منذ أبريل 2023 والسودان يشهد تصاعدات خطيرة في صراع لا يتوقف بين الجيش وقوات الدعم السريع، ما يلقي بظلاله الكارثية على الأوضاع الإنسانية والسياسية في البلاد. هذه الأزمة، التي بدأت كاشتباكات محدودة، سرعان ما تحولت إلى حرب شاملة ذات تداعيات إقليمية ودولية، تمثلت في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية، ونزوح الملايين من المدنيين.
في محاولة لتسليط الضوء على هذه الأبعاد المعقدة واستشراف مستقبل النزاع، نظم منتدى إفريقيا بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي ندوة حوارية بعنوان "الحرب السودانية إلى أين".
جمعت الندوة نخبة من الشخصيات السودانية البارزة لمناقشة جذور الصراع، وتحليل سيناريوهاته المحتملة، واستشراف سبل تحقيق السلام المستدام في الجارة الشقيقة.
صراع الجنرالات
وقد تساءل الكاتب الصحفي خالد محمود، في مستهل تقديمه للندوة: "هل اقتربت الحرب السودانية من أن تضع أوزارها؟ وهل آن أوان السلام ليحلّ على ربوع الجارة الشقيقة؟ ومن الذي يقف حجر عثرة في طريق هذا السلام؟ وهل بالإمكان تحقيق سلام مستدام، أم أننا أمام مجرد صياغات مؤقتة توقف القتال دون أن تزيل أسبابه؟ كل هذه الأسئلة ننتظر من ضيوفنا الكرام الإجابة عنها".

وأضاف محمود: "الحرب السودانية ليست صراعًا عالميًا كحرب أوكرانيا وروسيا، بل هي نزاع داخلي بين الجنرالات. لقد شهد السودان سلسلة من الصراعات الممتدة منذ عام 1955 وحتى اليوم؛ صراعات انتهى بعضها بتقسيم البلاد، وتبعها تمرد تلو تمرد، وهي من أعلى موجات التمرد في المنطقة تقريبًا. والمشكلة اليوم لا تكمن فقط في استمرار الحرب، بل في السيناريوهات المتوقعة لما بعد توقفها".
وتابع: "القوى السياسية في السودان تجمّدت عند لحظة ثورة ديسمبر، بينما يحلم الكيزان – أي جماعة الإخوان – بسودان ما قبل ديسمبر. ومن هنا، ننتقل إلى محاولة قراءة تلك السيناريوهات المحتملة بعد انتهاء الحرب، مع الإشارة إلى أن للحرب جانبين: سياسي وإنساني. ولنبدأ أولًا بالجانب الإنساني، مع مداخلة الأستاذة صباح آدم".
تفشي الأمراض بين السودانيين
وفي كلمتها، قالت صباح آدم، مديرة مركز "ألق" الإعلامي، إنّ السودانيين ينتظرون نهاية الحرب بفارغ الصبر، بسبب التدهور الحاد في الأوضاع الإنسانية، سواء على الصعيد الصحي أو الغذائي أو الأمني، فضلًا عن تصاعد العنف الممنهج ضد النساء منذ أبريل 2023، وتدهور أوضاع الصحفيين والصحفيات.
وأشارت إلى أن الحرب، خلال عامها الأول، شهدت تحولات درامية كبرى على المستويين العسكري والسياسي، ما أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية. فقد تسببت المعارك في تعطيل شبه كامل للخدمات الأساسية، وارتفع عدد النازحين من 7 ملايين في بداية الحرب إلى نحو 14 مليونًا في عام 2024، مع استمرار ارتفاع الأرقام يومًا بعد يوم.
وأضافت صباح آدم أن تقديرات أعداد الضحايا تتراوح بين 28 ألفًا و50 ألف قتيل، بينما يشهد القطاع الصحي انهيارًا غير مسبوق؛ إذ خرجت غالبية المستشفيات من الخدمة، ويحتاج نحو 40% من المواطنين إلى رعاية صحية عاجلة نتيجة تفشي سوء التغذية، لا سيما بين الأطفال.
وتابعت أن أكثر من 3 ملايين سوداني باتوا بحاجة إلى تدخل غذائي فوري، مع خطر الوفاة جوعًا، في ظل خروج 70% من المستشفيات عن الخدمة، وتعرض 41 شركة أدوية للنهب والتخريب. كما واجهت الكوادر الطبية عمليات قتل ونزوح وتعذيب، وتهدد حياتهم أخطار مستمرة، في حين أُغلقت 60% من الصيدليات، وأصبح الدواء يُباع في الشوارع على "الفرش" كما تُباع الملابس.
وحذّرت من انتشار واسع للأوبئة في البلاد، مشيرة إلى تفشي أمراض خطيرة من بينها الكوليرا، والدفتيريا، وشلل الأطفال، والحصبة، وحمى الضنك، والملاريا.
تشرد الصحفيين واغتصاب النساء
وحول أوضاع الصحافة والصحفيين السودانيين، قالت صباح آدم، مديرة مركز "ألق" الإعلامي، إن جميع المؤسسات الصحفية في السودان انهارت بالكامل، مشيرة إلى أنّ الصحفيين باتوا مشرّدين ويعانون من البطالة، في ظل غياب بيئة عمل آمنة.
وأضافت أن 80% من الصحفيات فقدن وظائفهن نتيجة حملات التخوين والانتهاكات، من بينها التعذيب وسوء المعاملة.
وفي ردها على سؤال فكّر تاني، بشأن استغلال النساء واغتصابهن خلال الحرب، أكدت صباح آدم أن المرأة السودانية تُعدّ الأكثر تضررًا في هذه الحرب، قائلة: "منذ الأيام الأولى للحرب، وُصفت بأنها حرب على النساء، بسبب تصاعد حوادث الاغتصاب، والتي وصلت في بعض الحالات إلى الاغتصاب الجماعي".
وأشارت إلى أن الأطراف المتنازعة تتبادل الاتهامات بشأن هذه الانتهاكات، بينما تبقى النساء الضحايا بلا حماية حقيقية. وأضافت أن استهداف النساء في الحروب يُستخدم كسلاح لإذلال الرجال من خلال زوجاتهم أو بناتهم أو شقيقاتهم، مؤكدة أن ما يحدث اليوم يذكّر بجرائم "الجنجويد" عام 2003، عندما ارتُكبت عمليات اغتصاب وقتل ضد النساء.
وتابعت قائلة إن ما يميّز هذه الحرب هو امتداد الانتهاكات الجنسية إلى مناطق لم يكن من المتوقع أن تطالها مثل هذه الجرائم، مما يكشف عن تصعيد خطير في طبيعة العنف الممارس ضد النساء في السودان.
سلام وفق ثورة ديسمبر
وقال عثمان فضل الله، رئيس تحرير صحيفة "أفق جديد"، إن السلام في السودان لا يزال حلمًا بعيد المنال رغم التطلعات التي حملتها شعارات ثورة ديسمبر، والمطالبة بتحقيق العدالة لكل السودانيين.
وأكد أن تعقيدات الحرب الراهنة تفوق ما شهدته البلاد في صراعاتها السابقة، مضيفًا: "كثيرًا ما أتساءل: هل أدعو لانتصار البرهان على حميدتي؟ لكن هذا السؤال مربك، لأن الفصل بين الجيش والحركة الإسلامية (الكيزان) ليس واضحًا، بل إن العلاقة بين الدعم السريع والكيزان تبدو أكثر تعقيدًا".
وأشار فضل الله إلى أن قوات الدعم السريع أحرقت نحو 31 قرية في إقليم دارفور، فيما اعتقلت القوات المسلحة السودانية، التي حصلت على تفويض شعبي سابق، ما لا يقل عن 4 آلاف مواطن بناءً على شبهات بالانتماء أو التعاون مع الدعم السريع. وأضاف أن إحدى القرى شهدت اعتقال 50 مواطنًا دفعة واحدة للسبب ذاته.
وفي ما يخص جهود الوساطة، أوضح فضل الله أن عدد المبادرات المطروحة لإنهاء الحرب بلغ عشر مبادرات، تعلن القوات المسلحة موافقتها على أغلبها، بينما يرفضها قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي). وأشار إلى أن جميع القوى السياسية في السودان تُجمع على ضرورة وقف الحرب والعودة إلى مسار السلام، لافتًا إلى أن "مبادرة جدة"، التي طرحتها السعودية، واجهت رفضًا من قوات الدعم السريع التي اتهمت الرياض بدعم الجيش السوداني.
حرب معقدة
وفي كلمته، قال الدكتور عبدالرحمن الغالي، القيادي في حزب الأمة السوداني، إن الحرب الدائرة في السودان شديدة التعقيد، إذ بدأت بين شخصين كانا يشكلان معًا بنية السلطة ذاتها، قبل أن ينفصلا لأسباب عميقة، ففشلت المفاوضات بينهما وانزلقت البلاد نحو الدمار.

وأوضح أن للحرب سرديات متعددة مدعومة بشواهد، أبرزها ما يتعلق بالدعم السريع، الذي راكم نفوذًا اقتصاديًا ونسج علاقات دولية مكّنته من شراء مساحات واسعة حول منشآته العسكرية، ما يثير تساؤلات مشروعة حول طبيعة النزاع، وهل هو صراع داخلي أم إقليمي، نظرًا لتنامي النفوذ الخليجي في السودان.
وأشار الغالي إلى أن الحرب الحالية قد تكون أقرب إلى "حرب بالوكالة"، إذ تستفيد منها أطراف خارجية لها مصالح مباشرة في السودان. ونقل عن البعض قولهم إن النزاع قد ينتهي بمجرد توافق الرياض وأبو ظبي، في إشارة إلى حجم التأثير الإقليمي في مسار الأزمة السودانية.
وفي ما يخص جهود التسوية، شدد القيادي في حزب الأمة على أن المبادرات المطروحة لا تحظى بالقبول المطلوب، لأن الشرط الأساسي لنجاح الوساطة - وهو الحياد - غائب. وقال: "لا الدعم السريع لديه رغبة حقيقية في السلام، ولا الطرف الآخر، حتى وإن ادعى غير ذلك. المطلوب الآن هو إطلاق عملية سياسية تعالج جذور الأزمة وتكون شاملة. نحن بحاجة إلى لقاء سوداني–سوداني جامع يُمهّد للسلام، ومن ثم يبدأ مسار إعادة الإعمار".
هكذا تنتهي الحرب في السودان
وقد تنتهي الحرب في السودان إذا توفقت الأطراف الدولية والإقليمية، كما أشار الدكتور عبدالرحمن الغالي في حديثه لـ فكّر تاني. وهو يوضح أن توقف الدعم المالي والعسكري والسياسي المباشر لقوات الدعم السريع سيكون عاملاً حاسماً في إنهاء الصراع. وأضاف أن هناك تحوّلًا ملحوظًا في مواقف بعض الأطراف الإقليمية باتجاه دعم الجيش السوداني، مع احتمال فرض الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب رؤاها بوقف الحرب، لا سيما مع الضغوط المتزايدة من الكونغرس الأمريكي وتفاقم الأزمة الإنسانية.
ويشير الغالي إلى التقدم الواضح للجيش السوداني في استعادة زمام المبادرة، مع تعويض نقص المشاة بانضمام أعداد كبيرة من الشعب إلى المقاومة الشعبية.
وفي المقابل، يصف حالة قوات الدعم السريع بانهيار الروح المعنوية وفقدانها لأعداد كبيرة من الجنود، مع صعوبة تعويضهم داخليًا أو عبر المرتزقة، خصوصًا بعد تسليط الضوء على الدور الإماراتي في النزاع.
شهدت الندوة حضور أعضاء من حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، والكاتب الصحفي علي سعيد، نائب رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون، إلى جانب عدد كبير من السودانيين. واختتم الكاتب الصحفي خالد محمود الندوة بتأكيد موقف المصريين الداعم لوطن عادل وديمقراطي في السودان، مؤيدًا ثورة ديسمبر.
وقد أكد وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي، خلال احتفالية بمناسبة يوم إفريقيا في 25 مايو، دعم مصر للسودان، مع التأكيد على احترام وحدة أراضيه وسلامتها، وضرورة تمكينه من استعادة الأمن والاستقرار.