الوافدون بالأزهر.. هل في الغربة ملاذ آمن؟

وسط تحديات الغربة وتعقيدات الاندماج، يعيش آلاف الطلاب الوافدين في جامعة الأزهر تجربة إنسانية متشابكة بين طموح التعلم وصعوبات الحياة اليومية.

في القاهرة، تتعدد حكاياتهم التي تجمع بين الأمل والخوف، الانتماء والانعزال، والحنين إلى أوطان بعيدة، مقابل محاولات التكيّف مع بيئة تختلف في ثقافتها وإيقاعها المعيشي.

ورغم الضغوط الاقتصادية وتحديات اللغة وصدمات المجتمع، لا يزال كثيرون منهم يتمسكون بحلم البقاء والدراسة، مدفوعين بدفء بعض العلاقات الإنسانية، وجهود مؤسسات مثل الأزهر في توفير الدعم النفسي والتربوي، لتسهيل اندماجهم وتخفيف مشقة الرحلة.

تكيف صعب

عبّر غلام مرتضى، وهو شاب باكستاني يبلغ من العمر 22 عامًا، عن معاناته الشديدة في التكيّف مع الظروف المعيشية في مصر خلال الفترة الأخيرة، موضحًا أنه قدم إلى القاهرة قبل أربع سنوات، ولم يغادرها سوى لزيارة مدينتَي الإسكندرية وجنوب سيناء.

ويروي مرتضى لـ فكر تاني الصعوبات التي واجهها أثناء العيش في مصر، خاصة مع موجات الغلاء الفاحش التي اشتدت خلال العامين الماضيين، مقارنةً بأول عام له في البلاد. وأشار بأسى إلى أن "كيس السكر كان يُباع بعشرة جنيهات، بينما وصل الآن إلى أربعين جنيهًا، والدخل ما زال ثابتًا"، موضحًا أنه يحصل على منحة شهرية من الأزهر بقيمة ألف جنيه، وذلك فقط إن كان خارج مدينة البعوث الإسلامية.

ويوضح أن الواقع المعيشي في مصر أصبح شديد الصعوبة، مشيرًا إلى أن روح التكافل التي لمسها عند قدومه بدأت تتلاشى. ويضيف متعجبًا: "الناس باتوا عبوسي الوجوه صباحًا ومساءً، لا فقط في الظهيرة كما اعتدت".

أما عن فرص العمل، فقد أكد مرتضى أنه لم يتمكن من إيجاد عمل إلى جانب دراسته، معللًا ذلك بأن المصريين لا يتعاملون بسهولة مع الوافدين بسبب حاجز اللغة وصعوبة التواصل، مؤكدًا بحزن أنه رغم محاولاته المتكررة لتعلّم العامية المصرية، إلا أنه درس اللغة العربية الفصحى في الأزهر فقط، مما قيّد قدرته على التواصل في الحياة اليومية.

ويتذكر واحدة من أصعب لحظاته في مصر، حين سُرق هاتفه دون أن ينتبه، حتى اكتشف ذلك بعد نزوله من الحافلة. يقول: "ظننت أنني لن أعيش هنا حياة هانئة، وفكرت جديًا في العودة إلى باكستان. لكن كان عليَّ استعادة هاتفي لأتمكن من التواصل مع أهلي كي يرسلوا لي ثمن التذكرة. لم يكن ذلك شعورًا صعبًا فحسب، بل كان جحيمًا امتد خمسة أيام عشتها دون أي اتصال بأسرتي، وحيدًا في غرفتي بمدينة البعوث".

ويضيف: "صدفةً، التقيت بسائق الحافلة نفسها في موقف السيدة عائشة، فأعاد إليَّ الهاتف، وأخبرني أنه لاحظ السارق وهو يخرجه من جيبي، واستعاده منه، لكنه لم يتمكن من العثور عليّ بعد الحادثة".

اقرأ أيضًا: سميحة أيوب.. ساحرة المسرح العربي

واقع موحِش

يحمل الطلاب الوافدون في مصر تجارب حياتية متباينة، تتقاطع في شعور الغربة، والقلق من الاندماج، والحنين الجارف إلى أوطانهم، والرغبة الصامتة في التكيّف والمثابرة.

فاطمة يوسوف طالبة من بنجلاديش، تروي لـ فكر تاني جانبًا من تجربتها، حيث لا ترتبط الغربة فقط بالمكان، بل بكل لحظة شعرت فيها بالعجز والخوف. تقول: "أبحث دائمًا عن حافلة بها مقاعد فارغة لأتفادى احتمال التحرش، بعد تجربة تركت في نفسي جرحًا لا يندمل".

تستعيد فاطمة تفاصيل الحادثة التي تعرضت لها خلال رحلة من مدينة نصر إلى حي الدّراسة، حين كانت وحيدة في مؤخرة الحافلة رفقة رجل مسن، بينما جلس السائق ومساعده في المقدمة.

"فوجئت بيده تلتف حولي، بينما مد الأخرى إلى ذقني محاولًا تقبيلي، صرخت حتى أنقذني المساعد"، تقول فاطمة، مؤكدةً أنها لم تقدم بلاغًا خوفًا من تداعيات الموقف، رغم لجوئها لاحقًا للدعم النفسي في مدينة البعوث الإسلامية.

مثل هذه التجارب المؤلمة تعكس الوجه القاسي للغربة، خصوصًا لدى النساء القادمات من مجتمعات محافظة، حيث تُكابد فاطمة آثار الموقف حتى اليوم، إذ تتجنب ركوب أي حافلة تقل فيها نسبة الركّاب من المسنين أو لا تبدو آمنة من جهة العدد أو التركيبة.

بحسب إحصاءات مجمع البحوث الإسلامية، بلغ عدد الطلاب الوافدين بالأزهر خلال العام الماضي 75,677 طالبًا، ينتمون إلى 100 دولة. وعلى الرغم من تنوع خلفياتهم الثقافية والدينية، فإن العديد منهم يشتركون في مشاعر الاغتراب والعزلة الاجتماعية.

ترى كريمة تولوس، الطالبة القادمة من المكسيك، أن مصر تجمع في طابعها ملامح من الثقافتين الشرقية والغربية. وتقول: "المصريون يحتفلون بالكريسماس وأعياد الربيع بطريقة تذكرني بالاحتفالات في بلدي، وهذا ما يدفعني للتأمل في التشابهات رغم اختلاف الجغرافيا".

لكن تولوس تصف المجتمع المصري بأنه "محافظ جدًا"، وتشير إلى صعوبات تواجهها في التعبير عن ذاتها بسبب ضعف لغتها العربية، ما يعيق تواصلها مع الآخرين، لاسيما في أوقات الاحتياج والدعم، كالفترات التي تعاني فيها من آلام دورتها الشهرية. وتضيف بأسى: "لا أحد يخفف عنك أو يتفهم معاناتك كما في بيتي في المكسيك، حيث نشأنا على تقاسم المسؤوليات والتعاطف في الأوقات الصعبة".

تجارب الوافدين في مصر تفتح النقاش حول حاجتهم إلى بيئة أكثر أمانًا ودعمًا، تحترم اختلافاتهم الثقافية وتضمن لهم حياة كريمة تليق بمهمتهم التعليمية والدينية، خاصة مع الدور البارز الذي تلعبه مؤسسة الأزهر في استقطابهم وتأهيلهم.

اقرأ أيضًا:تراهم جميعًا في وجهه.. آلام آلاء النجار

محاولة الاحتضان 

أدرك الأزهر أن عليه تهيئة هؤلاء الطلاب نفسيًا للعيش في مصر ومحاولة تذويب الفوارق بينهم وبين المصريين، خاصةً أن المصريين لديهم طابع معيشة مختلف عن دول جنوب شرق آسيا أو أوروبا؛ فأنشأ وحدة الدعم النفسي للطلاب الوافدين بمركز تطوير تعليم الوافدين الأجانب، وهيأ وحدة الدعم النفسي بمشيخة الأزهر لاستقبالهم.

من بين المستفيدين من هذه المبادرات، الطالبة الإندونيسية مفتاح المغفرة (27 عامًا)، التي عانت من أعراض الرهاب الاجتماعي، وتمكنت من التغلب عليها بمساعدة الفريق النفسي في المركز، حيث خضعت لجلسات فردية وجماعية ساعدتها على تحسين تواصلها مع الآخرين وتجاوز الاكتئاب عبر أنشطة مثل المشاركة التطوعية والرسم، الذي شكل وسيلة تعبير مفضلة لها.

قدِمت مفتاح إلى مصر لدراسة الطب، وواجهت صعوبات مضاعفة بسبب العيش خارج مدينة البعوث الإسلامية، ما زاد من شعورها بالوحدة نظرًا لمعاناتها من الرهاب الاجتماعي. رغم تلك التحديات، دفعها شغفها بالتخصص الطبي إلى مواصلة الدراسة، حتى بعد فقدانها صديقة مقرّبة من روسيا أصيبت بسرطان الدم، وهو ما ترك أثرًا نفسيًا عميقًا فيها.

تروي مفتاح لـ فكر تاني أنها ظلت لعامين في حالة من الحزن والغضب، نتيجة شعورها بالتقصير لعدم مرافقتها لصديقتها في أيامها الأخيرة أثناء زيارتها السنوية لعائلتها في إندونيسيا. وتؤكد أن دعم الفريق النفسي، إلى جانب إيمانها بالله، كان له الدور الحاسم في اجتياز تلك المرحلة الصعبة.

استضافة تليق بالأزهر

في حديثها لـ فكر تاني، تؤكد الدكتورة نهلة الصعيدي، مستشارة شيخ الأزهر لشؤون الوافدين، حرص المؤسسة على تقديم رعاية شاملة للطلاب الأجانب، بما يعكس مكانة الأزهر ودوره الحضاري، مشيرةً إلى متابعتها الشخصية للخدمات النفسية المقدمة للطلاب، والتي تشمل مركزًا نفسيًا متخصصًا داخل مركز تطوير تعليم الطلاب الوافدين، مزودًا بغرف دعم نفسي ومعالجين مؤهلين، إضافة إلى خدمات نفسية بمدينة البعوث الإسلامية.

وتشدد الصعيدي على أهمية الرعاية النفسية، خاصةً للطلاب المغتربين، موضحةً أن الاغتراب عن الوطن والأهل يحمل تحديات جسيمة، إلا أنها تهون في سبيل طلب العلم، ما يجعل الدعم النفسي ضرورة لتيسير اندماج الطلبة وتخفيف شعورهم بالعزلة.

ويوضح الدكتور إبراهيم مجدي حسين، استشاري الطب النفسي، أن مشاعر القلق شائعة لدى الوافدين، حتى في ظل الإحساس بالأمان، نظرًا لما تفرضه الغربة من ضغوط، لافتًا إلى أن بعض المضايقات مثل التنمر على اللغة أو اللون تُعد ممارسات فردية لا تعبّر عن طبيعة المجتمع المصري المعروف بعاطفيته ودفئه.

ويدعو مجدي، في حديثه لـ فكر تاني، إلى تعزيز تأقلم الطلاب مع الحياة اليومية في مصر، من خلال تكوين علاقات آمنة والانخراط في الأنشطة الاجتماعية، أو قضاء الإجازات في بلدانهم لتجديد طاقتهم النفسية. كما يناشد المواطنين عدم التنمر على الوافدين، قائلًا إنهم "ضيوف الأزهر"، وإكرام الضيف قيمة أصيلة في الثقافة المصرية.

ويؤكد أن الغالبية العظمى من المصريين يتعاملون بودّ ومحبة مع الوافدين، حتى أن كثيرًا منهم يعتبر الحياة في مصر أفضل من بلاده الأصلية، وقد يعزم على البقاء لفترة أطول، مدفوعًا بعلاقة وجدانية مع المجتمع المضيف.

وتدعم هذه الرؤية تجربة الطالب النيجيري محمد القاضي، الذي قال إنه وقع في حب مصر منذ طفولته، حينما لجأت أسرته إليها واستقرت بها. ويستحضر القاضي ذكريات مشاركته المبكرة في الثورة بميدان التحرير، برفقة عائلته التي خرجت للدفاع عن وطن احتضنهم، رغم صغر سنه آنذاك وافتقاره لفهم أبعاد الحدث.

تبقى الغربة اختبارًا للنضج والصبر، يتطلب استعدادًا نفسيًا وبيئة داعمة. ومع ذلك، يظل السؤال مفتوحًا: هل يعود أولئك الذين يغادرون مصر، وقد اختبروا الغربة وتحدياتها، إلى خوض التجربة من جديد؟ سؤال يُجيب عليه الأمل الذي يحمله الطلاب الوافدون مثل غلام مرتضى وفاطمة يوسوف، في تكرار التجربة على أرض الأزهر، بثقة أكبر واستعداد نفسي أقوى.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة