حُلم السيارة الجديدة “مُعلق في رقبة الفائدة”

يقضي محمد مسعود وقتًا عند الميكانيكي أكثر مما يقضيه في منزله، على حد وصفه. السيارة التي يملكها تعود لعام 1980 من طراز 128، والتي اشتراها قبل ثلاث سنوات، كانت تمثل له أملًا في الدخول ببرنامج إحلال السيارات المتقادمة، لكن المبادرة أُلغيت، وتركته ظروفه المالية عاجزًا عن تحمل أقساط سيارة جديدة.

مسعود وغيره كثير مثال لبقايا الطبقة الوسطى التي تعاني في مصر. فعلى الرغم من طرح طرازات جديدة بأسعار تبدأ من 650 ألف جنيه وتراجع أسعار المستعمل، لا يزال حلم امتلاك سيارة “زيرو” معلقًا. والمشكلة الأساسية، كما يوضح رئيس أحد معارض السيارات، تكمن في الفائدة المرتفعة التي تجعل سعر سيارة قيمتها 650 ألف جنيه يتضاعف عند شرائها بنظام التقسيط على مدى 5 سنوات، لتتحول الأقساط إلى عبء يفوق قدرة الكثيرين.

وهم السيارات الرخيصة

هذا العبء الذي يشعر به مسعود وغيره يترجم نفسه بوضوح في لغة الأرقام الرسمية الصادرة عن السوق، والتي ترسم صورة قاتمة للواقع.

بحسب تقرير “المجمعة المصرية للتأمين الإجباري للمركبات”، شهد شهر أغسطس وحده تراجعًا ملحوظًا في عدد السيارات “الملاكي” التي صدرت لها وثائق تأمينية وتم ترخيصها، حيث بلغ العدد 19,558 سيارة فقط، مسجلةً انخفاضًا بنسبة 7.9% عن الشهر الذي سبقه.

هذا الرقم لا يعكس مجرد تباطؤ، بل هو مؤشر على إحجام شريحة واسعة من المشترين المحتملين.

وفي مقابل هذا الانكماش في سوق السيارات، هناك سوق أخرى تزدهر كبديل اضطراري. إذ واصل عدد الدراجات النارية المرخصة ارتفاعه، ليبلغ إجمالي ما تم ترخيصه منها في أغسطس 28,013 دراجة نارية، بارتفاع نسبته 1.1% عن الشهر السابق.

هذه الأرقام المتضادة تكشف عن تحول اجتماعي واقتصادي عميق: فالحلم المؤجل لسيارة تحمي الأسرة من تقلبات الطقس والمواصلات، يتم استبداله بحل عملي وفردي تفرضه ضرورات الحياة، وهو الموتوسيكل.

المفارقة أن هذا الإحجام يأتي في وقت تحاول فيه الشركات جذب المشترين بطرازات تحمل لافتة “الأرخص في مصر”.

سيارة بي واي دي "F3" موديل 2025
سيارة بي واي دي “F3” موديل 2025

فعلى سبيل المثال، تتصدر سيارة بي واي دي “F3” موديل 2025 قائمة الأرخص بسعر رسمي يبدأ من 650 ألف جنيه للفئة الأولى ذات ناقل الحركة اليدوي، ويرتفع إلى 730 ألف جنيه للفئة الأوتوماتيك. تليها في المرتبة الثانية سيارة بروتون ساجا الماليزية، التي طُرحت بفئة واحدة بسعر 670 ألف جنيه، معززة بضمان يمتد لخمس سنوات أو 150 ألف كيلومتر.

حتى شركة “نيسان” دخلت على الخط بطرح موديل 2026 من سيارتها “صني” بسعر 650 ألف جنيه للفئة الأولى (يدوي)، و710 آلاف جنيه للثانية (أتوماتيك).

لكن هذه الأسعار، التي تبدو مغرية على الورق، تظل مجرد سراب حين تصطدم بواقع الأقساط البنكية، وهو ما يؤكده أحمد سالم، الذي كان ينتظر خروج سيارته القديمة من ورشة الدهان، بقوله إن شراء سيارة جديدة بالتقسيط حاليًا “حلم صعب المنال”، فالأقساط الشهرية لأقل الطرازات سعرًا لا تقل عن 10 آلاف جنيه.

متحف السيارات المتهالكة

هذه المعضلة المالية لا تتوقف عند حدود محافظ الأفراد، بل تمتد لتخلق أزمة أعمق وأخطر تسري في شوارع مصر بأكملها، وهي أزمة أسطول السيارات المتقادم. فحين يعجز المواطن عن شراء الجديد، ويتمسك بسيارته القديمة، يتحول الشارع المصري تدريجيًا إلى متحف متحرك لسيارات متهالكة.

الأرقام التي كشفت عنها شعبة السيارات باتحاد الغرف التجارية تدق ناقوس الخطر؛ إذ يبلغ إجمالي عدد المركبات التي تجوب طرقات مصر نحو 9.95 مليون مركبة بنهاية عام 2024.

المثير للقلق أن نصف هذا الأسطول الضخم تقريبًا مر على تصنيعه 20 عامًا أو أكثر، بينما تقدر بعض الإحصاءات أن عدد السيارات التي تجاوز عمرها 30 عامًا يصل إلى مليون و400 ألف سيارة، وهي مركبات يفترض منطقيًا أن يتم “تخريدها” واستبدالها بأخرى حديثة أقل استهلاكًا للوقود وأكثر أمانًا.

هذا الأسطول المتهالك لا يمثل عبئًا على أصحابه فقط من خلال الصيانات المكلفة، بل هو قنبلة بيئية موقوتة.

وقد حذرت الإدارة العامة للمركبات بجهاز شؤون البيئة مرارًا وتكرارًا من أن هذه السيارات القديمة تزيد من معدلات تلوث الهواء بشكل خطير، مؤكدةً في تقاريرها أن نسبة المركبات القديمة التي تتجاوز انبعاثات عوادمها الحدود المسموح بها تتراوح ما بين 6% و12%، وهو ما يساهم في تفاقم الأزمات الصحية والبيئية في المدن المكتظة.

وهنا تكتمل الدائرة المفرغة التي يعيشها المواطن والسوق والدولة على حد سواء، وهو ما يلخصه المثل الدارج في السوق بأن “السيارات الجديدة للفقير (بسبب انخفاض تكاليف صيانتها) والسيارات القديمة للغني (لقدرته على تحمل تكاليف إصلاحها الباهظة)”.

سيارة متهالكة في مصر (متداولة)
سيارة متهالكة في مصر (متداولة)

الإحلال.. ضربة في حلم التجديد

في خضم هذه الأزمة، جاء القرار الحكومي بإنهاء “المبادرة الرئاسية لإحلال السيارات القديمة” في فبراير الماضي ليمثل عبئًا إضافيًا على الراغبين في التجديد.

كانت المبادرة تمثل نافذة أمل للكثيرين مثل محمد مسعود، حيث كانت تمنح صاحب السيارة القديمة “حافزًا أخضر” يمثل 10% من قيمة السيارة الجديدة، بالإضافة إلى تسهيلات في السداد تصل إلى 10 سنوات.

إلغاء هذا البرنامج، الذي كان يستهدف بشكل مباشر تجديد الأسطول المتهالك، واستبداله بمبادرة أقل طموحًا تقتصر على تحويل السيارات للعمل بالغاز الطبيعي، أغلق الباب أمام شريحة واسعة كانت تعتمد على هذا الدعم الحكومي لاتخاذ خطوة الشراء.

هذا القرار لم يؤثر فقط على المشترين الأفراد، بل كانت له انعكاسات مباشرة على أسواق فرعية نشأت خصيصًا للاستفادة من المبادرة. ففي منطقة الملك الصالح بمصر القديمة، على سبيل المثال، كانت ورش تجديد سيارات “فولكس فاجن بيتل” (الخنفساء) قد شهدت انتعاشًا، حيث كان البعض يشتري هذه السيارات القديمة بهدف إدخالها في المبادرة والاستفادة من فارق الأسعار والأقساط الميسرة.

المحلي.. هل يكفي لإنقاذ السوق؟

في مقابل هذا التراجع في دعم المستهلك، تركز الحكومة جهودها على دعم جانب الإنتاج. ففي مايو الماضي، أقر مجلس الوزراء برنامج حوافز جديد لتشجيع شركات السيارات على تسريع بناء خطوط تجميع جديدة وتعميق المكون المحلي، بهدف الحد من الاستيراد وتحفيز الصادرات.

ويرى المستشار أسامة أبو المجد رئيس رابطة تجار السيارات، أن ثمار هذه السياسة بدأت بالظهور، معتبرًا أن السبب الرئيسي وراء تراجع أسعار السيارات المستعملة بنحو 25% منذ بداية العام هو وجود ما يقرب من 7 مصانع جديدة للإنتاج المحلي، متوقعًا أن يتجاوز عددها 10 مصانع بنهاية العام.

ويتوقع أبو المجد، في حديثه لـ فَكّر تاني، أن يشهد سوق المستعمل مزيدًا من الانخفاضات في النصف الثاني من 2025 قد تصل إلى 30%، ناصحًا الراغبين في الشراء بأن “هذا هو الوقت المناسب” للسيارات التي يقل سعرها عن 1.5 مليون جنيه، بينما دعا لانتظار دخول ماركات جديدة منافسة في فئة السيارات الأعلى سعرًا.

لكن حجم الإنتاج الحالي لا يزال متواضعًا، حيث لا تتجاوز الطاقة الإنتاجية السنوية لمعظم المصانع حاجز الخمسة آلاف سيارة، باستثناء شركات كبرى مثل “نيسان” و”غبور” و”شيفروليه” التي تنتج حوالي 10 آلاف سيارة سنويًا، ومعظم هذا الإنتاج موجه بالكامل للسوق المحلية دون وجود صادرات حقيقية.

حجم الإنتاج الكلي للسيارات المجمعة في مصر خلال 2025 يُقدر بنحو 60 ألف سيارة (وكالات)
حجم الإنتاج الكلي للسيارات المجمعة في مصر خلال 2025 يُقدر بنحو 60 ألف سيارة (وكالات)

ويُقدر حجم الإنتاج الكلي للسيارات المجمعة في مصر خلال 2025 بنحو 60 ألف سيارة، وهو رقم ضئيل للغاية مقارنة بدول مثل جنوب أفريقيا (650 ألف سيارة) والمغرب (530 ألف سيارة) اللتين توجهان أكثر من 60% من إنتاجهما للتصدير، بحسب الخبراء.

رهان على المستقبل

على الرغم من تواضع أرقام الإنتاج الحالية، تبدو الخطط المستقبلية طموحة للغاية. إذ تستعد 9 شركات سيارات جديدة، محلية وعالمية، لدخول السوق المصرية خلال العامين الجاري والمقبل، بطاقات إنتاجية مستهدفة تصل إلى 165 ألف سيارة.

هذا الرقم، إن تحقق، سيرفع إجمالي السيارات المجمعة محليًا إلى 260 ألف سيارة، وهو ما يتجاوز مستهدفات الحكومة بنحو 160%، والتي تطمح بدورها لتجاوز حاجز 400 ألف سيارة سنويًا بحلول عام 2030. وهو توسع مدعوم باستثمارات ضخمة، حيث تخطط 5 من كبريات الشركات العاملة في السوق وهي “جي بي أوتو”، “نيسان”، “جاك”، “المنصور”، و”القصراوي”، لاستثمار ما مجموعه 630 مليون دولار لتدشين مصانع تجميع جديدة بهدف تقليل الاعتماد على الاستيراد.

يرى عمر بلبع رئيس الشعبة العامة للسيارات بالاتحاد العام للغرف التجارية، أن هذا الدعم الحكومي لقطاع التجميع المحلي ليس غاية في حد ذاته، بل هو “مرحلة انتقالية تمهّد للتصنيع الكامل مستقبلًا”.

ويؤكد بلبع، في تصريحاته لـ فَكّر تاني، أن تعميق المكون المحلي في عمليات التصنيع يساهم بشكل مباشر في رفع كفاءة الإنتاج الوطني، وتقليل الاعتماد على الواردات، وهو ما ينعكس إيجابًا على الميزان التجاري ويدعم العملة المحلية.

ويضيف أن الأثر الاقتصادي يتجاوز المصانع نفسها، حيث يخلق قطاع السيارات آلافًا من فرص العمل في سلاسل التوريد المرتبطة به، مثل قطاعات النقل وقطع الغيار والخدمات اللوجستية، مما يساهم في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني بشكل متكامل.

خطوة للأمام وأخرتان للخلف؟

لكن في الوقت الذي تتجه فيه الدولة لدعم صناعة السيارات التقليدية، تبدو رسائلها متناقضة ومربكة في ملف السيارات الكهربائية، الذي يمثل مستقبل الصناعة عالميًا. فبينما أعلنت الحكومة عن خطط طموحة لإنشاء مدينة متكاملة لصناعة السيارات والتوسع في إنتاج السيارات الكهربائية وتوطين التكنولوجيا الحديثة، اتخذت قرارًا مفاجئًا برفع أسعار شحن هذه السيارات بنسب صادمة وصلت إلى 180%.

وبموجب القرار الجديد، ارتفع سعر شحن التيار المتردد (AC) من 1.89 جنيه إلى 3.40 جنيه للكيلوواط في الساعة، مما رفع تكلفة شحن بطارية كاملة (100 كيلوواط/ساعة) من 189 جنيهًا إلى 340 جنيهًا. أما الشحن السريع بالتيار المستمر (DC)، فقفز سعره من 3.75 جنيه إلى 6.55 جنيه، لترتفع تكلفة شحن نفس البطارية من 375 جنيهًا إلى 655 جنيهًا.

هذا القرار، الذي يبدو معوقًا لانتشار السيارات الكهربائية، يدافع عنه المستشار أسامة أبو المجد، رئيس رابطة تجار السيارات، معتبرًا أنه “خطوة ضرورية لتأمين مستقبل تلك السيارات”. ويوضح أن شركات الشحن، التي لا يتجاوز عددها 9 شركات، استثمرت ملايين الدولارات في بنية تحتية ضخمة لا تحقق حتى الآن عائدًا يغطي تكلفتها، وكان من الضروري إعادة النظر في الأسعار لضمان استمراريتها.

يضيف أبو المجد أنه حتى بعد هذه الزيادة الكبيرة، لا تزال السيارات الكهربائية “موفرة بأكثر من 50%” مقارنة بالسيارات التقليدية العاملة بالوقود.

حلمٌ معلّق في رقبة الفائدة

وهكذا، تتكشف أزمة سوق السيارات في مصر كلوحة معقدة ومتشابكة، لا تحكمها ندرة المعروض أو غياب الطرازات الاقتصادية، بل يقبض على خناقها متغير واحد حاسم: سعر الفائدة البنكية.

فكل الجهود المبذولة من الدولة والمصنعين لضخ استثمارات جديدة، وتعميق الصناعة المحلية، وطرح سيارات بأسعار تنافسية، تبدو وكأنها تصب في وعاء مثقوب، يتسرب منه حلم المستهلك عبر فجوة الأقساط التي لا ترحم.

المشهد برمته أصبح عبارة عن مجموعة من المفارقات الصارخة: حكومة تدعم بناء المصانع لإنتاج سيارات لا يستطيع غالبية مواطنيها تمويل شرائها، وسوق يمتلئ بسيارات “رخيصة” على الورق لكنها باهظة في الواقع، وأسطول متقادم يلوث البيئة ويستنزف الجيوب كان من المفترض إحلاله بمبادرة تم إلغاؤها، وطموح لدخول عصر السيارات الكهربائية يبدأ برفع تكلفة تشغيلها.

لكن في نهاية هذا النفق، يظهر بصيص من الضوء قد يغير المعادلة بأكملها. ففي خطوة طال انتظارها، خفض البنك المركزي المصري، الخميس الماضي، أسعار الفائدة للمرة الثالثة منذ بداية عام 2025، بواقع 200 نقطة أساس (2%). وبموجب هذا القرار، وصلت أسعار عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي إلى 22% و23% و22.5% على الترتيب، ليصل إجمالي التخفيضات منذ بداية العام إلى 5.25%.

هذه النسب المئوية ليست مجرد أرقام اقتصادية جافة، بل هي الأمل الذي يتعلق به السوق بأكمله.

فمع توقعات الخبراء بأن البنك المركزي قد يقدم على تخفيضات جديدة تتراوح بين 2% و3% في الشهور القادمة، يظل حلم الحصول على سيارة جديدة، بالنسبة لمحمد مسعود وأحمد سالم وملايين غيرهم من أبناء الطبقة المتوسطة، مرهونًا بهذه القرارات. فكل نقطة مئوية تنخفض بها الفائدة، هي خطوة تقرّبهم من تحقيق حلم بسيط ومؤجل: امتلاك سيارة جديدة لا تجبرهم على قضاء وقت عند الميكانيكي أكثر مما يقضونه في منازلهم.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة