عراقجي في القاهرة.. تقارب سمته الحذر والوساطة الهادئة

في خضم بيئة إقليمية مشحونة بالصراعات والتقلبات الجيوسياسية، برزت زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى القاهرة، ولقاؤه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بوصفها مؤشرًا لافتًا يُعيد طرح مستقبل العلاقات المصرية الإيرانية على طاولة النقاش.

فبينما تناولت المحادثات قضايا محورية مثل تطورات غزة، والتهديدات الأمنية في البحر الأحمر، والملف النووي الإيراني، بدا أن دلالة الزيارة تتجاوز مجرد تبادل الآراء حول الأزمات الإقليمية، لتطرح تساؤلات جوهرية: هل تمثل هذه الخطوة بداية مسار دبلوماسي جديد نحو تقارب فعلي بين القاهرة وطهران؟ أم أنها تظل ضمن نطاق المناورات المؤقتة التي تفرضها اعتبارات اللحظة الراهنة في الشرق الأوسط؟

تقارب مصري إيراني سمته الحذر

شهدت العلاقات المصرية-الإيرانية تحركات دبلوماسية لافتة خلال السنوات الثلاث الماضية، عكستها زيارات متبادلة وتصريحات رسمية تشير إلى رغبة مشتركة في فتح قنوات حوار، دون أن تبلغ حتى الآن مستوى التطبيع الكامل.

ووفق بيان صادر عن رئاسة الجمهورية المصرية، أكد الجانبان خلال اللقاء الأخير التزامهما بتطوير التعاون الثنائي في مختلف المجالات. وقد نقل وزير الخارجية الإيراني تحيات الرئيس مسعود بزشكيان، بينما جدد الرئيس عبد الفتاح السيسي دعم القاهرة لمواصلة الحوار البناء مع طهران، في سياق رؤية استراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي.

المباحثات بين الطرفين شملت عددًا من الملفات الإقليمية ذات الأولوية، في مقدمتها تطورات الحرب في غزة وتداعياتها على الأمن الإقليمي. وعبّر السيسي عن رفض مصر لأي توسع في رقعة الصراعات، محذرًا من خطر اندلاع حرب إقليمية شاملة. كما شدد على ضرورة وقف إطلاق النار فورًا في القطاع، وتيسير إيصال المساعدات الإنسانية، مع استعادة الملاحة الآمنة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، لما لذلك من أهمية استراتيجية للمنطقة.

وبينما أكد عراقجي أن إيران لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية، وكرر التزام بلاده بالطابع السلمي لبرنامجها النووي، قال خلال مؤتمر صحفي مشترك جمعه بنظيره المصري بدر عبد العاطي: "إذا كان الهدف من المفاوضات القضاء على الأنشطة النووية السلمية، فلن يكون هناك اتفاق". فيما أشار إلى أن طهران سترد قريبًا على المقترح الأمريكي الأخير بشأن الملف النووي، في إشارة إلى استمرار المسار الدبلوماسي رغم التوترات القائمة.

وفيما يتعلق بغزة، عبّر عراقجي عن دعم بلاده لوقف إطلاق نار دائم، وتيسير دخول المساعدات، والتوصل إلى اتفاق تبادل أسرى، مثمنًا في الوقت ذاته دور القاهرة في دعم جهود الاستقرار بالمنطقة.

كذلك، أبدى وزير الخارجية بدر عبد العاطي، قلقًا من مخاطر التصعيد المرتبط بالبرنامج النووي الإيراني، محذرًا من أن أي صدام عسكري قد يُقوض أمن المنطقة برمتها. وأكد حرص مصر على تفادي الانزلاق إلى الفوضى، مشيرًا إلى أهمية حماية الممرات الملاحية، لا سيما البحر الأحمر، لما يمثله من عمق حيوي للأمن الإقليمي والدولي.

محمد محسن أبو النور
محمد محسن أبو النور

يرى د. محمد محسن أبو النور، رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، أن الزيارة الأخيرة تمثل نقطة تحول في العلاقات الثنائية، لافتًا إلى أن مصر وإيران تتحركان نحو صياغة موقف موحد إزاء قضايا إقليمية ودولية متشابكة.

ويضيف أبو النور، في حديثه لـ فَكّر تاني، أن المرحلة المقبلة قد تشهد عودة العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء، في ظل حديث الطرفين عن تشكيل لجنة فنية لمناقشة الترتيبات الخاصة بإعادة فتح السفارات.

ويشير إلى تصريحات عراقجي حول قرب استكمال خطوات المصالحة، مؤكدًا أن إعادة التمثيل الدبلوماسي سيكون خطوة حاسمة لتعزيز التنسيق السياسي، ومتابعة ملفات ملحّة كغزة والملف النووي.

وقد تناولت المحادثات تطورات الأوضاع في اليمن والممرات البحرية، حيث شدد عراقجي على أن الفصائل مثل "أنصار الله"، و"حماس"، و"حزب الله"، تعمل باستقلالية، دون تلقي أوامر مباشرة من طهران. وذكر أن الهجمات الحوثية في البحر الأحمر تستهدف فقط السفن المرتبطة بإسرائيل، مؤكدًا توقفها في حال تم التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل في غزة.

إلا أن هذا الطرح الإيراني لم يحجب تحفظ القاهرة، التي أبدت قلقها المتكرر من تصاعد تهديدات الملاحة، واعتبرت حماية الممرات الحيوية في البحر الأحمر مسألة لا تقبل المساومة.

النووي الإيراني ووساطة مصرية هادئة

لم تخلُ زيارة عراقجي إلى القاهرة من طرح الملف النووي الإيراني، حيث قاد السيسي لقاء ثلاثيًا خاصًا جمعه والوزير الإيراني بمدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي. وقد ناقشوا ما صدر مؤخرًا عن الوكالة من تقارير تُحذّر من ارتفاع مستويات تخصيب اليورانيوم في إيران إلى نسب تقترب من العتبة العسكرية.

هذا التحرك الدبلوماسي المصري يفسره أبو النور، ضمن محاولة القاهرة للعب دور الوسيط النزيه الهادئ بين طهران والعواصم الغربية، في ظل تصاعد التوتر بشأن البرنامج النووي الإيراني. وهو يشير إلى أن مصر تسعى إلى احتواء الأزمة عبر المسارات السياسية والدبلوماسية، محذّرًا من مغبّة توظيف التقرير من قِبل أطراف إقليمية أو دولية لتعميق الاستقطاب أو دفع المنطقة نحو مواجهة أوسع.

ووصف تقرير الوكالة إيران بأنها "الدولة غير النووية الوحيدة التي تنتج مواد نووية بهذه الخصائص"، معتبرًا أن ذلك يشكّل "تهديدًا خطيرًا للأمن الدولي". بينما شككت طهران في حيادية التقرير، معتبرةً أنه ينطوي على أبعاد سياسية، ورأت في توقيته ما يخدم طموحات جروسي الشخصية، في ظل تقديرات تشير إلى رغبته في الترشح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة خلفًا لأنطونيو جوتيريش.

وفي مؤتمر صحفي أعقب اللقاء، دعا جروسي إلى استئناف المفاوضات المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، مؤكدًا أن التقرير يندرج ضمن المهام التقنية المعتادة للوكالة، ولا يعكس موقفًا سياسيًا. كما شدد على أهمية الشفافية الكاملة من جانب طهران لضمان عدم انزلاق الملف نحو خيارات غير دبلوماسية.

وفي السياق، أكد وزير الخارجية المصري دعم بلاده لأي مسار تفاوضي يجنّب المنطقة السيناريوهات العسكرية، لافتًا إلى أن التصعيد لن يخدم استقرار الشرق الأوسط. فيما شدد الوزير الإيراني على أن طهران ما تزال ترى في الدبلوماسية الخيار الواقعي الوحيد، محذرًا من تسييس عمل الوكالة بهدف تحقيق مكاسب جيوسياسية على حساب الأمن الإقليمي.

أكرم بدر الدين
أكرم بدر الدين

ينظر د. أكرم بدر الدين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، إلى زيارة عراقجي إلى القاهرة باعتبارها تعكس اعترافًا متبادلًا بالدور الإقليمي الفاعل لكل من مصر وإيران. ويوضح - في حديثه لـ فكر تاني - أن القاهرة تسعى باستمرار إلى نزع فتيل الأزمات في المنطقة، وهو ما تجلى في إدارتها لملفات معقدة مثل غزة وسوريا ولبنان، بينما تلعب طهران دورًا مؤثرًا، سواء بصورة مباشرة أو عبر حلفائها.

ويؤكد بدر الدين أن اللقاء المصري-الإيراني له رمزية خاصة، كونه تناول الملف النووي في وقت حساس يشهد تداخلات أمريكية وأوروبية.

ويشير إلى أن القاهرة تحرص على مبدأ منع الانتشار النووي، ودعم إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، معتبرًا أن توقيت الزيارة يتقاطع مع جهود مصرية أوسع لتحصين الأمن الإقليمي وإعادة إحياء قنوات الاتصال بين القوى الإقليمية والدولية.

ويمكن القول إن زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى القاهرة وما تبعها من لقاءات وتحركات سياسية، تُعد مؤشرًا على وجود إرادة مشتركة لإعادة صياغة العلاقة بين البلدين ضمن معادلة توازن جديدة في المنطقة. غير أن هذا الانفتاح لا يزال محكومًا بسقف من الحذر المرتبط باختلاف الرؤى، خصوصًا في ملفات مثل الأمن الإقليمي، والتدخلات بالوكالة، وبرنامج إيران النووي.

وفي ضوء التحديات المتشابكة إقليميًا ودوليًا، تبدو مصر ماضية في أداء دور محوري كوسيط ووازن، في حين تحاول إيران الترويج لمواقفها عبر الانخراط النشط في الحوارات الإقليمية، ما قد يُمهّد لمرحلة جديدة من التفاعلات بين البلدين، تستند إلى المصالح المشتركة أكثر من الخطابات الأيديولوجية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة