هي أمٌّ مكلومة، تعيش بين انتظار خبر سار يُعلن عن مكان احتجاز ابنها أحمد، الذي لا يزال مكانه غير معلوم منذ أكثر من ست سنوات، وبين متابعة التبعات الصحية والنفسية لابنها محمد حسن، المصور الصحفي، الذي تنهار صحته مع كل ضغط نفسي، ليكون ضيفًا جديدًا على مستشفى آخر، بلا أفق واضح للحل، فيما تتمزق الأم يوميًا.
تُعرف العديد من الأمهات في رحلة معاناة السجون مع أبنائهن، من بينهن الأكاديمية ليلى سويف والدة السجين السياسي علاء عبد الفتاح، والأكاديمية وفاء حفني والدة السجينة السياسية مروة عرفة، وسناء عبد الجواد والدة المحبوس احتياطيًا أنس البلتاجي زوجة النائب الأسبق والأكاديمي المسجون محمد البلتاجي.
لا يوجد حصر رسمي بعدد سجناء الرأي والسياسة في مصر، فيما تنفي القاهرة وجود محتجزين على خلفية قضايا سياسية، وتعتبر تلك القضايا جنائية يختص بها القضاء المصري. لكن منظمات حقوقية غير حكومية تشير إلى وجود آلاف من السجناء السياسيين والمحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا رأي.
وتنكر السلطات المصرية، بشكل متكرر، وجود جريمة الاختفاء القسري في البلاد، بينما تتهم منظمات حقوقية محلية ودولية السلطات بالتورط فيها، وتؤكد وجود عدد من ضحايا هذه الجريمة داخل السجون.
معاناة كبيرة
“ادعوا لماما، لأن ده كتير والله عليها؛ واحد بتشوفه بيتألم بشكل مفزع، وتاني متعرفش عنه حاجة. مين يقدر يستحمل كل ده؟ الرحمة واللطف من عندك يا رب”؛ تكتب ابنتها المحامية الحقوقية نورهان مصطفى، على حسابها بـ فيسبوك، الذي اعتادت في العامين الماضيين استخدامه لنقل معاناة أسرتها، والتعبير عن غضبها وحزنها، اللذين تعتبر أنهما بلغا مستويات غير مسبوقة.
هي صوت والدتها السيدة “و. أ.” على مواقع التواصل الاجتماعي، ورسولها إلى الفضاء الإلكتروني، وقد نقلت بعض مشاعرها في اليوم العالمي لمناهضة التعذيب، من خلال حساب “أحمد حسن فين؟” على فيسبوك.

تشير نورهان إلى حجم الألم النفسي الذي تعانيه أمهات “المختفين قسريًا”، قائلة: “إنك تعيش سنين مش عارف ابنك فين، ترتّب هدومه، تحضّر له عيد ميلاده، وتسيب مكانه فاضي على الطربيزة، وتحس بذنب إنك لسه عايش… وإنك بتضحك أوقات، وهو مش هنا. وكل ده بيحصل من غير إجابة، من غير اعتراف، من غير حتى حقك تعرف”.
بمناسبة مرور 2260 يومًا على “اختفاء” أحمد، فتحت والدته خزانة ملابسه، لتفتح معها نوافذ لألم لا يهدأ، تروي تفاصيله نورهان:
“من يومين، ماما فتحت دولابك ترتّب هدومك. أنا مقدرتش أقرب… مقدرتش أبص على حاجتك وإنت مش حواليها. ماما بترتّب هدومك الجديدة اللي متلبستش، وهدايا عيد ميلادك اللي جابتها علشان لما ترجع تفرح بيها… وكل حاجة فيهم سؤال ملوش إجابة”.
في حديثها لـ فَكّر تاني، تقول نورهان: “ماما بتعاني بسبب اللي بيحصل مع أحمد، وقلبها ما عادش يحتمل مرض محمد، والضغط اللي بيتعرض له بيخلي معاناتها أضعاف”.
وأضافت أن الأسرة تمر بمرحلة صعبة، ما بين رحلة البحث عن أحمد، ومعاناة محمد الصحية المتكررة بعد خروجه من السجن، مؤكدة أن والدتهما تدفع ثمنًا باهظًا من صحتها، وتخشى العائلة من أن يتسبب ذلك في تدهور حالتها.
وكان قد أُفرج عن محمد حسن قبل أكثر من عامين، وعاد إلى العمل الصحفي، إلا أن الضغوط النفسية، لا سيما تلك المرتبطة بقلق والدته المستمر، أدت إلى تعرضه لانتكاسات صحية متكررة، استدعت دخوله المستشفى في أكثر من مناسبة.
تحرك حقوقي وقانوني
في 16 مايو الماضي، سلطت المفوضية المصرية للحقوق والحريات الضوء على معاناة أسرة أحمد ومحمد حسن، وخاصة والدتهما. وأشارت إلى أنها قادت حملة للحديث عن أحمد والمطالبة بمعرفة مصيره ضمن حملتها الممتدة المعنونة بـ “أوقفوا الاختفاء القسري”، وهي الحملة التي استمرت لسنوات.
وأصدرت العديد من المؤسسات الحقوقية، بيانات متكررة تضامنية مع أسرة أحمد حسن، للافصاح عن مكانه دون جدوى.

أحمد هو الأخ الأصغر بين 4 إخوه (محمد ونورهان وأميرة)، من مواليد 16 أغسطس 2000، طالبًا في الفرقة الأولى بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وحصل على تقدير جيد جدًا في الفصل الدراسي الأول، وذلك حين تعرض للاختفاء القسري كما تقول أسرته والمنظمات الحقوقية غير الحكومية، حيث لم يكن أكمل عامه الثامن عشر، أما حاليًا تجاوز عمر أحمد 24 عامًا.
وتقدمت أسرة أحمد ببلاغ للنائب العام بتاريخ 17 سبتمبر 2024، للمطالبة بالكشف عن مكان احتجازه، حمل رقم 59353 لسنة 2024 عرائض النائب العام، ولكن قوبل هذا البلاغ بالحفظ، وفق بيان المفوضية المصرية، فيما لم يتسنى لنا الحصول على تعليق النيابة العامة.
وفي أكتوبر 2024، طالبت أكثر من 15 منظمة حقوقية منها المبادرة المصرية للحقوق والشخصية، والمفوضية المصرية للحقوق والحريات، بالكشف الفوري عن مصير أحمد حسن، والسماح لعائلته ومحاميه بمعرفة مكان وظروف احتجازه والتحقيق في كافة الشكاوى والبلاغات التي قدمتها الأسرة بشأن الواقعة.
نداء أسرة
أطلقت نورهان مصطفى، عبر فَكّر تاني، نداءً موجّهًا إلى من يهمه الأمر، قالت فيه: “كل الأمنيات البسيطة عند ناس، هي معجزات عند ناس تانية. وكل اللي بتمناه إن المعاناة دي تخلص… إني ماقفش أتفرّج على أمي وهي بتموت بالبطيء. كل أمنيتها تشوفه، تحضنه، وتتأكد إنه بخير، يعيش حياة طبيعية من غير خوف ولا وجع ولا معاناة. أمي مش بتحلم بحاجات كبيرة… بس إنها تشوف ولادها حواليها وبخير. إحنا عايشين كل يوم في المجهول، واللي أصعب من ده كله إنك تكون عاجز، مش قادر تساعد اللي بتحبهم”.
هذا النداء، الذي وصفته نورهان بأنه رسالة شخصية من والدتها إلى كل جهة قادرة على تغيير الواقع، يأتي بعد مرور أكثر من ست سنوات على اختفاء أحمد، واستمرار معاناة الأسرة في ظل غياب أي استجابة رسمية أو تطمينات حول مصيره.
