يُثير قانون العمل الجديد، المقرّر دخوله حيّز التطبيق اعتبارًا من 1 سبتمبر 2025، كثيرًا من التساؤلات حول حقوق العمال وعلاقاتهم مع مجالس إدارات المنشآت التي يتعاقدون معها، وهو يمثل منعطفًا بارزًا في مسار التشريعات العمالية، إذ رغم ما يشتمل عليه من نصوص إيجابية، مثل المساواة في الأجر وحظر التمييز وإقرار إجازات الوضع ورعاية الطفل، فإن التطبيق العملي لنصوصه يكشف عن ثغرات تنظيمية وجندرية قد تُعيق فعالية حمايته للعمال في القطاعين الرسمي وغير الرسمي.
في هذا السياق، جاءت الندوة المشتركة بين حزب العيش والحرية ودار الخدمات النقابية واتحاد تضامن النقابات العمالية؛ “ماذا بعد قانون العمل؟”، لتسليط الضوء على محاور النقد والفرص، مستندةً إلى خبرات قانونية ونقابية رفيعة المستوى، سعيًا لوضع خارطة طريقٍ لتعديل مسارات التشريع وتطوير إجراءات إنفاذ القانون بما يحقق العدالة الاجتماعية ويعزز دور العمال في التنمية الوطنية.
وقالت وفاء عشري، القيادية في حزب العيش والحرية، إن الهدف من هذا اللقاء هو إثارة تساؤلات جوهرية تمس واقع العمال والعاملات في مواقع العمل، وعلى رأسها مدى قدرة القانون الجديد على تحقيق عدالة حقيقية، خاصةً للفئات المهمّشة. وأشارت إلى أن القانون يتضمن نصوصًا تبدو إيجابية من حيث المبدأ، مثل المساواة في الأجر، وعدم التمييز، وإقرار إجازات الوضع ورعاية الطفل، وتنظيم ساعات العمل وفترات الراحة، غير أن القراءة العملية، خاصة من منظور جندري، تكشف عن فجوات مؤثرة في التطبيق.
وأضافت عشري أن هذه الثغرات تفتح الباب أمام تساؤلات أخرى لا تقل أهمية، من بينها: هل يوفّر القانون ضمانات فعلية للحماية من الفصل التعسفي؟ وهل توجد آليات رقابة ومحاسبة فاعلة تضمن امتثال أصحاب العمل للنصوص القانونية؟
وأوضحت أن كثيرًا من الحقوق المقررة تظل رهينة بقدرة الدولة على فرض الرقابة، وبمدى التزام أصحاب العمل، وهو ما لا يتوافر بالقدر الكافي، لا سيّما في القطاع الخاص وغير الرسمي. ولفتت إلى أن بعض الصياغات القانونية، رغم نواياها الحمائية، قد تُوظف لتقييد فرص النساء بدلًا من دعمهن، خصوصًا في ظل غياب آليات واضحة لتقديم الشكاوى أو ضمانات حقيقية للعمل المرن وتقاسم الرعاية الأسرية. كما أشارت إلى أن هذه الإشكاليات تزداد تعقيدًا في ضوء استمرار امتناع مصر عن التصديق على عدد من الاتفاقيات الدولية المعنية بالحقوق العمالية، وهي المحاور التي تسعى الندوة لتناولها وتحليلها.

قانون العمل المنحاز لرجال الأعمال
واتهم وائل غالي، المحامي وعضو حزب العيش والحرية، القانون الجديد بالانحياز الصريح لمصالح أصحاب الأعمال على حساب حقوق العمال، مشيرًا إلى وجود فجوة مزمنة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي في مصر.

وأوضح أن القانون لم يصدر في فراغ، بل جاء نتيجة سياق سياسي واقتصادي تشكل خلال العقدين الأخيرين، منذ إقرار قانون العمل السابق عام 2003، وهي فترة شهدت تحولات بارزة، من أبرزها الحراك العمالي بين عامي 2008 و2011، والذي وصفه بأنه من أهم مراحل النضال العمالي في التاريخ المصري الحديث.
وأضاف غالي أن المطالبات بتعديل قانون العمل كانت حاضرةً باستمرار، إلا أن البيئة الاقتصادية التي صدر فيها القانون الجديد اتسمت بتحديات كبيرة، منها موجات تضخم متصاعدة، واعتماد متزايد على السياسات النيوليبرالية، وارتفاع وتيرة الاستثمارات الأجنبية، خاصة من دول الخليج، ما شكّل ضغوطًا لتمرير قانون يُوصف بالمرونة لجذب المستثمرين، ولو كان ذلك على حساب الحقوق العمالية.
وأشار إلى أن الانحياز التشريعي ظهر بوضوح خلال مناقشات القانون داخل البرلمان، حيث هيمن رجال الأعمال وأسرهم على اللجان المختصة، ما أدى إلى تغليب رؤيتهم ومصالحهم على حساب العدالة الاجتماعية. ولفت إلى أن هذا التوجه انعكس في استثناء شرائح عمالية واسعة من مظلة الحماية، وعلى رأسهم العاملون في المناطق الاقتصادية الحرة، الذين يقدر عددهم بنحو 200 ألف عامل، فضلًا عن استمرار تهميش العمالة المنزلية، التي لا تزال خارج إطار التنظيم القانوني الشامل.
قانون العمل الغائب عن الحوار المجتمعي
وقد انتقدت رحمة رفعت، منسقة البرامج بدار الخدمات النقابية، ما وصفته بـ”الادعاء غير الدقيق” بشأن صدور قانون العمل الجديد بناءً على حوار مجتمعي فعلي، مؤكدةً أن ما جرى لم يكن سوى عملية متقطعة وموجهة افتقرت إلى التمثيل العادل لكافة الأطراف المعنية، وعلى رأسها النقابات العمالية المستقلة.
وأضافت، خلال كلمتها في الندوة، أن بعض الجولات السابقة، مثل جولة مفاوضات عام 2015، اتسمت بقدر أكبر من الجدية والتوازن مقارنة بالمسار الذي اتُخذ لاحقًا، إذ بدأت الحكومة منذ عام 2017 في طرح مسودات متتالية للقانون، بينما كان النقاش البرلماني يتوقف ويُستأنف دون مبررات واضحة، إلى أن تم تقديم مشروع جديد مطلع هذا العام، وتمريره بسرعة لافتة.
كما أشارت رفعت إلى أن دار الخدمات النقابية تقدمت مرارًا بمذكرات رسمية ومطالب واضحة لعقد جلسات استماع حقيقية، غير أن هذه المطالب لم تلقَ تجاوبًا كافيًا، موضحةً أن اللجنة البرلمانية التي صاغت القانون افتقرت إلى التمثيل العمالي، فيما كان صوت أصحاب الأعمال هو الأعلى تأثيرًا. وقالت إن الجهات الرسمية لجأت إلى عملية انتقائية، أخذت منها ما اعتبرته مناسبًا، وتجاهلت مطالب جوهرية أخرى.

وفي تقييمها للقانون، أكدت رفعت أن رغم وجود بعض المزايا، لا يمكن التغاضي عن العيوب البنيوية التي تمس جوهر الحقوق العمالية. ومن بين النقاط الإيجابية التي رصدتها، المادة التي تُلزم باعتماد الاستقالة من جهة إدارية مختصة، وهو ما يُعد تطورًا هامًا في مواجهة ظاهرة “الاستقالات المسبقة” التي كانت تُستخدم لإسقاط الحقوق الوظيفية للعمال.
كما أشادت بالنصوص التي تحظر صراحة التحرش والتنمر في بيئة العمل، وحماية أجور العمال في حالات الإفلاس، وهي خطوات اعتبرتها متوافقة مع بعض المعايير الدولية.
لكن بالمقابل، شدّدت رفعت على أن القانون الجديد يتضمن ثغرات عميقة، منها إطلاق يد صاحب العمل في تحديد نوع العقود دون ضوابط، ما يهدد بتحويل العقد المؤقت إلى القاعدة، ويقوّض الأمان الوظيفي.
وانتقدت القيود المفروضة على ممارسة حق الإضراب، ووصفتها بأنها “شبه تعجيزية”، خاصة في ظل تعريف “المنشآت الاستراتيجية والحيوية” بشكل فضفاض قد يُستغل لحظر أي احتجاج مشروع. وأشارت كذلك إلى خفض العلاوة الدورية من 7% إلى 3% فقط من الأجر التأميني، في وقت ترتفع فيه معدلات التضخم، معتبرة ذلك تراجعًا خطيرًا في الحقوق المكتسبة.
وأكدت منسقة البرامج في ختام كلمتها أن صدور القانون لا يمثل نهاية المسار، بل بداية لمرحلة جديدة من الضغط والنضال من أجل التعديل، مشددة على أهمية استثمار كل انتهاك أو حالة فصل لتسليط الضوء على الثغرات، مع التركيز على القرارات التنفيذية، خاصةً ما يتعلق بتحديد “المنشآت الاستراتيجية”، وتشكيل المجلس القومي للأجور، واللجان المختصة بطلبات الإغلاق.
وفي حديثه لـ فكّر تاني، يقول المحامي وائل غالي إن الفئات التي لم يشملها القانون، كالعاملات في المنازل والعمالة غير المنتظمة، تخضع لأطر تشريعية متعددة، موضحًا أن “كل حالة تُحكم بقانون مختلف، قد يكون قانون الخدمة المدنية أو القانون المدني أو حتى قانون حوافز الاستثمار”.
مخالفات دستورية وتحديات دولية
قال أحمد المغربي، نائب رئيس اتحاد تضامن النقابات العمالية، إن القانون يحتوي على مواد تُعد مخالفة صريحة للدستور، خصوصًا فيما يتعلق بعمالة الأطفال، والتشريعات الخاصة بتوريد العمالة، وهو ما يتعارض أيضًا مع اتفاقيات العمل الدولية التي لم تصادق عليها مصر حتى الآن.

وشدد المغربي على ضرورة تفعيل التعاون بين النقابات ومنظمات المجتمع المدني من جهة، والمنظمات الدولية من جهة أخرى، لتقديم شكاوى دورية ومتابعة تنفيذ المعايير الدولية في بيئة العمل المصرية.
المادة 14 تفتقر للعدالة

وانتقد صلاح الأنصاري، القيادي العمالي، بعض المواد الجوهرية في قانون العمل الجديد، معتبرًا أنها تُشكل تراجعًا خطيرًا في ضمانات الحماية للعمال.
وخص بالذكر المادة 14 التي تقضي بتحويل ثلثي الغرامات المفروضة على العمال إلى الموازنة العامة للدولة، معتبرًا ذلك افتقارًا للعدالة.
كما أبدى رفضه لإلغاء عقوبة الحبس بحق أصحاب العمل حتى في حالات التسبب بإصابات أو وفيات، مؤكدًا أن هذه الصيغة تضعف الردع القانوني وتحمي المخالفين على حساب سلامة العمال.
ويشدد حمدي حسين المسؤول العمالي بالحزب الشيوعي المصري، في حديثه لـ فَكّر تاني، على أن تجاوز عيوب القانون يقتضي بناء وحدة عمالية صلبة تتجاوز الانقسامات. وهو يعتبر أن توحيد صفوف الطبقة العاملة شرط أساسي لمقاومة التراجعات، من خلال تأسيس نقابات مستقلة وقوية ترتكز على الحقوق الفعلية للعمال. كما يدعو الأحزاب المعنية بالقضايا الاجتماعية إلى تشكيل لجان دفاع عن العمال، وتفعيل لجان توعية في كل ورشة ومصنع، كأداة تنظيمية للنضال والتصدي للثغرات التشريعية.
العمالة غير المنتظمة.. خارج الحماية

ومن جانبها، سلّطت منى عزت، رئيسة مؤسسة النون لرعاية الأسرة، الضوء على غياب العمالة غير المنتظمة عن مظلة قانون العمل الجديد، مشيرةً إلى أنه لا تتوافر حتى الآن بيانات دقيقة حول أعدادهم أو أوضاعهم المهنية.
وبينما دعت رئيسة مؤسسة النون الوزارات المعنية والنقابات العمالية إلى بذل جهد منظم لرصد هذه الفئة وتصنيفها جغرافيًا، تمهيدًا لإدماجها في السياسات العامة، تناولت تأثيرات التغيرات التكنولوجية والمناخية على سوق العمل، لافتةً إلى أن الصيادين من أكثر الفئات تضررًا من الظواهر البيئية الجديدة.
وأكدت أن سياسات التشغيل في مصر يجب أن تضع على رأس أولوياتها تعزيز دمج النساء في سوق العمل، من خلال توفير بيئة عمل آمنة وداعمة نفسيًا، بما يعود بالنفع على النساء والرجال على حد سواء.
