خروف العيد.. لما تشوف "لحمة" ودنك

في حيّ بولاق القديم، وبين أزقته المتداخلة، يجلس الحاج نعيم، رجل ستينيّ الملامح طبع الزمن خيوطًا على تفاصيل وجهه، يشير بيده إلى فراغٍ أمامه، وكأنه يرسم صورةَ ماضٍ بعيد.

يقول: "إحنا اتربّينا نشتري خروف في كل عيد، وأبويا الله يرحمه كان بياخدني معاه وأنا صغير، ونقعد نختار بعناية كأنه عريس. كان لازم يبقى مليان وسمين وصحيح كده (معافى بدنيًا)، وكان سعره 300 جنيه أو أقل. وأنا كنت بشتريه في أوائل الألفينيات، ومكنش بيكمل الألف جنيه، وكنا نحس إننا عملنا إنجاز كبير لما نذبحه يوم العيد ونوزّع اللحم على قرايبنا!".

يحتل الصمت صدره قليلًا، ثم يُكمل بصوتٍ ممزوجٍ بالحنين والخذلان: "أنا كنت بشتري خروف لأولادي لحد 2015. بعدها، الدنيا اتقلبت. الأسعار بقت نار، والعيال كبرت، والمصاريف كترت. بقينا نشتري لحمة بالكيلو، ولو لقينا حتى".

تغيّر الزمن، ولم يتوقف عند ملامح الحاج نعيم وحده؛ بل أتى على الأرقام أيضًا.

قبل عشرين عامًا، كانت الأضاحي طقسًا شعبيًا في متناول يد كثير من الأسر. تمامًا كما كانت زينة رمضان تملأ الشوارع، وضحكات الأطفال تُزين صباحات يوم العيد الكبير. لم تكن المسألة تتعلق بحساباتٍ معقّدة، أو جمعيات، أو حصص مقسّمة بين خمسة أشخاص.

كان الأب يشتري الخروف من السوق قبل العيد بأيام، يُربطه في مدخل البيت، فيتولى الأطفال مهمة إطعامه، ويُصبح فردًا إضافيًا في الأسرة حتى يُساق صباح العيد إلى الذبح وسط فرحة الأهل والأطفال.

كانت الأضحية فعلًا عاديًا، يُحضَّر له بالفرح لا بالآلة الحاسبة. لم يكن عبئًا ثقيلًا يرهق كاهل رب الأسرة، ولا مشهدًا صعب المنال يشاهده الناس من بعيد.

لكن في زمنٍ تضاعفت فيه الأسعار وتقلّصت القدرة الشرائية، بات كثيرون يعيدون النظر في هذه الشعيرة: هل نذبح كما اعتدنا؟ أم نشارك؟ أم نكتفي بصك؟ أو نتخلّى عنها نهائيًا، مع تزايد أولويات الإنفاق على الغذاء والدواء والتعليم والسكن.

ومع تغيّر الأرقام، تغيّرت الحكاية.

من عام 2005 حتى 2025، كان سعر الخروف يتراوح بين 1000 و1500 جنيه. أما اليوم، فالسعر يتراوح بين 9000 و12 ألف جنيه. العجل أصبح بـ70 ألف جنيه أو أكثر. وبالتوازي، كان الجنيه يتراجع أمام الدولار، والأسعار تندفع كالسيل.

التضخّم، الذي كان مستقرًا نسبيًا في سنوات ما قبل الثورة، قفز في بعض الأعوام إلى 30 و40%، ومعه قفزت أحلام البسطاء.

وفجأة، أصبحت الأضحية قرارًا اقتصاديًا صعبًا، لا طقسًا دينيًا بهيجًا. وشيئًا فشيئًا، بدأ هذا المشهد يتآكل. اختفت الخراف من مداخل البيوت، وحلّت بدلًا منها الإعلانات على الشاشات.

تحوّل الفعل الشعبي إلى ترف، وتحوّلت النية إلى معادلة مالية معقّدة. وأصبحت الأضحية قرارًا اقتصاديًا صعبًا، لا طقسًا دينيًا بهيجًا.

في هذا التقرير، نستعرض رحلة الأرقام التي لا تحكي فقط عن تضخّمٍ جامح، بل ترسم خريطةً كاملةً لتحولات اجتماعية واقتصادية يعيشها المصريون عامًا بعد عام. ونرصد، عبر شهادات الناس وتحليل الأرقام، كيف تحوّلت الأضحية من شعيرة إلى معركةٍ يومية مع الغلاء، ومن طقسٍ ديني إلى وسيلةٍ للصمود الغذائي والاجتماعي.

هنضحي بالجمعية

لم تعد الأضحية طقسًا دينيًا يُؤدى كما كان، بل تحوّلت إلى مشروع سنوي تُعدّ له الخطط وتُحسب له التكاليف بعناية.

في حي الدقي بالقاهرة، تتشارك عبير ومنال، الجارتان منذ أكثر من ربع قرن، في تنظيم "جمعية أضحية"؛ تُمكنهما من شراء خروف واحد كل عام، يُذبح بالتناوب بينهما، حفاظًا على تقليد تربتا عليه، وتمسّكًا بفرحة لا تريدان لها أن تتلاشى.

في سنوات زواجهما الأولى، كانت الأضحية مشهدًا متخيلًا مفارقًا لواقع اعتادتا رؤيته في مرحلة طفولتهما. وقد تعقّدت الأوضاع الاقتصادية الآن وارتفعت التكاليف، ثم غابت الأضاحي عن المشهد الشعبي المصري.

تقول عبير: "بقينا بندفع مبلغ كل شهر في جمعية، زي بالظبط أقساط المدارس، بنبدأها أول السنة وبنخلصها قبل العيد. في الأول كنا بنشتري خروفين، إنما دلوقتي وبسبب الغلا، بقينا نكتفي بخروف واحد ونقسمه علينا". وتضيف منال: "إحنا مش بندور على كتر اللحمة، إحنا بندور على فرحة العيد، على الإحساس إن العيد لسه زيه زي زمان في عيون ولادنا... كل سنة بنخطط للذبح، سواء خروف كامل أو شِركة مع حد، المهم صوت الخروف مايغيبش من صباح العيد، والمهم لحظة التوزيع اللي كنا بنستناها وإحنا صغيرين".

بين دفاتر الجمعية وجدولة الأقساط، تحوّلت الأضحية إلى طقس وجداني، متجدد كل عام، تتشاركه الجارتان كمشروع لصون الفرحة، لا كمجرد شعيرة دينية. تقول منال: "الأضحية بقت جزء من معركتنا مع الغلا. بنحافظ بيها على طقوسنا، وبنخلق بيها ذكرى تفضل فاكراها الأيام وما تتنسيش".

ضحي النهاردة وقسّط بكرة

مع ارتفاع الأسعار وضغوط الحياة، باتت الأضحية التي كانت تقليدًا روحانيًا واجتماعيًا، اليوم إلى منتج يُروّج له عبر الإعلانات ويُدفع ثمنه بالتقسيط، كما في حالة جمعية تروّج لصك الأضحية بمبالغ تبدأ من ألف جنيه شهريًا.

أم محمد، التي اعتادت أن تشتري خروفًا بنفسها قبل العيد بأسابيع، تتابع هذه الإعلانات بمرارة، متسائلة: "هل بقى الأجر كمان بيتدفع على أقساط؟".

في الماضي، كان الذبح طقسًا مفعمًا بالفرح. تتجمع العائلة حول الخروف قبل العيد، تُطعم الأطفال الحيوان وتعلو ضحكاتهم، أما اليوم، فصارت الأضحية عبئًا ماليًا تتداوله الجمعيات والإعلانات، ويتعامل معها المواطن كفاتورة شهرية.

هذا التحول لا يعكس فقط تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، بل يشير إلى تغير العلاقة الروحية والاجتماعية مع الشعيرة التي كانت تعبيرًا عن التلاحم الأسري والفرح الجماعي، لتصبح عملية مالية بحتة، يفقد معها البيت دفء اللحظة وحميميتها.

العيد فرصة.. هناكل لحمة

يجلس الحاج معروف أمام منزله في قرية الغريب بمحافظة الغربية، متأملًا الشارع بصمت يحمل ثُقل السنين. يتحدث بصوت شرخه الزمن: "زمان، كان اللي بيضحي يشتري العجل لوحده، دلوقتي العجل بيتقسم على سبعة. وكل واحد يدفع على قد ما يقدر".

عند الحاج معروف، مشاركته في الأضحية ضرورة اجتماعية قبل أن تكون شعيرة دينية، بهدف إدخال الفرح على أولاده، رغم صعوبة شراء اللحوم بسبب ارتفاع الأسعار. يقول وهو يصلح طرف جلبابه: "الولاد طول السنة مش بيشموا ريحة اللحمة. كيلو اللحمة بقى بـ400 جنيه، أجيب منين؟ الأضحية بقت فرصتي الوحيدة أفرح بيهم، وأخلي البيت يحس إن العيد جه فعلًا".

بالنسبة له، الأضحية ليست فقط طقسًا دينيًا، بل خطة غذائية واقتصادية لاستغلال اللحوم وتوفيرها للعائلة لأطول فترة ممكنة.

"بحوش شوية لحمة في الفريزر تكفينا شهرين، والباقي نوزعه، كده نكون فرحنا نفسنا وفرحنا الناس".

تعكس قصة الحاج معروف واقع آلاف الأسر المصرية التي ترى في عيد الأضحى مناسبة نادرة للحصول على اللحوم، التي أصبحت اليوم سلعة فاخرة، لا تملأ موائدهم إلا في أوقات محدودة، أو تغيب عنها تمامًا بسبب الظروف الاقتصادية.

الشوادر حاضرة.. والزباين غايبة

في أحد شوارع المرج القديمة، يقف الحاج مصطفى أمام شادره الممتد على الرصيف، وسط خراف وعجول تلتهم التبن ببطء.

تُميز الشادر لافتة "لحوم أضاحي بلدي - أسعار تبدأ من 9 آلاف جنيه"، وانخفاض حاد في الزبائن، يعلق عليه الحاد مصطفى بالقول: "زمان كنا بنبدأ البيع بدري، دلوقتي الناس بتسأل وتشوف وتمشي".

في الجيزة، يروي الحاج أحمد، جزار ذو خبرة تزيد على 30 عامًا، كيف تغير موسم الأضاحي: "كان الناس تحجز قبل العيد وتشتري مباشرة، أما الآن، بنقعد بالأيام في الشادر وبعدين نرجع المواشي للمزرعة دون بيع.. الشوادر زادت اه، بس الحركة خفت، والناس بطلت تشتري".

ارتفاع الأسعار بات واضحًا ومؤثرًا على قدرة الأسر. يقول شاب يعمل مساعدًا في شادر بالهرم: "كان الخروف بـ2500 جنيه قبل خمس سنين، ودلوقتي وصل لـ 11 و12 ألف".

تُظهر الأسعار الرسمية أن سعر كيلو اللحم القائم من الخروف وصل إلى 230 جنيهًا، والعجل إلى 180 جنيهًا، مما يفوق القدرة الشرائية للأغلبية.

ومع ذلك، يوضح أحد تجار المواشي بالغربية أن زيادة الشوادر تعود إلى محاولة التجار الحفاظ على وجودهم في السوق رغم ضعف المبيعات، حيث يرون في استمرار النشاط سبيلًا للحفاظ على ديناميكية السوق.

ومع اقتراب عيد الأضحى، تبقى المواشي تنتظر المشترين، بينما تخفت خطوات الزبائن، ويعلو صمت يكسو أجواء الشوارع، مؤشرًا على تغير علاقة الأسر المصرية بموسم الأضاحي، الذي تحول من طقس احتفالي إلى عبء اقتصادي.

ما تقوله البيانات الرسمية

بالاعتماد على البيانات الرسمية الواردة في وثيقة الغرفة التجارية بالشرقية بشأن أسعار لحوم الأضاحي في مصر خلال الفترة من 2005 حتى 2025، يمكن إعداد تقرير تحليلي يُبرز ملامح التحوّل الحاد في تكلفة الأضاحي خلال العقدين الماضيين، ويُفسِّر الارتباط الوثيق بين هذه الأسعار والسياسات النقدية وسعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، إضافةً إلى عوامل الإنتاج المحلية، والاعتماد الكبير على الأعلاف المستوردة.

تشير البيانات إلى أن أسعار الكيلو القائم من الأضاحي قد تضاعفت بصورة لافتة؛ فالعجل البقري ارتفع من 15 جنيهًا في عام 2005 إلى 180 جنيهًا في عام 2025، وقفز الخروف الضأن من 16.5 جنيهًا إلى 230 جنيهًا، بينما ارتفع العجل الجاموسي من 14 جنيهًا إلى 160 جنيهًا للكيلو القائم خلال الفترة نفسها. وتُظهر هذه القفزات زياداتٍ تراكميةً تتراوح بين 1000% و1300%، وهي زيادات لا يمكن تفسيرها فقط بالتضخم، بل تشير إلى تغيّرات هيكلية أعمق في قطاع تربية الماشية وسلاسل التوريد.

بلال شعيب
بلال شعيب

عند مقارنة أسعار عام 2021 بأسعار عام 2025، يتّضح أن الزيادة خلال هذه السنوات الأربع فقط تتراوح بين 200% و229%. فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر الخروف من 70 جنيهًا للكيلو القائم إلى 230 جنيهًا، والعجل البقري من 58 جنيهًا إلى 180 جنيهًا. وهي طفرة تعكس اضطرابًا حادًا في التوازن بين العرض والطلب، وتراجعًا كبيرًا في القدرة الشرائية للمواطنين، إلى جانب تأثر السوق المحلي بانخفاض قيمة الجنيه.

فخلال الفترة بين عامي 2021 و2025، تدهورت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بنسبة تُقدَّر بنحو 220%، حيث انخفض سعر الصرف من 15.6 جنيهًا للدولار إلى نحو 50 جنيهًا. وقد انعكس هذا الانخفاض الحاد على أسعار الأعلاف المستوردة، ومستلزمات التربية، وتكاليف النقل، ما جعل تكلفة الإنتاج عبئًا ثقيلًا لا يُحتمل على المربين والمستهلكين على حد سواء.

كما تُظهر البيانات، شهد السوق حالة من الاستقرار النسبي في أسعار الأضاحي خلال الفترة بين عامي 2005 و2015، حيث ارتفعت الأسعار تدريجيًا وبوتيرة بطيئة. إلا أن تحرير سعر الصرف في عام 2016 شكّل نقطة تحوّل، إذ بدأت الأسعار في التصاعد بشكل متسارع.

وقد سُجِّلت القفزة الكبرى بين عامي 2022 و2023، حيث ارتفعت أسعار بعض أنواع الأضاحي بنسبة وصلت إلى 95% خلال عام واحد فقط، ثم تواصلت الزيادات حتى عام 2025.

تُظهر الأرقام كذلك العلاقة الطردية القوية بين تراجع قيمة الجنيه وارتفاع أسعار اللحوم الحية، مؤكدةً أن اللحوم تُعد من السلع الحساسة التي تتأثر سريعًا بأي تقلبات في السوق النقدي، لا سيما في ظل اعتماد قطاع الثروة الحيوانية بشكل كبير على الأعلاف المستوردة، وضعف سلاسل الإمداد المحلية.

وفي هذا الإطار، توصي الغرفة التجارية بعدد من الإصلاحات الهيكلية للحد من الضغوط السعرية مستقبلًا، أبرزها: تحسين السلالات المحلية، والتوسع في زراعة الأعلاف، وتعزيز خدمات الرعاية البيطرية، إلى جانب دعم نظم الإنتاج الكبرى كبديل عن المزارع الصغيرة، وتيسير حصولها على الأراضي المناسبة، في خطوة تعكس الحاجة إلى إعادة هيكلة شاملة لقطاع الإنتاج الحيواني.

وتُظهر هذه المعطيات ما يمكن وصفه بـ"انفجار سعري تدريجي" في قطاع الأضاحي، بات يُمثّل أحد أبرز ملامح الأزمة المعيشية في مصر، خاصة خلال المواسم الدينية والاجتماعية مثل عيد الأضحى. إذ لم تعد الأضحية متاحة إلا من خلال الشراكات الجماعية أو نظام الصكوك بالتقسيط، في تحوّل لافت يجعل من الأضحية قرارًا اقتصاديًا بالغ الكلفة، تحدده أسعار الدولار أكثر مما تحدده النوايا.

وما يراه الخبراء

في قلب مشهد الأضحية المتغير، حيث تختلط الأرقام الجافة بمشاعر الأسر المثقلة بالالتزامات، يبرز رأي الخبراء لتفسير ما حدث لأسعار اللحوم خلال العقدين الماضيين.

يقول الدكتور بلال شعيب، الخبير الاقتصادي، إن رحلة الأسعار من 2005 إلى 2025 تُظهر ليس فقط تضخمًا ماليًا، بل تحوّلًا هيكليًا خطيرًا في الاقتصاد المصري.

ففي عام 2005، كان الدولار الأمريكي يعادل نحو 5 جنيهات، أما في عام 2025 فقد قفز سعره إلى 50 جنيهًا، أي أن قيمة الجنيه تراجعت عشرة أضعاف. وهذا ما انعكس بشكل مباشر على أسعار اللحوم الحية، حيث كان سعر كيلو اللحم القائم حوالي 15 جنيهًا في 2005، أما اليوم فقد بلغ نحو 150 جنيهًا، وهو ارتفاع موازٍ لانخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار.

ويرى شعيب أن ما حدث لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة تراكمات ناتجة عن اعتماد مصر المفرط على الدولار في تجارتها الخارجية، قائلًا: "نحن دولة تعتمد على نظام السويفت في كل وارداتها، أي أننا نشتري كل شيء بالدولار، بينما صادراتنا لا تكفي لتغطية هذا الطلب. نحن نخلق احتياجات استيرادية تقترب من 90 مليار دولار سنويًا، في حين لا تتجاوز صادراتنا 40 مليارًا في أفضل الأحوال، وهذا يخلق خللًا هيكليًا دائمًا في الميزان التجاري".

ويُشير شعيب إلى أن الديون الخارجية هي مؤشر إضافي على الاختلال القائم، موضحًا أن مصر كانت مدينة في عام 2016 بنحو 46 مليار دولار، بينما بلغت ديونها في عام 2025 نحو 156 مليار دولار، بزيادة بلغت 110 مليارات خلال أقل من عقد.

بلال شعيب
بلال شعيب

وفي عام 2019 فقط، كانت الديون الخارجية 109 مليارات دولار، أي إن الزيادة خلال السنوات الست التالية كانت بمعدل 10 مليارات دولار سنويًا، ما يضع ضغطًا هائلًا على الاقتصاد والعملة المحلية.

وبحسب شعيب، فإن أزمة ارتفاع الأسعار لا تتوقف عند النقد وسعر الصرف فقط، بل تمتد إلى بنية الاقتصاد غير الرسمي، الذي يُقدَّر رسميًا بنحو 45%، بينما يرى هو أنه "ربما يتجاوز 100% فعليًا"، في ظل النشاط الاقتصادي الواسع الذي يدور خارج البنوك والجهاز المصرفي. ويستشهد في ذلك بقضايا مثل "الدجوي" وأشباهها، التي كشفت عن أرقام فلكية خارج الرقابة البنكية.

وعن سوق اللحوم تحديدًا، يؤكد شعيب أن مصر تستورد سنويًا نحو مليون طن من اللحوم الحمراء، مقسّمة مناصفة بين لحوم مجمدة وأخرى حية، وهو ما يجعل السوق عرضة لتقلبات سعر الدولار العالمي.

كما أن أزمة الأعلاف تضاعف المشكلة، إذ إن نسبة الاكتفاء الذاتي من الأعلاف لا تتجاوز 10 إلى 15%، بينما يُستورد حوالي 85% منها من الخارج، ما يجعل كل زيادة في سعر الدولار تُترجم فورًا إلى ارتفاع أسعار اللحوم. يقول شعيب: "كلما ارتفع سعر الصرف، زادت تكلفة الإنتاج المحلي، وبالتالي ارتفعت أسعار اللحوم".

وحول الحلول، يرى شعيب أن أي محاولة إصلاح يجب أن تكون جذرية، تبدأ بتوفير مدخلات الإنتاج المحلي، ودعم الزراعات العلفية، واستعادة تكامل الريف المصري كما كان سابقًا. ويقول: "زمان، في الصعيد والدلتا، كان كل بيت يربي ماشية ويزرع، وكان هناك تكامل طبيعي بين الزراعة وتربية الحيوان. أما الآن، فالشباب يتركون الزراعة لأن التوك توك يدرّ ربحًا أكبر".

وينتقد الخبير الاقتصادي التمويلات البنكية للقطاع الزراعي، معتبرًا أنها توجهت في اتجاه خاطئ، حيث يتم تمويل الأفراد لشراء ماشية دون إلزامهم بإقامة مزارع حقيقية، ما يفتح الباب أمام تحويل القروض إلى أغراض استهلاكية أو مضاربات. ويضرب مثالًا ببنك التنمية والائتمان الزراعي، الذي يرى أنه "فقد دوره الأساسي في تمويل الزراعة والثروة الحيوانية، وتحول إلى بنك تجاري يروّج لنفسه مثل أي مصرف آخر"، بينما الأصل أن "يكون بنكًا متخصصًا في دعم الفلاحين والمربين".

كما يطرح شعيب حلولًا عملية لتقليل فاتورة الغذاء، منها الاهتمام بسلالات مثل البرقي الموجودة في مناطق مثل الوادي الجديد وسيناء، التي تتغذى على المراعي الطبيعية ولا تكلف الدولة كثيرًا، وتشجيع إنتاج اللحوم البديلة مثل الجملي، التي تُباع بأسعار أقل من الأبقار رغم قيمتها الغذائية العالية.

ويعرب شعيب عن قلقه من أن الأضحية فقدت روحها كمشهد اجتماعي وروحي، وتحولت إلى معادلة مالية بحتة. ويرى أن صكوك الأضاحي، رغم كونها حلًا وسطًا للبعض، تفصل الناس عن معنى الشعيرة. ويستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "يا فاطمة، قومي إلى أضحيتك فاشهديها"، مؤكدًا أن المشاهدة والمشاركة في الشعيرة جزء من الطقس وليست مجرد توزيع لحوم.

ويؤكد شعيب: "الأضحية أصبحت قرارًا اقتصاديًا، لا شعيرة فقط، وهذا في حد ذاته مؤشر خطير على عمق التحول الذي طرأ على المجتمع المصري. وكي نتجاوز هذا، نحتاج إلى رؤية اقتصادية تنتصر للإنتاج المحلي وتعيد للتكافل والفرحة مكانتهما في مواسمنا الدينية".

شلبي جابر شلبي
شلبي جابر شلبي

وفي السياق ذاته، يؤكد شلبي جابر شلبي، سكرتير شعبة القصابين بالاتحاد العام للغرف التجارية، أن تحولات الأسعار خلال السنوات الأخيرة لم تغيّر السوق فحسب، بل غيّرت سلوك المستهلكين أنفسهم. يقول شلبي: "بالتأكيد تغيرت الأسعار، ومن الطبيعي أن يتغير الزبون أيضًا... الذي كان يشتري 8 أو 10 كيلو لحمة في العيد، قد يكتفي الآن بنصف الكمية، وذلك بسبب تجاوز سعر الكيلو 400 جنيه". مشيرًا إلى أن التضخم انعكس مباشرة على قدرة الأسر الشرائية، حتى في موسم يفترض أن يرتبط بالفرح والكرم.

ورغم الضغوط الاقتصادية، يلفت شلبي إلى أن الإقبال على الأضحية لا يزال قائمًا، وإن كان بأساليب جديدة أكثر تكيّفًا مع الواقع.

ويقول: "الناس لا تريد أن تفوت السنة، حتى لو كانت الإمكانات أقل... بات في إمكان بعض الأشخاص المشاركة معًا في الأضحية، حتى يتشارك سبعة أشخاص في عجل، وهذا حل عملي يساعدهم على أداء الشعيرة بشكل يتناسب مع إمكانياتهم".

وعن تفضيلات المواطنين، يؤكد شلبي أن الخروف لا يزال الخيار الأول لدى أغلب المصريين، رغم ارتفاع أسعار العجول. ويقول: "الخروف دائمًا في الصدارة، حتى مع الفارق في السعر... الناس تحبه، ويعتبرون أن طقوس العيد لا تكتمل بدونه، خصوصًا في المناطق الشعبية والريفية".

ويشير شلبي إلى أن قضية الأسعار أعمق من مجرد مسألة عرض وطلب. ويقول: "الزيادة ليست جديدة، وتحدثنا عنها كثيرًا... ومن خلال عضويتي في لجنة الأمن الغذائي بمجلس النواب، اقترحت إنشاء مجلس أعلى للثروة الحيوانية، يكون مسؤولًا عن تنظيم القطاع بالكامل، وضبط الأسعار، وتنمية الإنتاج المحلي بشكل مستدام".

ويشدّد على أن الحل لا يكمن في جهة واحدة فقط، بل في تنسيق مؤسسي متكامل. ويقول: "الموضوع يحتاج إلى عمل منظم بين وزارة الزراعة ووزارة الري والمستوردين، لكي نوفر أعلافًا كافية، ونقلل التكاليف التي ترفع السعر على المستهلك في النهاية". ويوضح أن سعر الأعلاف وحده أصبح عبئًا ينعكس على كل مراحل الإنتاج.

ويحذر من اتجاه بعض التجار إلى ذبح إناث الماشية بسبب انخفاض أسعارها مقارنة بالذكور، وهو ما يراه تهديدًا خطيرًا للثروة الحيوانية على المدى الطويل. ويقول: "لو استمرينا في التضحية بالأنثى لمجرد أن سعرها أقل، سنخسر كثيرًا، لأن ذلك يؤثر على دورة الإنتاج بالكامل".

ويختم حديثه بدعوة صريحة إلى الاستماع للعاملين الحقيقيين في الميدان، قائلًا: "علينا دائمًا أن نسمع للفلاح، والمربي، والجزار... فهم الذين يرون السوق من أرض الواقع. ومن خلال التواصل معهم، والاعتماد على خبراء البحوث الزراعية، نستطيع تطوير قطاع الثروة الحيوانية، وتذليل العقبات التي تقف أمام الاكتفاء الذاتي".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة