كنتُ أحمل جنينًا في أحشائي وأحمل معه فيروسًا يهدد حياتي، وكنتُ مهددة بالإجهاض، لكنني رغم ذلك ذهبت إلى عملي بجهاز المحاليل في يدي فقط لأبرر لرئيس التحرير لماذا لم أعد قادرة على بذل المزيد من الجهد.
لم يخطر في بالي يومًا، وأنا أركض خلف الحكايات وأكتب عن أوجاع الآخرين، أن يأتي اليوم الذي أضطر فيه لكتابة حكايتي الشخصية. لم أتخيل أن يتحول مكاني من شاهدة على الظلم إلى شاهدة على قسوة مورست ضدي من داخل المؤسسة التي ظننتها بيتي ومأمني.
في الثلاثين من عمري، أعيش شغفًا حقيقيًا بالصحافة، بالركض خلف الحقائق، وبالكتابة، لكن ما لم أتوقعه هو أن تتحول أمومتي إلى تهمة. صارت الأمومة ذريعة لإقصائي، تهمة معلنة بالتقصير، جريمة حرمتني من أبسط حقوقي في العمل.
هذه حكايتي مع رئيس تحرير مؤسسة صحفية قومية كبرى. حكايتي من داخل غرفة أخبار لم تعرف الرحمة، ولم تحترم جسدي حين سقط منهكًا، ولا اعتبرت إنسانيتي عندما احتجت دعمًا بسيطًا.
كنتُ أتحدث بصوت خافت، أحاول أن أغلف ألمي بأهدأ ما أستطيع، لكن الوجع كان أكبر من قدرتي على التخفّي. ورغم تدهور صحتي، لم أجد أي مرونة في التعامل، بل وجدت توبيخًا مُبطنًا، فيه سخرية من كوني اخترت الحمل: "مش كنتِ استنيتي تتعيني؟ دلوقتي لا هتعرفي تشتغلي ولا نيلة.. هتقرفينا بالإجازات!"، قيلت كأنها مزحة عابرة لكنها انغرست داخلي كطعنة.
لم يراعِ أحد أنني كنت أمرّ بمرحلة صحية ونفسية حرجة. كان كل ما يهمهم أن أعمل وأنتج وأتحرك كأنني آلة. وعندما وصلت إلى حدود طاقتي، وقفت أمامه أشرح وضعي، وكأنني أرتكب جريمة وألتمس العفو.
لم يكن سهلًا -لا كصحفية ولا كامرأة- أن أتكلم عن تفاصيل تخص جسدي، أن أُفصّل أوجاعي كمن يقدم دفاعًا في محكمة غير عادلة فقط لأحصل على إجازة وضع. ويا للمفارقة! كنت أؤمن أن قلمي للدفاع عن قضايا الآخرين، فاستخدمته للدفاع عن حقي في أن أمرض.
بعد زواجي، انتقلتُ إلى مسكن جديد وطلبتُ نقلي إلى قسم يناسب مكاني الجديد. كان طلبًا طبيعيًا لكنه تحول إلى سيفٍ مرفوع فوق رقبتي، ثم إلى حجة جاهزة لفصلي.
ورغم أن إجازة الوضع القانونية لم تكن انتهت، قررتُ العودة إلى العمل وأنا أحمل طفلي الرضيع الذي لم يكمل شهره الثالث. ظننتُ أن عودتي المبكرة سوف تلقى تقديرًا لكنها قوبلت بالخذلان.
دخلتُ إلى مكتب رئيس التحرير والطفل بين ذراعي. تحدث بكلمات بدت إنسانية لكنها كانت مغلفة بالاستعلاء. لم يُطل الحديث، وسرعان ما تحولت الكلمات إلى مساومة مكشوفة على حقي في التعيين، واتهامي بالتقصير خلال فترة الحمل.
ثم جاءت الضربة، صرخات أمام الجميع وإهانات مباشرة، وانتهى الموقف بأن قذف كوب الشاي بعصبية على المكتب وهو يقول: "اللي هيكلمني على تعيينك هفرمه.. مش عايزك هنا في المؤسسة!".
وقفتُ في صمت. لم يكن صمتي ضعفًا، بل محاولة لفهم: هل يحدث هذا حقًا؟ هل هذه أنا؟ هل هذا مكاني؟
لكن الطعنة الأقسى لم تأتِ من رئيس التحرير وحده. زميلتي -وهي امرأة مثلي- تحولت إلى طرف آخر يجلدني بنفس الاتهامات، دون أن تمنحني حتى لحظة صمت تحترم فيها هشاشتي.
كنتُ منهارة حقًا. شعرتُ أنني أُعاقَب فقط لأنني امرأة، فقط لأنني اخترت أن أصبح أمًا، فقط لأنني مرضت. لم يغفر لي أحد. كأنني خالفت قانونًا غير مكتوب لكنه يُمارَس علينا كل يوم.
ما مررتُ به ليس استثناءً. أنا مجرد واحدة من كثيرات يعملن في بيئات لا تحترم النوع ولا تعترف باحتياجات المرأة ولا تضمن حماية حقيقية خلال الحمل أو بعد الولادة.
كل ما كنت أريده هو شيء بسيط: الاحترام.
في سوق العمل المصري، تحضر النساء بقوة في مختلف القطاعات من الإعلام إلى التعليم إلى الطب، لكن هذا الحضور ما يزال محاصرًا بعقبات تُفقد بيئة العمل أمانها وعدالتها.
النساء يواجهن تمييزًا وظيفيًا، تحرشًا نفسيًا ولفظيًا، فجوات في الأجور، واتهامات دائمة بعدم الكفاءة. في كثير من المؤسسات، يبقى الرجل هو "النموذج القيادي الطبيعي"، بينما تُترك المرأة في صراع دائم لإثبات ذاتها.
تعمل كثير من النساء أضعاف الجهد، يتحملن الضغوط النفسية والمهنية فقط ليُثبتن أنهن قادرات. البعض يصل، لكن الطريق مليء بممارسات إقصائية تتجدد بطرق خفية. خبراء كُثر يؤكدون أن غياب الدعم المؤسسي والثقافي يصنع بيئات عمل غير آمنة، خصوصًا في المهن الشاقة أو التي تتطلب حسًا نفسيًا، مثل التعليم.
ورغم أن القوانين تُجرّم التمييز، إلا أن الواقع مليء بممارسات ناعمة يصعب رصدها. تقول الصحفية أسماء فتحي، مؤسسة مبادرة "مؤنث سالم"، إن التمييز في أماكن العمل كثيرًا ما يكون ناعمًا، لا يُقال بوضوح لكنه يُمارس بخبث، ويترك أثرًا قاسيًا على النساء. وتوضح أسماء لـ فكّر تاني، أن أبرز أشكال التمييز التي رصدتها المبادرة كانت ضد الأمهات والحوامل، الذين حُرموا من ترقيات أو فرص تدريب أو حتى أجر عادل بحجة "الظروف الأسرية".
سيدات كثر اشتكين من حرمانهن من حضور مؤتمرات أو تدريبات خارجية فقط لأنهن أمهات، التمييز لم يكن قرارًا معلنًا، لكنه يمارس كل يوم.. بهدوء قاتل.
التمييز الناعم يحاصر النساء في بيئات العمل
تكشف شهادات نساء أخريات عن عبارات مُهينة قيلت لهن علنًا مثل: "هو انتي هتاخدي المرتب عشان تجيبي بيه ميك أب؟ زميلك بيعول أسرة"، وهي تبريرات جارحة -بحسب أسماء فتحي- تُستخدم لتبرير الفجوة في الأجور بين النساء والرجال، حتى وإن كانت المرأة تتولى منصبًا إداريًا أعلى.
لم يتوقف التمييز عند حد الأجر أو فرص السفر والترقيات، بل يمتد إلى ثقافة ترى أن إدارة الرجال من قِبل امرأة أمر يصعب تقبله، بحسب ما تؤكد أسماء. وتشير إلى أن هذه الأنماط لم تكن حكرًا على المؤسسات الصحفية التي بدأت منها الحملة، لكنها امتدت إلى قطاعات عمل متنوعة، مع استثناء نسبي للقطاع الحكومي الذي تحكمه لوائح أكثر انضباطًا.
الأخطر من الممارسات نفسها هو غياب الاعتراف المؤسسي بوجودها. ترى مؤسسة "مؤنث سالم" أن المشكلة الأكبر تكمن في إنكار المؤسسات أصلًا لأي تمييز، سواء كان مباشرًا أو خفيًا. هذا الإنكار المستمر يصنع جدارًا يصعب اختراقه ويعرقل أي محاولة إصلاح.
ورغم الجهود التي بُذلت لسنوات لإقرار مدونات سلوك واضحة تلزم المؤسسات الإعلامية بسلوكيات عادلة، ما تزال معظم المؤسسات تتجاهل هذه الخطوة، باستثناء قلة محدودة تُظهر وعيًا نسبيًا بأهمية العدالة الجندرية. وتؤكد أسماء أن الممارسات التمييزية ليست حكرًا على الرجال وحدهم، بل تمارسها أيضًا نساء يتبنين خطابًا وسلوكًا ذكوريًا بامتياز. المشكلة -كما تصفها- ليست في النوع، بل في ثقافة ذكورية متجذرة تحتاج إلى وعي ومعرفة حقيقية لتفكيكها.
وترى أسماء أن المؤسسات تتعمد التحايل على هذه الإشكالية، ولا تُبدي أي التزام جاد بمواجهة التمييز، بل تتهرب من الاعتراف بوجوده في الأساس، ورغم قسوة الواقع، لم تغب محاولات التغيير. تؤكد الصحفية الحقوقية أن منظمات المجتمع المدني لعبت دورًا محوريًا في مقاومة التمييز، قائلة: "هناك قوة عمل نشطة تضم مؤسسات ومبادرات وأفرادًا يعملون بتنسيق حقيقي لإقرار مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز".

وأشارت إلى أن مشروع قانون مفوضية التمييز أصبح بالفعل على الطاولة، تحت إشراف مؤسسة قضايا المرأة المصرية، في محاولة لتحويل النقاش المجتمعي إلى خطوة تشريعية تُعطي النساء أدوات فعلية للمطالبة بحقوقهن.
أما على مستوى النقابات، فترى أسماء أن الطريق ما زال طويلًا رغم وجود حراك متزايد. تؤكد أن النقابات بحكم ارتباطها اليومي بالعاملين تتحمل مسؤولية كبرى في التصدي للتمييز لكنها حتى الآن لم ترقَ لمستوى التحدي.
تقول أسماء: "نحتاج إلى شراكات حقيقية بين النقابات والمؤسسات النسوية وباقي مكونات المجتمع المدني حتى تصبح العدالة الجندرية أولوية نقابية". وتشير إلى أن النقاش الدائر حاليًا حول مفوضية التمييز يعكس وعيًا متناميًا بأهمية التصدي لكل أشكال التمييز.
وتؤكد أسماء أن القوانين وحدها ليست كافية لتغيير الواقع: "نحتاج إلى توعية تبدأ من الناس أنفسهم، ونعتمد خطابًا شعبيًا قريبًا من الناس لا يأتي من فوق ولا يتحدث بلغة بعيدة عنهم"، كما تحكي عن تجربة "مؤنث سالم" التي اعتمدت على توثيق ونشر شهادات النساء كما هي: "أردنا أن ننقل صوت النساء الحقيقي، فالشهادات قادرة على توصيل وجعهن بصدق للمجتمع".
وتقول إن حملات مثل "مش ذنبي إني أم" و"أنا أم وناجحة في شغلي" اعتمدت على شهادات واقعية لنساء عشن التمييز في بيئات العمل، حيث تضمنت كل حملة ما لا يقل عن 25 شهادة حقيقية. "عندما يقرأ الناس هذه القصص، يدركون أن المشكلة قريبة منهم، خاصة في مجتمع فيه كثير من الصحفيين متزوجون من صحفيات".
تؤكد أسماء أن الخطاب الفعّال هو الخطاب الذي ينطلق من الناس ويصل إليهم بلغتهم: "نحن بحاجة إلى حديث ينبع من واقع الناس لا من صفحات المانشيتات".
وتستشهد أيضًا بحملة "أيوة أنا اتعنفت" التي نجحت في كسر حاجز الصمت حول العنف باعتباره عيبًا أو وصمة. الحملة سلّطت الضوء على أشكال العنف غير المرئي مثل الإهانات اليومية التي تُمارس داخل صالات التحرير. "كثير من النساء لم يكنّ يدركن أن ما يتعرضن له هو عنف حقيقي، حتى قرأن تجارب زميلاتهن، فبدأ الوعي يتغير".
"التفاصيل الصادقة قادرة على تغيير الوعي العام".
تشير كذلك إلى أن النساء يواجهن مأزقين رئيسيين داخل بيئات العمل: الأول يتعلق بالضغوط الاقتصادية التي تجبرهن أحيانًا على قبول أوضاع غير مرضية. أما المأزق الثاني فيرتبط بالنساء اللاتي يرفضن هذه الأوضاع لكنهن يصطدمن بالثقافة المهنية السائدة، ما يؤدي إلى انسحابهن من بيئات العمل.
"الكثير من النساء لا يدركن أصلًا أن ما يتعرضن له هو تمييز، بل يرينه أمرًا طبيعيًا، ويؤمنّ بأن الرجل هو القائد بحكم الثقافة التي تربّوا عليها". لكنها في الوقت نفسه ترى أن الوعي بدأ يتغير، وأن هناك زخمًا مجتمعيًا متزايدًا يدعم النساء في مقاومة هذه الممارسات.
وفي ختام حديثها، تشدد أسماء فتحي على أن تأسيس مفوضية مستقلة لمكافحة التمييز هو مطلب ملحّ لا يحتمل التأجيل. "رغم أن المفوضية منصوص عليها في الدستور منذ سنوات، إلا أننا ما زلنا ننتظر تنفيذ هذا الحق"، مؤكدة أن المفوضية لا بد أن تكون مستقلة عن أي جهة تنفيذية، حتى تكون قادرة فعلًا على حماية النساء والدفاع عن حقوقهن.
اقرأ أيضًا: "المرأة الجديدة" تقدم رؤية نسوية لقانون العمل الجديد
بيئات عمل قاسية رغم تزايد النساء
يؤكد الدكتور جمال فرويز الاستشاري النفسي، أن بيئات العمل ما تزال تُقصي النساء في بعض المجالات، مشيرًا إلى أن الإقصاء أحيانًا يأتي مغلفًا بثقافة شبابية تُشعر النساء بأن وجودهن غير مرحب به، أو يُنظر إليهن على أنهن دخلاء على مساحات "غير مخصصة لهن".

ويلاحظ فرويز أن بعض النساء يبذلن مجهودًا مضاعفًا في محاولة لإثبات الجدارة، حتى في بيئات يُنظر فيها تقليديًا إلى الرجل باعتباره "الأصل"، قائلًا لـ فكّر تاني: "فيه سيدات بيشتغلوا أكتر من الرجالة علشان يثبتوا إنهم أحق بالمكان، وده بيحصل حتى في ظروف صعبة، سواء في المستشفيات أو المدارس أو المديريات"
كما يرى أن وصول النساء إلى مواقع قيادية لم يعد أمرًا استثنائيًا، بل أصبح واقعًا يفرض نفسه تدريجيًا، بعد صراع اجتماعي طويل لإثبات أن المرأة قادرة على النجاح حتى في أصعب البيئات. "كنا زمان بنقول الوظيفة دي عايزة راجل.. النهارده الستات مش بس وصلوا.. كمان بيقدموا شغل في أحسن صورة".
وفيما يخص المواءمة بين النوع الاجتماعي وبعض مراحل التعليم، يوضح فرويز أهمية مراعاة الخصائص النفسية لكل مرحلة عمرية. مؤكدًا أن وجود المعلمات في المراحل الابتدائية الأولى ضروري لدعم الطفل عاطفيًا، بينما يُفضل التنويع بين الرجال والنساء في المراحل الأعلى، لتلبية احتياجات المراهقين النفسية. كما شدد على أهمية وجود مدرسين رجال في مدارس الأولاد لتشكيل قدوة مناسبة للمراهقين، مع ضرورة التركيز على المعلمات في مدارس البنات لتجنب أي ارتباطات نفسية غير ملائمة في هذه السن.
مدير فاشل = بيئة طاردة
يحذر الدكتور جمال فرويز من أن التهميش، سواء ضد النساء أو الرجال، يترك أثرًا نفسيًا عميقًا، يصل في بعض الحالات إلى الاكتئاب أو فقدان الشغف. ويوضح: "الإقصاء ممكن يصيب الناس بأعراض مرضية، خصوصًا الشخصيات التشككية أو العصبية، وفيه ناس ممكن تسيب الشغل فجأة كنوع من الرفض".
ويشير إلى أن النساء حين يشعرن بالإقصاء المهني قد يفقدن الثقة بأنفسهن، ما ينعكس سلبًا على الأداء. "يا إما تهمل شغلها تمامًا، يا إما تكمل بدون شغف. وفي حالات تانية، بتلجأ لمضاعفة المجهود علشان تعوض وتحس إنها قادرة"، مؤكدًا أن التمييز بين الرجال والنساء في بيئات العمل يتعارض مع الدستور والقانون، لكن بعض المسؤولين يحاولون التحايل عليه بشكل غير مباشر. "فيه ناس بتخاف تتهم بالتمييز، فبتتصرف شكليًا كأنهم محايدين، لكن فعليًا بيتجاهلوا حقوق النساء."
"فيه مدراء بيتعمدوا يكرهوا النساء في المكان من غير ما يقولوا صراحة، وده بيخلق بيئة منفّرة خصوصًا لو المساحة ضيقة والزملاء غير محترفين، والمدير الناجح يصنع بيئة إيجابية تدفع الفريق كله للنجاح، بينما المدير الفاشل أو المتسلط يصنع مناخًا طاردًا يُدمر بيئة العمل".
اقرأ أيضًا: ثلوجٌ لا تذوب.. نساء الإسكندرية صمدن أمام العاصفة
التدخل المؤسسي ضرورة..
يشدد الدكتور جمال فرويز على ضرورة وجود آليات مؤسسية واضحة لحماية الموظفين من الإقصاء، خاصةً إذا كان مبنيًا على النوع الاجتماعي أو الدين أو الخلفية الثقافية. ويوضح: "المشكلة مش بس في الإقصاء، لكن في غياب أي جهة داخل المؤسسة ممكن الموظف يرجعلها لو اتعرض لتمييز".. مؤكدًا على أن غياب التدخل الإداري يضطر البعض أحيانًا للجوء لحلول عنيفة أو مواجهات مباشرة تضر بالمؤسسة وبالطرف المتضرر.
ويشير فرويز إلى أن الإقصاء يمكن أن يتحول إلى أزمة نفسية مزمنة، خاصةً عند الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي للأمراض النفسية. ورغم هذه التحديات، يرى فرويز أن مصر من الدول العربية التي تشهد حضورًا نسائيًا متزايدًا في الوظائف العامة والقيادية: "نبص على الوزارات والشركات والمصانع والتعليم والطب، هنلاقي النساء أعدادهم بتفوق الرجالة في مجالات كتير"
لكنه يؤكد في الوقت نفسه أن بيئة العمل، رغم هذا الحضور، ما زالت بحاجة لتطوير ثقافي واقتصادي حقيقي لدعم النساء: "التغيير محتاج مؤسسات تدعمه، لسه فيه ناس شايفين إن الست أقل كفاءة أو أبطأ من الرجل.. وده تصور لازم يتغير".
ينبّه الدكتور جمال فرويز إلى أن بعض التصورات السائدة عن المرأة العاملة تغذي ممارسات الإقصاء، خاصة فيما يتعلق بمسؤوليات الإنجاب والأسرة، بالإضافة إلى المعتقدات الناتجة عن الثقافة المجتمعية التي ترى أن الحمل والولادة يمثلان عبئًا على بيئة العمل: "فيه أصحاب أعمال بيخافوا يوظفوا ستات علشان ما تدخلش حامل بعد شهرين، وبعد كده إجازة وضع، وبعد كده تربية رضيع، وكل ده بيخلّيهم يقولوا: لأ، خليني في راجل".
ويؤكد أن هذا التفكير غير عادل لأنه يتجاهل أن الأمومة دور اجتماعي طبيعي لا يعني ضعفًا مهنيًا، "فيه ستات بتشتغل أكتر من الرجالة رغم كل التحديات دي. المهم الأداء مش النوع"، ويختم حديثه بالتأكيد على أن المجتمع بحاجة لتغيير عميق في نظرته إلى النساء في بيئات العمل، قائلًا: "احكم على الكفاءة مش على النوع.. الستات أثبتوا إنهم قادرين رغم كل الحواجز".
اقرأ أيضًا: بدعوى "الشرف" القتل للنساء و"الرأفة" للجناة
رغم التمييز
جلست علا عوض في ركن هادئ من صالة التحرير تكتب كأنها تخوض معركة. خريجة كلية الإعلام بجامعة القاهرة وصحفية بارعة تمتلك أدواتها بامتياز. أخلصت للمهنة، وصاغت حروفها كمن يرمم كسور العالم بنص محكم. ومع ذلك، ظلت تنزف صمتًا تحت عبء لم يُكتب: أنها امرأة. رغم إشادة الزملاء بكفاءتها وتفوقها على كثير من الرجال في المهنة، بقيت علا تصطدم بحاجز لا يتحرك: كونها زوجة وأم.
في المؤسسة الصحفية التي عملت بها، لم تُوزن سنوات الخبرة ولا سرعة الإنجاز ولا حرفية الصياغة، بل كان ما يوضع في الميزان هو كونها "ست". لم يكن هناك صوت يعلو على مسؤوليات المنزل، ولم تكن هناك تهمة أثقل من "أنها أم". قال لها مدير التحرير ذات يوم، في خلاف لم تنسَ تفاصيله: "أنت ست، وعندك بيت ومسؤوليات، وده بالنسبالنا ضغط".. لم تكن تلك الجملة مجرد تعليق عابر، بل كانت إعلانًا واضحًا عن منطق المؤسسة: أن التفرغ للمهنة حكر على الرجال، وأن الأمومة عائق لا ميزة.
تحكي علا لـ فكّر تاني، أن التضييق لم يكن مباشرًا دائمًا، بل سبقته خصومات غير مبررة، وتجاهل مستمر لظروفها كامرأة تحمل أعباء العمل والمنزل معًا. لم تطلب امتيازًا، بل كانت تطلب ‘العدالة‘. لم تهرب من المهام، بل أدتها باحتراف حتى في أقسى أيامها، لكنها بقيت دومًا "أقل حظًا" في الترقية، وفي التقدير، وفي المساحات المتاحة.
لم يتوقف الأمر عند حدود التقدير المهني، بل امتد إلى مساحات أضيق وأكثر وجعًا. وصلت علا إلى لحظة فكرت فيها جديًا بالانتحار، بعد أن شعرت أن جميع الأبواب قد أُغلقت في وجهها، ليس بسبب قلة كفاءتها، بل لأنها "أم".
لأكثر من عشر سنوات، ظل حلم الانضمام إلى نقابة الصحفيين بعيد المنال، رغم عملها في مؤسسات صحفية عديدة. شاهدت بنفسها من يدخلون النقابة بسهولة دون مؤهل إعلامي أو خبرة حقيقية، بينما كانت تتنقل من مكان إلى آخر، تحمل أعباء الحياة والمهنة وتبحث عن فرصة لم تأتِ.
"رأيت خريجين جُدد يحصلون على عضوية النقابة سريعًا، بينما سكنتُ أنا الهامش، والتمييز الذي حاصرني في غرفة التحرير، لاحقني أيضًا إلى عتبة النقابة". وفي لحظة انكسار، تواصل معها عضو مجلس النقابة هشام يونس، مد لها يدًا إنسانية وسط جدار القسوة، ساعدها في استكمال أوراقها، واستمع إلى شكواها. لم تُحل أزمتها بالكامل، لكنها شعرت أن هناك من سمع صوتها بصدق.
الأشد قسوة أن الصحافة، التي يُفترض أنها مساحة للعدالة والحرية، تتحول أحيانًا إلى مكان يضيق بالنساء، ليس بنص مكتوب، بل بثقافة متجذرة ترى الرجل "الخيار الأسهل"، بينما تضع المرأة في خانة "الظرف الطارئ".
رغم أن عشرات التجارب مثل تجربة علا عوض أثبتت أن الموازنة بين المهنة والأمومة ممكنة، وأن الشغف بالعمل لا يتعارض مع مسؤوليات الأسرة. لم تنكسر علا، واصلت عملها بإتقان، وواصلت تربية أبنائها، وقاومت مؤسسة ترى أن الرجال أحق لمجرد أنهم لا يحملون لقب "أب" أو "زوج".
بقيت علا عوض تمشي في طريقها مرفوعة الرأس، تحمل قصتها مرآة تعكس معاناة كثير من النساء في المهنة، لعل القادِمات يجدن في صوتها سندًا لا ينكسر.
اقرأ أيضًا: أرملة تطلب إذنًا بالأمومة
تجارب داعمة تصنع الفارق
يشير الدكتور جمال فرويز إلى أن بعض الدول الأوروبية والأفريقية تجاوزت تمامًا فكرة تصنيف الوظائف على أساس النوع الاجتماعي، حيث لا تُعد مهنة للرجل وأخرى للمرأة، بل تُقاس الكفاءة فقط: "في أوروبا الكل بيشتغل بنفس المعايير، وأنا شفت ده بعيني لما كنت مع بعثات الأمم المتحدة".
ويضيف: "في أفريقيا كمان، شفت مجندات من نيجيريا وغانا والجابون والنيجر وتوجو، كانوا بيطلعوا مأموريات مسلحة وقتالية، زينا بالضبط، وكانوا بيناموا في عنابر مشتركة مع المجندين. بينما عندنا، بنقصر دور المرأة في الجيش على التمريض أو السكرتارية، وده بيرجع لنظرة اجتماعية بتحطها في أدوار معينة".
ويشدد فرويز على أن البيئة الداعمة تصنع الفارق الحقيقي في الأداء والإبداع: "طبيعي نلاقي وزيرة ومديرة ونائبة رئيس وزارة من غير ما المجتمع يتحسس من ده"، رافضًا، أفكار مثل: المرأة تعطل الإنتاج أو تقلل الكفاءة، مؤكدًا أن النساء يشكلن النسبة الأكبر في أعمال كثيرة بالريف والصناعة مثل التغليف والحصاد: "وده دليل إن الست قادرة وموجودة في السوق بشكل فعلي، مش مجرد تمكين على الورق".
اقرأ أيضًا: "وعملوها الستات " .. المناصب القيادية ليست للرجال فقط
فرصٌ حقيقية تعني تمكينًا فعليًا
"مهم اعطاء النساء فرصهن الكاملة دون وضع حدود للعدد أو الدرجة الوظيفية، هنا يمكن أن نرى قدراتهن على النجاح والوصول لأعلى المناصب".. يقول الدكتور جمال فرويز.
ويرى أن التمكين الحقيقي للمرأة لا يتحقق بتحديد نسب ثابتة أو فرض حصص، بل يتطلب فتح الفرص للجميع دون قيود: "الكتل النسائية اللي ظهرت في الانتخابات أو في الوزارات كان ليها دور، لكن التمكين الحقيقي محتاج فرصة مفتوحة مش نسبة محددة".
ويضيف فرويز أن استنساخ السياسات العالمية في تمكين المرأة لا ينجح دائمًا إذا لم يتناسب مع البيئة والثقافة المحلية: "إحنا مرات فشلنا لما حاولنا نطبق سياسات جاية من بره من غير ما نفكر هتنفع عندنا ولا لأ. الحل إننا نصمم استراتيجيات تناسبنا، خصوصًا إن الكوادر عندنا كفاية في كل المجالات". مؤكدًا أن النجاح الحقيقي في أي مؤسسة يبدأ من الناس الذين بدأوا من القاعدة وعاشوا واقع مجتمعهم.