من غزة إلى القاهرة.. حراس التراث الفلسطيني في بلاد المهجر

الحرب، منذ بدايتها، ليست مجرد نزاع مسلح بين أطراف متصارعة، بل هي أزمة إنسانية عميقة ومعقدة تمحو ملامح الأوطان والمواطنين، وتهدد التراث الثقافي والهوية، كما تُخلف جراحًا لا تُشفى، على امتداد التاريخ.

تشهد المنطقة العربية، خلال السنوات الأخيرة من هذا القرن، موجات متتالية من الصراعات والنزاعات المسلحة التي تُدمّر البنية التحتية، وتُهدّد حياة السكان، وتُربك استقرارهم اليومي.

يُجسّد المشهد الفلسطيني هذا الواقع المأساوي بكل تفاصيله، إذ تستمر غزة في دفع ثمن الحصار والقصف الإسرائيلي المتكرر، بينما يتحمل المدنيون فاتورة صراع طويل الأمد يدفع فيها الفلسطينيون الثمن جوعًا، واغترابًا عن الهوية، وحرمانًا من حياة آمنة في وطنهم الأم.

تحلم إيناس بالعودة إلى حي الرمال في غزة، حيث بيتها ومشغلها وعائلتها. تستعيد في ذاكرتها تفاصيل ورشتها الصغيرة، وهي تقف فيها تتأمل الأقمشة، وتنسج بأناملها حكايات عن الهوية الفلسطينية والانتماء والتراث.

تُعيد رسم الميدالية التي صنعتها من تطريز جدّتها، لتضع فيها مفتاح البيت، رمز الأمان والانتماء الذي غُرس في قلبها منذ الطفولة. تنسج الثوب الفلسطيني، والشال المطرز، والمعلقات الجدارية ذات الطابع الأصيل، وجميعها تحمل رموزًا تروي حكايات التاريخ الفلسطيني العريق.

تغريبة أولى إلى الشمال

إيناس يحيى فلسطينية في التاسعة والثلاثين من عمرها، سافرت للمرة الأولى من فلسطين إلى قبرص اليونانية لحضور تدريب مهني في التسويق الرقمي للمنتجات المطرزة. سعت من خلال هذه التجربة لتطوير عملها وتوسيع دائرة تسويق منتجاتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

"أغادر غزة في الأول من أكتوبر 2023 للمشاركة في تدريب للتسويق الرقمي في قبرص، وتتم الموافقة على سفري برفقة أربع فتيات من الضفة الغربية وفتاتين من غزة، بالإضافة إلى مشاركات من دول عربية أخرى، من بينها مصر".

"لم أتخيل أن تندلع الحرب، لكن في السابع من أكتوبر، وهو الموعد المفترض لعودتي، يبدأ القصف على غزة، وأجد نفسي عالقة، بلا طريق للعودة".

لم تستسلم إيناس لليأس، ورغم الصدمة التي جمدتها لشهرين كاملين، تنهض في النهاية وتُقرّر أن تبدأ من جديد. تُطلق في القاهرة مشروعها الخاص بالتطريز تحت اسم "مطرزات صبايا"، على خطى مشغلها السابق في غزة، كي توفّر لنفسها مصدر دخل يومي، وتحافظ على استمرارية عملها في الغربة.

لكن إيناس لم تكتفِ بذلك، بل فتحت باب رزق للفلسطينيات العالقات في مصر، عبر إشراكهن في المشروع نفسه، ليحصلن على فرص عمل آمنة ومستقرة. تختار اسم "مطرزات صبايا" لأنه يحمل رمزية الثوب الفلسطيني، وتحديدًا الغزاوي، كما تقول، وهو ما يجعل المشروع امتدادًا لهويتها وذاكرتها.

وبحسب بيان الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أن عدد الفلسطينيين حول العالم يبلغ نحو 14.8 مليون نسمة حتى منتصف عام 2024، بينهم 5.61 مليون يقيمون داخل فلسطين، في حين يعيش نحو 7.4 مليون في الشتات، ويُقيم 6.3 مليون منهم في دول عربية، من بينها مصر.

بدأ مشروع "صبايا" في حي الرمال بمدينة غزة عام 2012، ويعتمد على قواعد متينة وشبكة زبائن محلية وخارجية. لا يقوم المشروع على أيدٍ عاملة بسيطة، بل يضم مجموعة من العاملات الماهرات المدربات جيدًا، إلى جانب ماكينات خياطة متعددة تُعزز كفاءة الإنتاج. لكن، تعرض المشغل للقصف خلال الحرب، بينما نجحت العائلة في إحيائه من جديد بالقاهرة.

بداية العثرة

كان توفير المواد الخام أولى العقبات التي واجهت إيناس عند اطلاقها "صبايا" من القاهرة، وتؤكد لـ فكّر تاني، أن البيئة المصرية تختلف تمامًا عن تلك التي تعتادها في فلسطين: "الدعم المادي كان عائقًا في البداية، لكني أرسلت لجميع عميلاتي من الجاليات الفلسطينية بالخارج، وطلبت منهن دعم المشروع من خلال العودة للشراء عبر الصفحة الخاصة به. ويُشكّل هذا الدعم نقطة انطلاق جديدة لي. وبفضل الأموال التي أربحها من عمليات البيع، أتمكن من شراء المواد الخام المتوفرة في مصر، ويسير المشروع بعد ذلك كما يجب".

من صفحة صبايا

استُخدم التطريز الفلسطيني حتى عام 1948 لتزيين ملابس النساء القرويّات والبدويّات بشكل رئيسي بما في ذلك الثوب والعباءة وغطاء الرأس والسروال؛ وذلك بأنماط متباينةٍ وفقا للمناطق الجغرافية. وتُعتبر الغرزة المُصلبة الأوسع انتشارًا والأكثر ارتباطًا بالهوية الفلسطينية؛ وتُسمى "القطبة الفلاحية" التي أصبحت الأوسع انتشارًا في نهاية القرن التاسع عشر.

وبحلول نكبة 1948، تصدّعت كافة مناحي الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بفلسطين. وأشارت معظم الأبحاث التاريخيّة عن التطريز الفلسطيني إلى حدوث تغيرات واسعة في الممارسات التقليدية للتطريز إِثر الأحداث المأساوية التي سبقت وتزامنت ولحقت بالنكبة، وأدت الضائقة الاقتصادية، وفقدان إمكانية الوصول إلى الأسواق التقليدية للحصول على الأقمشة والخيوط -التي كانت شائعة قبل النكبة- إلى ندرة إنتاج الأثواب الجديدة في أواخر الأربعينيات والخمسينيات؛ بل اضطرت بعض النساء إلى بيع أثوابهنّ من أجل النقود.

وقد ساهمت الحوالات المالية التي كان يرسلها الفلسطينيون والفلسطينيات من العمل في دول الخليج –حديثة الاستقلال آنذاك- مثل الكويت و السعودية في إنعاش هذه الصناعة مرة أخرى؛ فعادت النساء لشراء المواد اللازمة لصنع أثواب جديدة. وفي الستينيّات من القرن الماضي، ظهر بالمخيمات شكل جديد من الأثواب سمي بـ "الثوب الجديد" .

ثوب التحريرة

اعتمد هذا النوع على التطريز الكلي باستخدام الغرزة المصلبة، مع المزج مابين الرسومات الفَلسطينية والأوروبية بأسلوب تجريبي اندمجت فيه الألوان بطريقة جديدة، وكان هذا النمط انعكاسًا للتبادل الثقافي الذي حدث داخل مخيمات اللجوء، كما كان هذا النمط الخطوة الجدية الأولى نحو تحول التطريز بأسره من مجرد ممارسة محلية -تعبر عن البلدة الأصلية والوضع الاجتماعي- إلى رمز يعبر عن الهوية الوطنية الفلسطينية.

وبحلول أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، اتخذت مؤسسات مجتمعية عدة منها جمعية إنعاش الأسرة في رام الله، وجمعية إنعاش المخيم الفلسطيني في بيروت، وقيادة الثورة الفلسطينية قرارًا بضرورة الحفاظ على التراث الفلسطيني في مواجهة الاندثار نتيجة التهجير.

اقرأ أيضًا:

الحنّونة.. حارسة التراث وحافظة الذاكرة

تتفتح "الحنونة" كل ربيع على سفوح الجبال وسهول فلسطين ووديانها، تمامًا كما تزهر الذاكرة الشعبية رغم محاولات الطمس. وفي الأسطورة الكنعانية، ترمز الحنّونة إلى الروح والحياة؛ إذ تقول الأسطورة إن بعل، إله الخصب الكنعاني، يقاتل الإله موت، رمز الشر والغطرسة، فيُقتل بعل وتتناثر قطرات دمه على الأرض، فتُزهر في الربيع التالي زهرة حنّونة في موضع كل قطرة دم. تمثل الحنّونة بذلك روح البقاء، والصمود، والاستمرار.

تنجح هذه الزهرة الرمزية في حفظ التراث الفلسطيني والثقافة الشعبية، رغم التهديدات المتواصلة بالضياع أو السرقة أو التهميش، بل حتى الانتحال. وتتحول جمعية الحنونة إلى مكتبة حية تحتضن كتبًا مرجعية ومواد سمعية وبصرية، فتصبح من أوائل المراجع التي توثق التراث الفلسطيني الغائب والمنسي.

تحكي نعمت صالح رئيسة جمعية الحنونة الفلسطينية للثقافة الشعبية بالأردن، لـ فكّر تاني، أن تأسيس الجمعية يأتي من الإيمان العميق بوحدة الثقافة والموروث، فالحدود الجغرافية تصنع دولًا لكنها لا تصنع ثقافة مغايرة بالضرورة. وتُركز الجمعية على الثقافة الفلسطينية تحديدًا لأنها تواجه أخطر أشكال الاحتلال والاستيطان، ومحاولة سرقة الإرث الثقافي بعد نهب الأرض.

 "تبدأ الفكرة مطلع تسعينيات القرن الماضي، بقيادة الراحل سعادة صالح، التي تؤمن بدور التراث الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. تنطلق الجمعية من مجموعة صغيرة تضم عازفيْن اثنيْن ومغنيًا واحدًا، وتسجّل رسميًا في 4 ديسمبر 1993 لدى وزارة الثقافة الأردنية كجمعية للثقافة الشعبية، وتُكرّس جهودها منذ البداية لاستعادة أصالة ومكانة الثقافة الشعبية الفلسطينية".

بورتريه للراحل سعادة صالح بريشة الزميل احسان حلمي - عن الغد

"تتبنى الجمعية مجموعة من المشروعات الثقافية النوعية، من بينها مشروع إنتاج الأزياء الشعبية الأصيلة "ثوب الحياة"، الذي بدأ عام 2011 بهدف الحفاظ على الثوب الفلسطيني كما كان قبل نكبة 1948. وتنتج الجمعية 50 نموذجًا من الأثواب الشعبية، ويوفر المشروع دخلًا جزئيًا لـ 60 سيدة، ويتضاعف العدد كل عام".

حُلم مُعلق

يصنع محمد أبو شريف الكنافة بإتقان وتمهّل، وكأن كل طبقة من العجين تحكي شيئًا من هويته، يقول لـ فكّر تاني: "الحمد لله أنا مُبدع في مهنتي"، لم تفارقه هذه الحرفة يومًا، حتى وهو عالق الآن في بلد عربي بعيد عن غزة، ما زال يحمل مهنته كما يحمل حنينه في قلبه.

وصل محمد إلى مصر برفقة زوجته وأطفاله الأربعة، باحثًا عن فرصة لتحسين دخله عبر مهنته البسيطة. لم يتخيّل أبدًا أن تكون النهاية على هذا النحو؛ أن يُصبح هو وعائلته عالقين خارج وطنهم. لم يتوقع أن تقف بينه وبين غزة الحبيبة حواجز تمنعه حتى من ممارسة مهنته التي تعني له الكثير، لأنها ترتبط بجذوره وهويته.

"جئت قبل الحرب بستة أشهر لوحدي، عشان أشتغل حلواني زي ما كنت في غزة. وبعدها، قبل الحرب بأربعة أيام، لحقتني أسرتي للإقامة الدائمة، لكن للأسف لقيت الأجور هنا قليلة وما بتكفيني، فقررت أرجع غزة.. لكن قامت الحرب، وعلقنا هنا".

يواجه محمد تحديات كثيرة في غربته. يلاحظ أن ظروف العمل تختلف تمامًا عن تلك التي اعتادها في غزة. في بداية إقامته، اضطر للعمل في مهن متفرقة؛ بمطعم شاورما، وفي متجر ملابس، وغيرها. يتكبّد أعباء المعيشة المرتفعة، ويعيش شهورًا من التحدي والتأقلم القاسي، لكنه لا يستسلم.

رغم كل شيء، يقرر العودة إلى مهنته الأصلية. يصنع الكنافة في المنزل بما توفر له من إمكانيات، ويبيعها لأحد المحلات القريبة من مكان سكنه. يحصل على دعم مالي بسيط من فلسطينيين ومصريين، يساعده في شراء المواد الخام، ويبدأ رحلته الصغيرة في صناعة الحلويات من جديد.

يحلم محمد بامتلاك محل صغير لصناعة الحلويات الفلسطينية، سواء في مكان إقامته الحالي أو في منطقة مجاورة. لكن الحلم يبدو بعيدًا، في ظل وضعه الاجتماعي والاقتصادي. لا يملك ما يكفي من المال، ولا يملك غير الإرادة والصبر. والكنافة التي يصنعها ليست مجرد حلوى. إنها تراث نابلسي عريق. يُقال إن نابلس، التي تُعرف بـ "دمشق الصغرى". 

يتذكر محمد منزله في غزة. بيت من أربعة طوابق، سقط بالكامل بفعل القصف الإسرائيلي. "البيت جه ع الأرض"، يقولها بمرارة. ورغم أنه يعيش الآن بأمان في التجمع الثالث بالقاهرة، إلا أن قلبه هناك. لا يعرف ماذا حلّ بأهله، ولا يصله عنهم شيء. تعيش روحه بين شتات العائلة والحلم المؤجل بالعودة.

لا يرى العودة مجرد انتقال جغرافي. إنها ـ كما وصفها كونديرا ـ عودة كيان وكينونة. عودة للوطن، وللنفس، وللهُوية التي لا تغيب... ولو غابت الجغرافيا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة