يضع القدر علامات حمراء عليها ذات يوم، لم يكن بمقدورها فعل أي شيء سوى القراءة والحديث المطول مع خبراء في التراث العمراني حتى تعي بدورها جيدًا في ظل تلك التغيرات.
والدا روان يؤمنان جيدًا بما تفعله بل ويشجعانها على ذلك، فهي تحاور الجيران وتعقد معهم لقاءات شبه دورية، تحدثهم فيها عن الأشياء التي اكتسبتها من الكتب، عن كتب التراث العمراني الموجودة في المكتبات والتي يعيرونها لبعضهم البعض.
“بتكلم أكتر مع اللي في سني، لأنهم أقل خبرة وعندهم شغف كبير أنهم يفهموا أكتر، كمان عارفين كويس معنى التمسك بالأماكن والأشياء الخاصة، زي ما يكون عندهم نوستالجيا”. أما عن كتب التراث العمراني والتي لا تتوفر في أماكن غير مكتبة الإسكندرية إلا نادرًا، تقول روان: “مالهاش جمهور عام خالص، وبندوخ وراها، أنا شخصيًا معرفش أماكن أو مكتبات متخصصة، بس بدور في أي أرشيف سواء إلكتروني أو هنا في كل معرض”.
وتؤكد بسمة أمين، لـ فكّر تاني، والتي عملت بجناح سور الأزبكية بمعرض مكتبة الإسكندرية الماضي، أن الطلب على كتب التراث العمراني القديمة يتزايد هذا العام. وهو لم تلحظه جيدًا العام الماضي بسبب إقبالهم على كتب فلسطين وتاريخ الغزاويين والروايات المترجمة، موضحةً أن هذا هو ما جعلها تتساءل: لمَ قد يهتم شباب في مقتبل عمرهم بمجال متخصص ويحتاج إلى بحث مطول مثل كتب التراث العمراني؟
ويقول محمد كمال الباحث بكلية التاريخ جامعة الإسكندرية، أن المدينة تتعرض لتغيرات عمرانية كثيرة ووجب الحفاظ عليها، وأقل ما يمكن فعله هو الوعي بما يحدث، حيث تتسبب التغيرات المناخية في تسرب مياه البحر إلى البيوت التراثية والبنايات القديمة جدًا التي تجاوزت عمرها المائة عام.

النجاة في الوحدة
تتكرر هذه الدعوة في كل شوارع الإسكندرية تقريبًا بطرق غير مباشرة وأحيانًا مباشرة، فالناس منذ العاصفة الأخيرة في يونيو الماضي يخافون سقوط الأسقف عليهم وهلاكهم في كل لحظة، وتتحول المدينة في الشتاء إلى فعل مقاومة قاسي، كل شيء فيها يقاوم الانهيار، المباني والعمارات والجمادات والأرصفة والأنفاق والبشر.
ساد القلق الواضح، لما تتعرض له بنايات الإسكندرية من انهيارات، وأصبح أهلها يعانون هاجسًا أخر، انهيار ذكرياتهم أيضًا، وهو ما لا يستطيعون التعبير عنه سوى بالإقبال على الكتب والبحث المتكرر في الأرشيف الإلكتروني، عما يمكنهم فعله كأهالي ويحول دون سقوط هذه العمارات، أو حتى الإجراءات التي يستطيعون السير فيها كي تتحرك الحكومة.
ولم تكن المعاناة اليومية كافية لإقناع الحكومة ببذل المزيد لتطوير وحماية المباني، وانقطاع خدمات المياه والكهرباء لساعات متواصلة لأيام بعد انهيار المبان في منطقة مثلًا، ليس على رأس اهتمامات المسؤولين، والرعب الذي يعيشه السكندريون في تلك الأثناء يمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية فيما بعد، من انهيار المدارس أو إغلاقها أو تأثر حركة المرور في الشوارع لبعض الوقت.
اقرأ أيضًا: ثلوجٌ لا تذوب.. نساء الإسكندرية صمدن أمام العاصفة
على فين يا إسكندرية؟
تعبر هدير أيمن، 27 عامًا، عن خوفها المستمر من سقوط العمارات وتعرض مناطق تراثية هامة للانهيار فيما يفكر المسؤولون بمشروعات تخطيط الإسكندرية الجديدة، وتؤكد لـ فكّر تاني: “كأن حياتنا دي وهم وفجأة بتتمسح كل ذكرياتنا في البيوت، والمطلوب ندور على أماكن جديدة نسكن فيها ونغير مدارسنا وجيراننا، أنا بحس بتهديد لحياتي مع كل عمارة بتقع حتى لو مش جنبنا، بس مجرد إنها في إسكندرية ومفيش حل.. بخاف”.
كان الحل المناسب من وجهة نظر هدير هو توجهها لمكتبة الإسكندرية والبحث المعمق عن تاريخ المدينة، فقد كانت تحب حفظ تراثها في عقلها وترويه لكل من تصادفه سواء على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد ذلك جاءتها الفكرة للعودة لكتب التراث العمراني التي تتكلم عن نشأة المدينة أصلًا وكيفية تخطيطها وترميم مبانيها، فوجدت كتاب “الإسكندرية الماضي والحاضر” الذي يوثق التغيرات العمرانية والاجتماعية خلال مائة عام ومرفق به صور أرشيفية وحديثة تلقي الضوء على ضرورة الحفاظ على الطراز المعماري للمدينة.
“الكتب دي هي أرشيف المدينة اللي بتختفي قدامي يوم ورا التاني”.

لم يعد هذا المشهد فرديًا، فكتب التراث العمراني لم تعد للمعمارين والمؤرخين فقط، بل انجذب لها المجتمع السكندري بكل أطيافه، من شباب الجامعة وطلاب المدارس وكبار السن، ولم تعد المعارض هناك تظاهرة ثقافية فقط، بل باتت تشكل حالة عطش جماعي لاستعادة صورة المدينة القديمة، الجميلة صاحبة المباني التراثية، في مواجهة حاضر عمراني قاسٍ ومستقبل مهدد بتغيرات مناخية مربكة.
وهذا ما يؤكده مشرف جناح دار “المصرية اللبنانية” للنشر والتوزيع في معرض المكتبة الماضي، لـ فكّر تاني، فالقراء لا يهتمون بالتراث العمراني السكندري فقط، لكنهم يهتمون بشكل أوسع بأي كتب تراثية يمكنها صياغة وعيهم الحقيقي تجاه التراث والعمران بطريقة جديدة.
ويوافقه مشرف دار “العين” للنشر والتوزيع في حديثه مع فكّر تاني، فالكثير من القراء يقصد دار العين من أجل توسيع أفكارهم عن التراث العمراني، برغم أن أن الكتب الموجودة في الجناح تخص عمارة القاهرة وتراثها، ويقول مؤكدًا: “القضية مش محلية، بس الإسكندارنية زهقوا وعايزين يفهموا صح فبيتعلقوا بأي قشاية”.
وفق دراسة صادرة عن اليونسكو في 2022، توضح أن اهتمام المجتمعات المحلية بالتراث العمراني الخاص بها يزداد في أوقات التهديد، فيبحث الناس عن ذاكرة الأماكن قبل أن تضيع ويفتشون عن الوعي في كل الوسائل.
والتغيرات المناخية التي تمر بها الإسكندرية في البحر الذي أصبح مصدر تهديد كبير. وزحف مياهه على الأحياء الساحلية جعل سكان الجمرك والأنفوشي يترقبون وقوع البنايات التي مضى عليها أكثر من مائة عام في أي وقت، يعيشون على حافة الخطر دون تأمين حياتهم.
إضافة إلى تآكل أجزاء من الكورنيش كل عام، تأتي المشكلة الأكبر في الرطوبة التي لم تألفها المدينة وتذيب واجهات العمارات المطلة على الكورنيش والمساكن القديمة، والحرارة التي لم يعد يطيقها الأهالي بجانب برد الشتاء القارص والأمطار التي تزيد من فرص سقوط البنايات.
وفي دراسة أخرى صادرة عن مجلة إرث فيوتشر تؤكد أن هناك أكثر من 7000 مبنى في الإسكندرية مهدد بالانهيار، ووصل معدل سقوط المباني من عقار واحد إلى أكثر من 40 عقار سنويًا في الأعوام الأخيرة.
فيما يشرح المهندس المعماري فؤاد عبد السلام ما آلت إليه الأحوال في المدينة، وهي تواجه مزيجًا من التحديات المناخية المعقدة التي تنعكس بشكل مباشر على العمران، ويرجع السبب بحسب حديثه مع فكّر تاني، أن الإسكندرية مبنية على طبقات أرضية هشة تسمح بتسرب ملوحة المياه إلى التربة مع ارتفاع مستوى البحر، ما يؤدي لتآكل الخرسانة والحديد في أساسات البنايات.
“أنا شايف كمان إن شبكات الصرف غير مؤهلة لاستقبال مياه الأمطار واللي بتزيد كل سنة، المياه بتغمر بحري وكوم الدكة بشكل كبير وبتضعف البيوت أكتر والحل إننا محتاجين نغير الشبكات دي لأنها من عقود كتير”.
مؤكدّا، أن الإسكندرية تحتاج إلى سياسات بناء جديدة ومعالجة عميقة لواقع البنايات الموجودة بالفعل عن طريق استخدام مواد مقاومة للأملاح والرطوبة، وتوزيع السكان في المناطق المختلفة بدلًا من تكثيفهم في المناطق المهددة بالانهيار، وتوعية المواطنين بخطورة الواقع الحالي والمستقبل المهدد لحياتهم.

“لقيت في كتب دار العين الحاجات اللي عايز أفهمها، وإزاي التراث ده قيم، وإسكندرية فيها من كل العصور، مش قادر أفهم ازاي بيوت شالت جنسيات ياما وقصص كتير تقع علشان بس احنا مش فاهمين نحافظ عليها ازاي” هكذا يقول عم رشدي، 62 عامًا، لـ فكّر تاني.
فيما تعلق ماهي أمين، طالبة بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية على حديثه أنها رأت في الكتب عزاءً تبحث فيها عن ماضي الثراث وتاريخ العمارة بكل صورها ليكون سبيلها هو الفهم لمقاومة الخوف في ظل التغيرات غير المفهومة لذكرياتها.
هذه الشهادات تؤكد أن كتب التراث العمراني صارت شأنًا يمس قلوب الناس العاديين، وأن القراءة فيها والبحث تخفي ورائها محاولة النجاة اليومية بأبسط الطرق المتاحة، وهذا ليس معناه أن الناس تخاف الموت بقدر ما يخافون موت المدينة وهم أحياء.
ما الحل؟
منذ بداية أزمة انهيار المباني وإزالة الأماكن التراثية، قامت عدة مبادرات مجتمعية في الإسكندرية مثل جمعية وصف الإسكندرية الذي أسسها المهندس المعماري محمد جوهر عام 2013، وهي مشروع بحثي يهدف إلى جرد وتوثيق التراث العمراني والثقافي عن طريق رسم المباني وجمع القصص من السكان الشاغلين للتوعية بالقيمة المعمارية لهذا التراث.
أما اتحاد “أنقذوا الإسكندرية” فيضم معماريين ومحامين وعاملين بقطاع السياحة، ويمارس الضغط من أجل نشر الوعي العام ولفت انتباه الحكومة بشأن ثراء التراث ووضع حد لعمليات الهدم.
كذلك، أنشأ معهد جوتة الألماني بالإسكندرية عام 2019 مبادرة”الجراج الثقافي”، وهي مساحة ثقافية تنادي بحفظ التراث العمراني وتنادي باستغلال المساحات دون المساس بالعمران من أجل دعم المشهد الثقافي المحلي والتوعية بمخاطر هدم المباني وكذلك التجريب الثقافي ودمج الفنون بالعمران.
في النهاية؛ يعتبر إنقاذ تراث الإسكندرية هو إنقاذ لهويتها الباقية وذاكرتها في عقول الأجيال الموجودة، ولا يحتاج الأمر سوى تحرك حكومي جاد ودعم من المجتمع السكندري لتفعيل البرامج المدروسة لترميم المباني وتطوير البنية التحتية.
