كرم بالإجبار.. رجال يدفعون ثمن “الصورة”

“كل صباح، أعد نقودي وأنا أتهيأ للخروج إلى العمل. في جيبي الأيمن أضع أجرتي الأساسية، وفي الأيسر أستعد بأجرة إضافية لثلاثة رفاق ربما يأتون أو لا، وامتلاك محفظة نقود بات رفاهية لا أملكها”.. هكذا يبدأ عم أحمد الحسانين حديثه إلى فكّر تاني.

كما اكتشف نائب النيابة القادم من العاصمة في “يوميات نائب في الأرياف”، أن ما يُكتب في الدستور لا يُنفذ في الحقول. حين حاول التحقيق في جريمة قتل غامضة، لم يواجه صمتًا بل جدارًا من الأعراف، يقول له أهل القرية صراحة: “نحن نعرف القاتل، لكننا لا نستطيع أن نقول”، لأن ما يربط الناس في الريف ليس القانون، بل “العيب” و”الواجب” و”الكرامة”.

ومثلما خضع النائب لقوة العرف التي أسكتت الضحايا، يخضع اليوم عم أحمد للحتمية نفسها، حتى يحافظ على “صورته”، حيث يتلفت العم أحمد حوله في الميكروباص كلما يركبه بحذر، مُراقبًا.. يخشى أن يرى أحد معارفه وأحبابه أو حتى أقربائه وجيرانه، خوفًا من دفع “أجرة السكة” التي يضع لها ميزانية خاصة من راتبه الذي بالكاد يكفي.

يعمل عم أحمد ذا الـ 56 عامًا، مقاولًا للأنفار في إحدى الشركات الخاصة بالمنوفية، يستقطع 400 جنيهًا لأجرته كل يوم من طنطا إلى شبين الكوم، كما يستقطع ألف جنيهًا إضافيًا لأجرة أحبابه. لم يعد يفعل ذلك بمحبة كما كان يفعل سابقًا، فالأزمة الاقتصادية تخنق أنفاسه.

يسكن في منطقة العجيزي بطنطا، يمشي حتى موقف الميكروباص لتوفير القروش، لكنه لا ينجو من نظرات المحيطين حين يلتقونه، يحمّلونه مسؤولية الدفع لأنه الأكبر سنًا ومقامًا. كل مرة يُخرج فيها النقود من جيبه، يخرج معها إحساس بالثقل والقلق: متى تنتهي هذه الدائرة؟ من يرد له ما يعطي؟ يخاف أن يتوقف عن الدفع فيُتهم بالبخل أو “الندالة”، رغم أن الجميع يعرف أنه مستور لا أكثر.

وللعم أحمد ابن تخرج في كلية التربية وابنة تدرس الطب بجامعة المنوفية. يفتخر بها، ويرى أنها لا تحظى بما تناله قريناتها من رفاهية. نفقات الكلية تُثقل كاهله، لكنه يواصل التحمل، يصمت وهي كذلك.

“الناس في الريف لا يرحمون”، يقولها عم أحمد بألم، مستكملًا: “لا يهمهم إن كنت معدمًا أم غنيًا، فقط يهمهم أن أدفع”. يحمل دينًا يفوق قدرته: 6000 جنيهًا لا يقدر على سدادها، لأن كل وسيلة مواصلات يركبها تعني مصادفة جديدة، ويدًا جديدة يمدها، وهو لا يعرف كيف يقول لا.

تحكي زوجته الست رئيفة لـ فكّر تاني، أنه حين يعود إلى المنزل عابسًا، تعلم أنه قابل أحدًا في الطريق واضطر للدفع. لم تتخيل يومًا أن تتحول هذه العادة الاجتماعية إلى عبء يهدد بقاءهم. كانوا يومًا في منتصف الطبقة المتوسطة، أما اليوم فحفظ كرامتهم بات رفاهية مؤلمة.

“أحمد يرفض الذهاب إلى الدكاترة رغم تدهور حالته الصحية، والسبب ‘غلاء العلاج والكشف‘، بحاول أساعده.. ببيع الخضار في السوق، وبربي طيور على سطح البيت. وبحمد ربنا كل يوم لأن بيتنا ملكنا، طابقان فوق بعضهما. مجرد السكن الآمن يُسعدنا ويخفف عنا”.

في الريف، هناك مقياس “للرجولة”، تُقاس بأعراف لم تُكتب، الرجل “لازم يبقى كريم”، “لازم يبقى قدها”، حتى لو على حساب نفسه. لا يُسمح له بالضعف، لا عذر له إن لم يساعد.

اقرأ أيضًا:اهبطوا منها إلى جحيم الأسعار.. المصريون مطرودون من جنة الفاكهة

مرارة الحاجة لا تُخطئ الطعم

لا يقتصر قلق الفقراء في الريف على اهتزاز صورتهم الاجتماعية، بل يتجاوز ذلك إلى خوف أعمق من الإقصاء والتهميش، تلك المخاوف التي تحاصر عالية -اسم مستعار- الأم المعيلة التي تكافح وحدها لتمنح ابنتيها ما تستطيع.

تعيش عالية في إحدى قرى مركز الفشن في الفيوم، تدفع إيجار السكن 1200 جنيه شهريًا، وأيضًا، تعول زوجها الذي لا تراه إلا إذا احتاج للنقود، يظهر ويختفي كما يحلو له، وتقول لـ فكّر تاني: “أتحمل وحدي مسؤولية الإنفاق والرعاية، دون سند من قريب أو بعيد، بعدما سافر عمي الوحيد خارج البلاد”. ابنتها الكبرى تقترب من الزواج، والصغرى تعاني من حساسية صدر مزمنة، وحياتها كلها قائمة على عمل يومي متقطع لا يضمن لها استقرارًا.

تحب عالية حضور المناسبات وحفلات الزفاف، تشارك جيرانها في خدمتهم ومساعدتهم، لعلها تحظى بسند في يوم تزويج بناتها. لا تنسى أبدًا “تنقيط العروسين”.

“لا أخجل وأنا اطلب من مالك البيت إعطائي مهلة لدفع الإيجار، هو رجل كريم، أحيانًا يتركني بلا دفع لأنه يعلم أنني لا أملك المال، بينما أذوب في جلدي في الوقت الذي تسألني فيه إحدى جاراتي عن فرح ‘فلان أو علان‘.. كيف أدفع هذا الواجب؟!”.

تعمل ذات السبة وأربعين عامًا في مخبز للعيش لثلاثة أيام أسبوعيًا، يوميتها بـ 140 جنيهًا، وتساعد أحد عمال البناء بيومية 250 جنيهًا، كما تخدم في الأفراح بـ 300 جنيهًا لليوم. كل هذا لا يقيها الديون التي تجاوزت 15 ألف جنيه. وكلما طلب زوجها المال، تنفجر دموعها ليلًا، بصمت، ولا تشكو لأحد.

رغم جدها واجتهادها تتعرض عالية للإقصاء في قريتها بسبب غياب زوجها المستمر، يتجنبها البعض، لا لذنب اقترفته، بل لأن حضور الرجل في المشهد الريفي هو الضامن الوحيد لكرامة المرأة. تتلقى النظرات وتسمع الهمس كلما سأل أحد عن زوجها، فترد بهدوء: “في الجبل”، وجميعهم يعرفون الحقيقة.

في قريتهم كما في قرى كثيرة، تظل الصورة الاجتماعية للرجل هي المعيار: لا يعتذر ولا يتراجع، لا يتهرب من الدفع، حتى وإن كان معدمًا. عُرف غير مكتوب، لكنه يحكم حياة الناس بصرامة لا ترحم، وعالية وحدها تدفع ثمن هذه الـ “صورة”

أشارت دراسة بعنوان “الاستدامة الاجتماعية للدين العام في إطار دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: مصر ولبنان والمغرب وتونس وتركيا”، إلى أن التكاليف المالية الناتجة عن تطبيق الأعراف الاجتماعية تؤدي إلى استدانة الأفراد لتلبية الالتزامات الناتجة، مثل المساهمات في المناسبات أو تقديم الهدايا مثلًا، ما يؤثر سلبًا على الإنفاق العام للأشخاص في مجالات الصحة والتعليم، وينعكس على مستوى معيشتهم.

سند الغلابة

في زاوية أخرى من المشهد، يقف الحاج عادل عبد الرؤوف، المغترب في الكويت منذ ثلاثين عامًا، يتألم من تضخم الواجبات الاجتماعية التي تنتظره كل صيف في إجازته السنوية. لم يعد يحب زيارته إلى بلده مصر، فأصبحت زياراته مرتبطة بفاتورة لا تنتهي: هدايا، ومناسبات، ومجاملات.

“ورثت عن والدي أن الرجل الذي لا يدفع.. هو بخيل وقليل الأصل، لكن، لم أسأله يومًا: وماذا إن لم استطع؟ اليوم، أتسائل.. ماذا عن ظروفنا؟ لماذا يظنون أني أكنز المال في “شكاير الخليج”؟ ولماذا تحولت المروءة إلى واجب دائم؟”.. يقول الحاج عادل لـ فكّر تاني.

يفكر أحيانًا في عدم العودة نهائيًا، لكن حنينه لبلده وأهله وأبناء إخوته، خاصة بعد حرمانه من الأطفال، يُعطل قراره. لا يضيق من الإنفاق، بل من الفكرة التي ترسّخت في عقول الناس: “أن الدفع فرض، والامتناع عنه عيب”.

اقرأ أيضًا: 86.5 % من الإيرادات ضرائب.. ورانا حكومة بنصرف عليها

الرجولة في الميزان الاجتماعي

يرى الدكتور محب ألفونس أستاذ علم الاجتماع، في حديثه مع فكّر تاني، أن مفاهيم الرجولة في الريف تختلف عن غيرها، وتُولّد منها سلوكيات اجتماعية تُعد دليلًا على الانتماء لتلك المفاهيم، فكل تصرف ينبع من هذه القيم يعكس مدى التصاق الفرد بمجتمعه.

ويؤكد أن من يخرج عن تلك القيم يشعر بالاغتراب، بل بالرفض أحيانًا من محيطه، لا سيما أن تلك المعتقدات جماعية الطابع، يصوغها الأغلب ويتبناها الجميع، رجالًا ونساءً، دون التفات لجنس أو اختلاف فردي. ويتجلى هذا الاعتقاد في مظاهر مثل الكرم والمبادرة، التي تُعد ركائز أساسية في البناء الاجتماعي الريفي، وإن اختلفت دلالاتها من بيئة إلى أخرى.

“النساء أنفسهن يشاركن في تعزيز هذه المعتقدات، لا بوصفهن متلقيات لها فقط، بل بوصفهن جزءًا من دائرة التأكيد والدعم، ما يجعل هذه المعايير حاضرة بقوة في تقييم المرأة والرجل داخل الأوساط الريفية”.

ويشدد ألفونس على أن العطاء والكرم قيم نبيلة في أصلها، ما دامت لا تؤذي صاحبها في حال الرخاء، لكن حين يتحول الكرم إلى التزام يؤذي الفرد ويثقل كاهله فقط ليحافظ على صورته أمام المجتمع، تصبح تلك القيمة عبئًا لا ميزة. فحين يُضحّي الفرد باحتياجاته الأساسية، أو يُقصّر في مسؤولياته تجاه من يعول، يكون الثمن فادحًا، والنتيجة ضررًا يتجاوز الذات إلى الآخرين.

ويختتم حديثه بالتأكيد على أن التحرر من هذه السلوكيات يبدأ بالاعتراف بوجود مشكلة، وتقبّل الواقع دون شعور بالخزي أو الدونية، مع ضرورة بناء حدود نفسية قوية، وتكوين صورة ذاتية حقيقية غير مرتهنة بنظرة الآخرين، دون الحاجة إلى الدخول في صراعات أو صدامات، بل عبر احترام الذات والتأقلم الواعي مع الإمكانات.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة