الطريق إلى المصيف.. احذر أمامك مطب مادي وأخلاقي

لأربعة أصدقاء كـ: أحمد، ومريم، وخالد، وليلى، لم يكن الأول من يونيو مجرد بداية شهر، بل موعدًا لتجديد العهد السنوي مع الفيروز.

كان طقسهم المقدس يبدأ بالتخطيط وينتهي بالغوص في مياه سيناء الساحرة. حلمٌ يتكرر كل عام، تتحول فيه الرمال الذهبية والشواطئ الهادئة إلى خطة محكمة غرضها الهروب من ضغط الحياة.

“أصحاب عُمر وعشرة زمن” جمعهم رابطٌ أخوي تجاوز العشرين عامًا، نسجته سنوات الطفولة والمراهقة في نادٍ واحد. منهم من تزوج وانفصل، ومنهم من سافر وعاد. سنوات طوال بقيت تلك الصداقة خلالها سندًا نادرًا في زمن تتآكل فيه الروابط. ولهذا، لم تكن هذه الرحلة السنوية مجرد مصيف، بل تأكيدًا على بقاء شيء جميل. جميل يُبقي في إنسانيتهم ما يُجيد مقاومة زحام مادية يعيشونها في المدينة.

لإحياء الصداقة ثمن في زمن التضخم

أمام شاشة حاسوبه، جلس المهندس أحمد، ثلاثيني شارف على عامه الأربعين، وقد ارتسمت على وجهه علامات حيرة هزت ثقتة في خبرته كمخطط سنوي لهذه الرحلة.

يأسًا تحدث إلى ثلاثتهم عبر مكالمتهم الجماعية: “فاكرين يا جماعة لما رحنا دهب زي دلوقتي من سنة فاتت؟ أهي الرحلة اللي كانت بتكلفنا 5 آلاف جنيه، بقت بتعدّي الـ10 آلاف دلوقتي”.

مريم، صديقتهم التي تعمل في مجال تصميم الجرافيك، كانت تُدرك تأثير التضخم على كل شيء في مصر: “أنت بتقول بالتقريب.. استنى.. أنا فاكرة كويس. كانت الرحلة كلها حوالي 3 آلاف جنيه، شاملة المواصلات والإقامة في فندق 3 نجوم أو كامب محترم. دلوقتي نفس الرحلة عشان تلاقيها بخمسة آلاف، لازم تبقى في مكان تعبان… والأسعار الطبيعية على الأقل 7 آلاف وأكتر!.. أومال أنت فاكر ايه يا أحمد”.

كان خالد، الطبيب الذي يناهز الأربعين، يقلب في هاتفه حينما قاطعهم: “يعني إحنا متوسط دخلنا كشباب في التلاتينات، واللي مننا عنده مسؤوليات وأسرة، بيتراوح ما بين 10 لـ20 ألف جنيه. لما الرحلة الواحدة تاخد مننا 7 آلاف للفرد، فده معناه إننا هنصرف أكتر من نص دخلنا على 4 أيام! ده غير الأكل والشرب والأنشطة اللي أسعارها زادت هي كمان.. هو فيه ايه.. دي ما بقتش رحلة نُخرج بيها من روتين أيامنا”.

وفق بيانات البنك المركزي، سجل معدل التغير الشهري في الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين للحضر، الذي أعلنه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، 1.5% في يناير 2025 مقابل 1.6% في يناير 2024 و0.2% في ديسمبر 2024. وعلى أساس سنوي، سجل معدل التضخم العام للحضر 24.0% في يناير 2025 مقابل 24.1% في ديسمبر 2024.

هذا التضخم بدوره يرتد ارتفاعًا بأسعار الخدمات الفندقية نتيجة لزيادة تكاليف التشغيل، بما في ذلك أسعار المواد الغذائية والمشروبات والطاقة والمستلزمات الأخرى التي تحتاجها الفنادق. كما أن ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل عام يزيد من تكلفة السفر.

التقديرات التالية مبنية على مشاهدات مباشرة من منصات مثل: Booking وGo Bus وAirbnb وBlue bus في يونيو 2025

البند / الفئة تقدير سعر الفرد (يونيو 2024) تقدير سعر الفرد (يونيو 2025) نسبة الزيادة التقريبية
تذكرة أتوبيس (ذهاب فقط) 350 جنيه 700 جنيه 100%
إقامة ليلة في فندق 3 نجوم / كامب 800 جنيه 2200 جنيه 175%
إجمالي رحلة 4 أيام (تقديري) 3,000 – 4,000 جنيه 7,000 – 9,000 جنيه ~130%

بنت وولد.. حين تُحاكم الصداقة أخلاقيًا

للحظات، خيّم الصمت على المكالمة. صمتٌ ثقيل بوزن إحباطهم، لم يكسره سوى رفضهم الاستسلام لجداول البيانات.

كان لا بد من مخرج. وكان أحمد هو من كسر الصمت بمخرج ينقذ رحلتهم. “لحظة بس.. ما تيجوا ندور على شقة كاملة في Airbnb ممكن تكون أوفر”.

تحركت أصابعه بسرعة على هاتفه. “لقيتها! فيه شقق في دهب بأوضتين وسعرها يبدأ من 2500 جنيه لليلة”. قفز صوت مريم متهللًا وهي تجري حساباتها السريعة في محاولة إنقاذ رحلتهم: “ده ممتاز! يعني الليلة هتقف على كل واحد فينا بـ600 وشوية… يلا نحـ —”.

قاطعها أحمد بضحكة بدت ساخرة: “استني بس. ده السعر قبل ما يعرفوا إحنا مين”. ثم شرح لمجموعته الطقس الغريب الذي خاضه للتو على هذا الموقع، وكيف يتغير كل شيء في اللحظة التي يذكر فيها أنهم “مجموعة مختلطة” من الأصدقاء. اللهجة الودودة تتلاشى، ليحل محلها جدار من التوجس. “فجأة، السعر يتضاعف، أو الشقة تتحول بقدرة قادر إلى ‘للعائلات فقط'”.

حكى عن المكالمة التي أثارت غضبه مع صاحب الشقة: “لما حاولت أعترض وأفهم المنطق، صاحب الشقة قالي بكل برود: ‘يا باشا هو إنت عايز تنبسط ببلاش؟'”. صمت أحمد للحظة، وما يزال الغضب حاضرًا في صوته. “قفلت في وشه طبعًا. بس… ليه فيه إصرار إننا شمال؟ هو محدش في باله إننا بس أصدقاء بنحاول نوفر؟”.

كان خالد يتفهم هذه الثقافة الغالبة التي تقصر العلاقات إما على الزواج أو “الشمال”. مر بتجربة مماثلة، وكان مالك الشقة أيضًا واضحًا تمامًا: “لو شباب بس السعر كذا. لو بنات بس السعر كذا. ولو مختلط، يا إما مش متاح، أو السعر هيزيد الضعف. ده حقي يا أستاذ عشان لو حصلت أي مشاكل!'”.

أُغلق باب آخر في وجوههم، لكن هذه المرة لم يكن القفل ماليًا، بل كان قفلًا من الشك والاتهام بحكم الثقافة المتجذرة في مجتمع يساوي بين المرأة والشهوة. تلك الصداقة تخضع الآن لمحاكمة أخلاقية.

حين يصبح الأجنبي أولى بالثقة

لم يكن الجدار الذي اصطدم به أربعتهم ماليًا أو ثقافيًا فحسب، بل كان له وجه آخر أكثر إثارة للغضب؛ وهو وجه للتمييز الصريح.

ليلى، المعلمة التي اعتادت أن ترى الأمور بمنطق واضح، واجهتهم بحقيقة ربما عايشوها جميعًا واستحوا البوح بها: “يا شباب الأغرب من كل ده، إن القواعد دي كلها بتتبخر قصاد الأجانب. صديقتي الأجنبية حجزت شقة في دهب مع صديقها الأجنبي بدون أي سؤال عن علاقتهم أو طلب لعقد زواج. نفس الشقة، ونفس المالك اللي كان ممكن يرفضنا إحنا”.

هذه المفارقة تكشفت عن جرح أعمق. لم تكن القواعد لحماية “الآداب العامة”، بل قواعد انتقائية تُطبّق على المصريين فقط. هذا ما يؤكده أحمد أيضًا، متذكرًا حالة مشابهة قرأ عنها وقد زادت مشهد التخطيط لرحلتهم عبثية: “المشكلة مش بس في رفض المصريين. قريت من فترة عن ست كانت مسافرة مع شريكها البريطاني من أصل سوري. الفندق رفض يسلمهم الغرفة إلا بشهادة زواج، بحجة إن بلد ميلاده مسلم، مع إن جواز سفره بريطاني… الكوميديا إن العك ده مش قاصر على الجنسية المصرية بس والحمد لله، ده ممتد للبحث في أصول بعض الجنسيات، على حسب مزاج موظف الأوتيل”.

لم يستطع خالد كتم دُعابة وجد الفرصة أفضل ما تكون لإلقائها: “شفتي بقى؟.. يعني بصراحة، أنا كراجل ممكن أنزل مع أجنبيات عادي، لكن أنتم اللي معطلينا! لو مش معانا كان زمانا سافرنا”؛ قالها وتداركها بضحكة مصطنعة حاول بها كسر إحباطة جديدة لرحلة بدت الآن صعبة المنال. الأربعة يشعرون الآن بغربة في وطن.

ليس بحثًا عن رحلة.. بل وطن بديل

على طاولة أحد مقاهي وسط البلد، تناثرت أوراق الحسابات أمام أحمد وقوائم الأسعار المطبوعة كشواهد على معركة خاسرة.

الصمت الذي خيم على الأربعة هذه المرة لم يكن صمت تفكير، بل صمت استسلام. تراجع حماس التخطيط، وحل محله سؤال باهت: وماذا بعد؟

“ممكن نلغي سينا خالص ونعمل رحلة يوم واحد في العين السخنة؟”. كان هذا اقتراح ليلى، قالته وصمتت. لم يكن حلًا، نعم. هو أقرب لإعلان قبول بالهزيمة، ومجرد محاولة باهتة لالتقاط الأنفاس.

أغلق خالد هاتفه بحركة نهائية، وكأنه يغلق صفحة مشروع رحلة لم يعد مشروعًا. نظر إليهم عبر كاميرا جهازه وقال بنبرة تخفي وراءها خيبة أمل عميقة: “أو نوفر الفلوس دي للسفر بره مصر خالص الإجازة الجاية. مين عارف، يمكن تطلع أرخص من هنا!”.

كانت هذه الجملة هي الرصاصة الأخيرة. لقد تحول النقاش من “كيف نسافر داخل بلدنا؟” إلى “كيف نهرب منه؟”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة