صعّدت الإدارة الأميركية من وتيرة ضغوطها على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في مسعى لإنجاز اتفاق وقف إطلاق نار في قطاع غزة، وسط جهود دبلوماسية مكثفة شهدتها العاصمة الأميركية خلال مطلع الأسبوع الجاري، عبر سلسلة اجتماعات عالية المستوى.
ورغم وجود تفاهم أولي حول خطوط الصفقة المقترحة، والتي تقوم على هدنة طويلة مقابل الإفراج عن رهائن، لا تزال التباينات بين الشروط الإسرائيلية والمطالب التي تطرحها حركة “حماس” تشكّل عقبة أمام تحقيق اختراق حقيقي في مسار المفاوضات.
في تقرير تحليلي نشرته شبكة ABC News، تناول الصحفيان شانون ك. كينجستون وكريس بوشيا أبرز ملامح هذا التعقيد في مسار المباحثات، كاشفين عن أبعاد أوسع تتجاوز الوضع الإنساني والعسكري في غزة، إلى طموحات الرئيس الأمريكي ورهاناته الجيوسياسية في الشرق الأوسط.
هدنة هشة مقابل مكاسب ملموسة
وفقًا للتفاصيل التي أوردها تحليل كينجستون وبوشيا، يرتكز المقترح الراهن على معادلة واضحة: هدنة مؤقتة تمتد لستين يومًا مقابل مكاسب ملموسة للأطراف المعنية.
فمن جهة، يتضمن الاتفاق إطلاق سراح عشرة من الرهائن الإسرائيليين الذين يُعتقد أنهم على قيد الحياة، بالإضافة إلى استعادة رفات ثمانية عشر آخرين، وهو ما يمثل أولوية قصوى للمجتمع الإسرائيلي. وفي المقابل، تلتزم إسرائيل بإطلاق سراح أعداد من الأسرى الفلسطينيين، وزيادة جوهرية في تدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
إلا أن هذه البنود، رغم وضوحها الظاهري، تخفي خلفها تفاصيل فنية وسياسية معقدة. فالآلية التي سيتم بها توريد وتوزيع المساعدات لا تزال، بحسب مسؤول مطلع، نقطة تفاوض شائكة.
والأهم من ذلك، أن الأطراف الوسيطة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تنظر إلى هذه الهدنة ليس كغاية في حد ذاتها، بل كجسر يمكن العبور من خلاله نحو مفاوضات أكثر تعقيدًا تهدف إلى إنهاء دائم للحرب، وهو الهدف الذي لطالما تحطمت على صخرته الجهود الدبلوماسية السابقة.

صراع الإرادات حول مستقبل الحرب والحكم
يتبلور الخلاف الأكثر عمقًا، كما يوضح التحليل، حول الرؤى المتباينة لمرحلة “اليوم التالي”. فحركة حماس تسعى للحصول على ضمانات سيادية بأن وقف إطلاق النار المؤقت هو خطوة لا رجعة عنها نحو إنهاء شامل للحرب، مع استمرار المحادثات إلى ما بعد فترة الستين يومًا إذا لزم الأمر.
في المقابل، ترفض إسرائيل بشكل مطلق أي التزام من شأنه أن يكبل قدرتها على المناورة العسكرية مستقبلًا، وتصر على الاحتفاظ بكامل حريتها في استئناف العمليات العسكرية متى رأت ذلك ضروريًا لأمنها.
ويتشعب هذا الخلاف ليشمل ملف إدارة القطاع مستقبلًا، حيث تفرض واشنطن وتل أبيب “فيتو” مشتركًا على أي دور سياسي أو إداري لحركة حماس، خشية استنساخ ما يصفانه بـ”نموذج حزب الله” في لبنان.
وفي سياق متصل، تخوض الأطراف معركة نفوذ حول إدارة المساعدات، إذ تطالب حماس بإنهاء كامل لعمل “مؤسسة غزة الإنسانية” (GHF) المدعومة أمريكيًا، مقابل عودة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وهو ما تبدي واشنطن مرونة حذرة تجاهه، وتلمح إلى إمكانية الوصول إلى صيغة “مزيج” بين الطرفين، كما أشار السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة داني دانون، لكن دون التخلي عن نفوذها في هذا الملف الحيوي.
أجندة ترامب.. غزة كرافعة لـ “نصر كبير”
يكشف تحليل كينجستون وبوشيا أن الاندفاع الأمريكي الحالي في ملف غزة لا يمكن تفسيره بمعزل عن الأجندة الأوسع للرئيس دونالد ترامب، والتي تنظر إلى وقف إطلاق النار ليس كهدف إنساني فحسب، بل كرافعة لتحقيق ما وصفته دانا سترول، نائبة مساعد وزير الدفاع السابقة لشؤون الشرق الأوسط، بـ”نصر برأس مال كبير” (Victory with a capital V). فالرئيس، الذي بنى جزءًا من هويته السياسية على كونه “صانع صفقات” ينهي الحروب، يسعى للاستفادة من الزخم الذي حققه بعد وساطته لوقف إطلاق النار في إيران، وتكرار هذا النموذج في الساحة الفلسطينية-الإسرائيلية.
ووفقًا لسترول، فإن الدعم العسكري والسياسي غير المسبوق الذي قدمته واشنطن لإسرائيل خلال حربها الأخيرة مع إيران منح ترامب “نفوذًا وورقة ضغط حقيقية”. والرئيس “لم يكتفِ بالكلمات، بل وضع موارد حقيقية على الطاولة”، وهو ما يمنحه الآن، من وجهة نظرها، الأرضية الصلبة ليطلب من نتنياهو بشكل مباشر “إنهاء الحروب في غزة”.
يُنظر إلى زيارة نتنياهو لواشنطن، بالتالي، ليس كزيارة بروتوكولية، بل كـ”جلسة عمل” تهدف إلى حسم ملفات عالقة وتحديد مسار “اليوم التالي”.

من غزة للرياض.. إلى اتفاقيات أبراهام
تذهب الأبعاد الاستراتيجية إلى ما هو أبعد من ذلك. فإدارة ترامب ترى في حل أزمة غزة مدخلًا لإحياء وتوسيع مشروعها الدبلوماسي الأبرز: اتفاقيات أبراهام. ويهدف ترامب إلى استكمال مسار التطبيع الذي بدأ في ولايته الأولى، وضم أطراف إقليمية وازنة، على رأسها المملكة العربية السعودية، إلى دائرة السلام مع إسرائيل.
تدرك واشنطن أن تحقيق هذا الهدف يتطلب “موافقة إقليمية واسعة”، وأن دولًا مؤثرة مثل السعودية لن تقدم على خطوة كهذه دون رؤية مسار واضح لحل القضية الفلسطينية، أو على الأقل تحقيق تقدم ملموس في غزة.
وهنا يبرز تعقيد آخر، إذ إن هذه الدول العربية المؤثرة تصر على أن أي ترتيب مستقبلي لغزة يجب أن يمنح السلطة الفلسطينية دورًا مركزيًا، وهو ما تعارضه إسرائيل بشدة. وبالتالي، يجد ترامب نفسه أمام مهمة شاقة تتمثل في التوفيق بين رؤى متناقضة: طموحه لتوسيع التطبيع، وشروط حلفائه العرب، والخطوط الحمراء التي تضعها حكومة نتنياهو.
وبحسب التحليل، فإن المحادثات المستمرة على “المستوى العملي” مع هذه العواصم العربية تهدف إلى إيجاد صيغة مقبولة، قد تتضمن أيضًا خطة مثيرة للجدل سبق أن أيدها نتنياهو وتتعلق بإعادة توطين سكان غزة، مما يجعل من المفاوضات الحالية حجر زاوية في محاولة أمريكية طموحة لإعادة رسم خريطة التحالفات في الشرق الأوسط.
هل يكفي التدخل الأمريكي؟
وفي الأخير، فإن مفاوضات غزة الحالية تتجاوز كونها مجرد جولة دبلوماسية لإنهاء القتال، لتشكّل لحظة مفصلية قد تحدد مسار توازنات القوى في الشرق الأوسط. فالهدنة المؤقتة، حتى وإن تم التوصل إليها بضغط أمريكي، لن تكون سوى نقطة بداية لعملية سياسية شاقة ومحفوفة بالمخاطر، محورها حل معضلة “اليوم التالي” التي تتقاطع عندها الرؤى المتناقضة لجميع الأطراف.
ورغم أن إدارة ترامب تمتلك، بحسب تقديرات دانا سترول، أوراق ضغط كافية لنسج ما يشبه “الصفقة الكبرى” التي تربط غزة بإيران والسعودية، إلا أن نجاح هذه المناورة الطموحة يبقى في نهاية المطاف رهينًا بمدى استعداد الأطراف الرئيسية، وتحديدًا إسرائيل وحركة حماس، لتقديم تنازلات مؤلمة تمس صميم عقيدتها الأمنية وهويتها السياسية.
قد تنجح واشنطن في فرض وقف لإطلاق النار، لكن تحقيق سلام مستدام يتطلب ما هو أكثر من مجرد النفوذ الأمريكي؛ إنه يتطلب إرادة سياسية حقيقية لا تزال غائبة عن طاولة المفاوضات حتى الآن.
