ترامب يضرب النووي الإيراني.. الشرق الأوسط يسقط في "عدم اليقين"

في خطوة تمثل تصعيدًا عسكريًا مباشرًا، أعلنت الولايات المتحدة تنفيذ ضربات جوية استهدفت ما وصفتها بالمنشآت النووية الحيوية في إيران، وهو الحدث الأبرز الذي يدفع بمنطقة الشرق الأوسط نحو مرحلة جديدة من عدم اليقين.

لم تكن العملية مجرد استهداف للبنية التحتية، بل كانت رسالة سياسية وعسكرية معقدة، قوبلت بروايتين متناقضتين بشكل حاد: رواية أمريكية تتحدث عن "نجاح باهر وتدمير كامل"، ورواية إيرانية تعترف بالهجوم لكنها تقلل من أضراره وتتعهد بمواصلة برنامجها النووي بقوة أكبر.

تتجاوز أبعاد هذا الهجوم المواجهة الثنائية بين واشنطن وطهران، لتكشف عن شبكة من التحالفات والتوترات الإقليمية، لا سيما مع ورود معلومات عن تنسيق مسبق ومشاركة عملياتية محتملة من جانب إسرائيل، التي سارعت إلى رفع حالة التأهب إلى أقصاها.

وأمام هذا المشهد المعقد، تبرز سلسلة من التساؤلات الحاسمة التي يسعى هذا التقرير إلى تفكيكها: أين تكمن الحقيقة وسط الروايات المتضاربة حول حجم الضرر الفعلي؟ وكيف ستُترجم المواقف الرسمية المعلنة إلى خطوات على الأرض، وما هي طبيعة الخيارات الاستراتيجية التي تمتلكها طهران للرد؟ وعلى الصعيد الأمريكي الداخلي، ما هي الأبعاد الدستورية للهجوم داخل الولايات المتحدة، وما تداعيات هذا الجدل على القرار الأمريكي مستقبلًا؟ وصولًا إلى السؤال المحوري: هل تدفع هذه الضربة المنطقة نحو مواجهة إقليمية شاملة لا يمكن احتواؤها، أم أنها ستبقى جولة تصعيدية تنجح القنوات الدبلوماسية في لجم تداعياتها؟

الرواية الأمريكية لضرب إيران

إعلان الهجوم وأهدافه:

وفقًا لما نشره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على منصة "تروث سوشيال"، شنت طائرات حربية أمريكية يوم السبت (فجر الأحد بتوقيت القاهرة) ضربات استهدفت ثلاث منشآت نووية إيرانية في كل من فوردو ونطنز وأصفهان. وقد وصف ترامب الهجوم بـ"الناجح"، مؤكدًا أن الطائرات غادرت المجال الجوي الإيراني بعد تنفيذ مهامها. وأضاف في منشور لاحق تفاصيل أكثر تحديدًا، قائلًا: "أُسقطت حمولة كاملة من القنابل على الموقع الرئيسي، فوردو"، قبل أن يعلن بشكل قاطع: "لقد دُمر فوردو".

وفي خطاب متلفز للأمة من البيت الأبيض، أوضح ترامب الأهداف الاستراتيجية للعملية، حيث قال: "كان هدفنا تدمير قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم، ووقف التهديد النووي الذي تشكله الدولة الراعية للإرهاب رقم واحد في العالم". وجدد إبلاغه العالم بأن "الضربات الأمريكية حققت نجاحًا عسكريًا باهرًا"، وأن "منشآت التخصيب النووي الرئيسية في إيران دُمرت تدميرًا كاملًا".

التحذيرات والرسائل الدبلوماسية:

لم يقتصر الخطاب الأمريكي على إعلان النجاح، بل تضمن تحذيرًا شديد اللهجة لإيران من أي رد انتقامي يستهدف المصالح الأمريكية في المنطقة.

وتعهد ترامب بأن أي ضربات أمريكية مستقبلية ستكون "أشد فتكًا"، مضيفًا: "إما أن يتحقق السلام، أو ستقع مأساةٌ على إيران أشدّ بكثير مما شهدناه خلال الأيام الثمانية الماضية. تذكروا، لا يزال هناك العديد من الأهداف. كانت ليلة أمس الأصعب بلا منازع، وربما الأكثر فتكًا. ولكن إن لم يتحقق السلام سريعًا، فسنلاحق تلك الأهداف الأخرى بدقةٍ وسرعةٍ ومهارة".

وفي مسار موازٍ للعمل العسكري، كشفت مصادر دبلوماسية عن محاولة لضبط التصعيد. فبحسب ما نقلته شبكة "بي بي سي" عن شريكتها في الولايات المتحدة "سي بي إس نيوز"، نقلًا عن مسؤولين أمريكيين، أجرت واشنطن اتصالًا بإيران عبر قنوات دبلوماسية. وحملت الرسالة الأمريكية تأكيدًا بأن الضربات الجوية كانت إجراءً محدودًا، وأن "جهود تغيير النظام لم تكن مخططة".

التفاصيل التقنية للعملية:

قدمت وسائل إعلام أمريكية تفاصيل حول الأسلحة المستخدمة في الهجوم. وأشارت قناة "فوكس نيوز" إلى أن قاذفات شبحية من طراز "بي-2" استخدمت ست قنابل خارقة للتحصينات (Bunker Busters) في الهجوم على موقع فوردو النووي، وهو موقع شديد التحصين تحت الأرض. وأضافت القناة أن الهجوم على منشأتي نطنز وأصفهان تم عبر إطلاق 30 صاروخًا من طراز "توماهوك" من غواصات أمريكية.

والقنابل الخارقة للتحصينات (Bunker Busters): هي ذخائر تُعرف بـ GBU-57 مصممة خصيصًا لاختراق الأهداف المحصنة أو الموجودة تحت الأرض قبل الانفجار، ما يجعلها فعالة ضد المنشآت العسكرية المحمية جيدًا مثل المخابئ أو المنشآت النووية المبنية في عمق الجبال.

ردود الفعل الإيرانية والموقف الرسمي

الاعتراف بالهجوم وتقييم الأضرار:

جاءت أولى المؤشرات من الجانب الإيراني عبر وكالة "فارس" للأنباء شبه الرسمية، والمقربة من الحرس الثوري، التي نقلت عن مسؤول كبير قوله إن الدفاعات الجوية الإيرانية أطلقت نيرانها بالقرب من مدينة أصفهان وسُمع دوي انفجارات في المنطقة.

لاحقًا، أصدرت منظمة الطاقة الذرية الإيرانية بيانًا أكثر تفصيلًا، اعترفت فيه بتعرض مواقع فوردو ونطنز وأصفهان النووية "لهجوم من الأعداء"، واصفةً إياه بأنه "انتهاك للقانون الدولي".

فيما يتعلق بحجم الضرر، لم يصدر تقييم رسمي نهائي، لكن مصادر إيرانية غير محددة أشارت إلى أن المنشآت لم تتعرض "لأضرار لا يمكن إصلاحها"، وهو ما يتناقض مع الرواية الأمريكية عن "التدمير الكامل".

التأكيد على استمرارية البرنامج النووي:

على الرغم من الهجوم، كان الموقف الإيراني المعلن هو الإصرار على مواصلة الأنشطة النووية. حيث أكدت منظمة الطاقة الذرية الإيرانية، في بيانها الذي نشرته وسائل الإعلام الرسمية، أنها "لن تسمح بتوقف مسار تطوير هذه الصناعة الوطنية، التي هي نتيجة دماء الشهداء النوويين".

وتعهدت المنظمة باتخاذ "الإجراءات الضرورية بما في ذلك القانونية على جدول أعمالنا للدفاع عن حقوق إيران"، داعيةً المجتمع الدولي إلى "التنديد بالفوضى القائمة على قانون الغاب ودعم إيران في الحصول على حقوقها المشروعة".

وفي أول رد فعل رسمي من الحكومة، وصف وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، الهجوم بأنه "مشين"، مؤكدًا أن "إيران تحتفظ بجميع الخيارات المتاحة للدفاع عن سيادتها ومصالحها وشعبها".

وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي (وكالات)
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي (وكالات)

الدور الإسرائيلي المزعوم والجاهزية الإقليمية

التنسيق المسبق والمشاركة العملياتية:

بحسب ما نقلته القناة "14" الإسرائيلية عن مصادر مطلعة، لم تكن إسرائيل غائبة عن الحدث. فقد أفادت القناة بأن الرئيس ترامب أبلغ رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، بموعد "الضربة" مسبقًا.

وزعمت القناة أن الإدارة الأمريكية طلبت من إسرائيل تنفيذ "مهمات عملياتية محددة" قبل الهجوم، وهو ما تم بالفعل.

ووفقًا للمصدر ذاته، شاركت ست طائرات شبحية من طراز "B-2" في الهجمات، وظل "الكابينت" الإسرائيلي (مجلس الوزراء الأمني المصغر) منعقدًا في القبو المحصن بمقر وزارة الأمن لمتابعة تطورات العملية.

رفع حالة التأهب:

بالتزامن مع هذه التطورات، أعلنت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية عن رفع حالة الجاهزية وتعزيز الإجراءات الأمنية إلى أعلى مستوياتها. وأصدرت "تعليمات صارمة تشمل إلغاء الدراسة وحظر التجمعات في مختلف أنحاء إسرائيل"، في خطوة استباقية تحسبًا لأي رد انتقامي إيراني.

وفي اليمن، حذر حزام الأسد، عضو المكتب السياسي لحركة "أنصار الله" وعضو مجلس الشورى، إسرائيل من تداعيات الضربة. وكتب في حسابه على منصة "إكس": "على واشنطن تحمل التبعات".

ولكن ما هي تبعات الضربة الأمريكية فعلًا؟

تحليل الخيارات الإيرانية المتاحة للرد

يقدم الدكتور رفعت سيد أحمد مدير ومؤسس مركز يافا للدراسات والأبحاث، تحليلًا للسيناريوهات والخيارات المتاحة أمام إيران للرد على الهجوم الأمريكي، والتي تتدرج في خطورتها:

الخيار الأول- التصعيد ضد إسرائيل: الاستمرار في استهداف إسرائيل بصواريخ أكثر تطورًا لم تستخدم بعد، مثل صواريخ "خيبر" و"سجيل"، لبعث رسالة مفادها أن القدرة الصاروخية الإيرانية لم تتأثر بالضربات الأمريكية.

الخيار الثاني- الحرب الاقتصادية: إغلاق مضيق هرمز وتلغيمه، وهو ما سيعطل مرور حوالي 20% من إمدادات النفط العالمية، مما يشكل ضغطًا اقتصاديًا هائلًا على المصالح الأمريكية والغربية.

الدكتور رفعت سيد أحمد مدير ومؤسس مركز يافا للدراسات والأبحاث
الدكتور رفعت سيد أحمد مدير ومؤسس مركز يافا للدراسات والأبحاث

الخيار الثالث- استهداف القواعد الأمريكية: مهاجمة القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في المنطقة، والتي تضم حوالي 40 ألف جندي أمريكي.

ومن بين هذه القواعد: قاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية، وقاعدة الظفرة الجوية في الإمارات، وقاعدة عريفجان في الكويت، وقاعدة العديد الجوية في قطر، وقاعدة عين الأسد في العراق.

الخيار الأخطر- استهداف مفاعل ديمونة: وهو السيناريو الأخير والأكثر خطورة، ويتمثل في استهداف المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونة.

هنا، يشير الدكتور أحمد، في حديثه لـ فكر تاني، إلى أن الصواريخ الإيرانية وصلت بالفعل إلى مناطق تبعد 30 كيلومترًا فقط عن المفاعل، ما يعني أن القدرة على استهدافه موجودة، لكن القرار مؤجل. وحذر من أن هذا الخيار قد يؤدي إلى "إبادة نصف إسرائيل".

ويختتم الدكتور أحمد تحليله بنصيحة لإيران بضرورة "استيعاب الدرس" بأنه لا فرق بين أمريكا وإسرائيل، ودعاها إلى عدم الخضوع للمفاوضات التي وصفها بأنها "تنويم لضرب إيران ومحاولة لتفجيرها من الداخل".

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتابع الضربة الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية (وكالات)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتابع الضربة الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية (وكالات)

هل تدخل واشنطن الحرب الكاملة؟

يحذّر الدكتور محمد محسن أبو النور رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، من أن الهجوم العسكري الذي أعلنت عنه واشنطن فجر الأحد، يمثل "انحرافًا غير مسؤول" عن المسار الدبلوماسي، وخطوة قد تدفع طهران بقوة نحو امتلاك السلاح النووي، وتزيد من احتمالات المواجهة المباشرة والشاملة في المنطقة.

وفي تحليل خص به فكر تاني، يوضح أبو النور أن إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن "هجوم ناجح للغاية"، محاطًا بنائبه ووزيري الخارجية والدفاع، كان رسالة ضمنية بأن قرار الحرب اتُخذ بالإجماع في إدارته. لكنه يلفت إلى أن غياب المبعوث الخاص للشرق الأوسط قد يعني إما عدم رضاه عن العملية، أو إبعاده عمدًا لاستخدامه في أي عملية تفاوضية مستقبلية.

الدكتور محمد محسن أبو النور الباحث في الشأن الإيراني عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية
الدكتور محمد محسن أبو النور الباحث في الشأن الإيراني عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية

ويرى الخبير في الشؤون الإيرانية أن هذه الضربة، ورغم أنها قد تؤخر البرنامج النووي الإيراني مؤقتًا، إلا أنها على المدى المتوسط ستعزز قناعة طهران بأن امتلاك السلاح النووي ضروري للردع، على غرار الحالة الكورية الشمالية. ويأتي ذلك في وقت كانت فيه أجهزة الاستخبارات الأمريكية نفسها تقر، قبل الهجوم، بأن إيران لم تكن قد اتخذت قرارًا بتصنيع قنبلة نووية.

وعلى الصعيد الإيراني، يعزز الهجوم موقف تيار المحافظين الرافض للتفاوض، ويدفعه نحو تبني الحلول التصعيدية. واستشهد أبو النور بتصريحات حسين شريعتمداري، رئيس تحرير صحيفة "كيهان" المقرب من المرشد الأعلى، الذي طالب برد فوري عبر "إمطار الأسطول البحري الأمريكي في البحرين بوابل من الصواريخ، وإغلاق مضيق هرمز".

ويختم أبو النور تحليله بأن فشل الدبلوماسية الأمريكية سيدفع طهران غالبًا نحو خيار المواجهة والانتقام، واستهداف الأصول الأمريكية في المنطقة، كما أنه يقوض ثقة العالم بنظام منع الانتشار النووي، ويشجع دولًا أخرى على السعي لامتلاك أسلحة رادعة خاصة بها.

الكونجرس الأمريكي (وكالات)
الكونجرس الأمريكي (وكالات)

الجدل الدستوري داخل الولايات المتحدة

الهجوم الأمريكي أثار جدلًا قانونيًا وسياسيًا واسعًا داخل الولايات المتحدة. حيث انتقد نواب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي الرئيس ترامب لشنه الهجوم دون الحصول على تفويض رسمي من الكونجرس، معتبرين ذلك "انتهاكًا صريحًا للدستور".

ونقل النص تصريح السيناتور بيرني ساندرز الذي قال أمام هتافات "لا للحرب": "ما فعله ترامب غير دستوري"، مؤكدًا أن الكونجرس هو الجهة الوحيدة المخولة دستوريًا بإعلان الحرب. كما وصف النائب رالف نادر القرار بأنه "خرق فاضح للدستور"، محذرًا من أنه سيؤدي إلى مقتل جنود أمريكيين.

وقال زعيم الأقلية في مجلس النواب الأميركي حكيم جيفريز إن ترامب "ضلل البلاد بشأن نواياه" ولم يسع إلى الحصول على موافقة الكونجرس.

وأضاف جيفريز في بيان: "وعد دونالد ترامب بإحلال السلام في الشرق الأوسط، لكنه لم يفِ بهذا الوعد. لقد ازداد خطر الحرب بشكل كبير، وأدعو الله أن يحفظ جنودنا في المنطقة الذين تعرَّضوا للخطر".

ويستند هذا الجدل إلى "قرار صلاحيات الحرب" لعام 1973، وهو تشريع سعى الكونجرس من خلاله إلى كبح سلطة الرؤساء في استخدام القوة العسكرية.

ويقيد القرار قدرة الرئيس على نشر الجيش في ثلاث حالات فقط: (1) إعلان حرب رسمي من الكونجرس، (2) تفويض قانوني محدد، أو (3) حالة طوارئ وطنية ناجمة عن هجوم مباشر على الولايات المتحدة أو قواتها.

ويرى المنتقدون أن ضرب إيران لا يندرج تحت أي من هذه الحالات. ومع ذلك، يشير النص إلى أن لدى ترامب محامين في وزارتي العدل والدفاع يمكنهم إيجاد تبريرات قانونية لأفعاله، وأن شرط "التشاور" مع الكونجرس يمكن تفسيره بطرق فضفاضة.

وبين كل هذه التفاصيل يبقى أن الشرق الأوسط يسقط نحو مزيد من "عدم اليقين" فيما هو آت من أيام.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة