المؤمم لا يُباع.. مسلسل ضياع “طنطا للكتان”بين الخاص والعام (الجزء الثاني)

“المؤمم لا يباع”.. مبدأ دستوريٌ صدحت به المحاكم، وانتزع بموجبه عمال شركة طنطا للكتان والزيوت حكمًا تاريخيًا من أعلى محكمتين في البلاد (الدستورية العليا والإدارية العليا) ببطلان بيع شركتهم. لكن، هل كان استرداد الدولة للأصول نهاية لمعاناة سنوات من الصراع على الحقوق؟

الواقع داخل أسوار الشركة العريقة يروي فصلًا جديدًا مثقلًا بالمرارة؛ فمن أروقة القضاء إلى دهاليز الفساد الإداري والمالي، تتكشف خيوط قصة تبدأ بانتصار للحق وتنتهي بتساؤلات مقلقة حول مصير شركة عادت لتغرق في وحل المخالفات الجسيمة وإهدار المال العام، وسط صرخات عمالٍ وجدوا أنفسهم يكابدون من جديد من أجل حقوقٍ تبدو بعيدة المنال. وهو ملف شائك يكشف كيف تحولت الآمال إلى خيبة أمل، وكيف أصبحت شركة بحجم طنطا للكتان، رغم عودتها للدولة، نموذجًا صارخًا للتحديات التي تواجه إدارة أصول القطاع العام وحمايتها.

“الأموال المنزوعة ملكيتها تتحول إلى أموال عامة، وهذه الأموال طبقا لنص المادة (87) من القانون المدني لا يجوز التصرف فيها، أو الحجز عليها، أو تملكها بالتقادم. 

عادت للدولة لتغرق في الفساد المالي

قبل عدة أشهر، كشف تقرير مالي صادر عن الجهاز المركزي للمحاسبات بتاريخ 30 يونيو 2024، حصلت فكر تاني على نسخة منه، عن تسجيل 15 مخالفة مالية بالشركة. هذه المخالفات، الممتدة من عام 2013 وحتى 2024، ظهرت منذ أن عادت الشركة إلى القطاع العام وأصبحت تدار بواسطة الشركة القابضة للصناعات الهندسية.

في مواجهة هذه المخالفات، التي تُقدر قيمتها بملايين الجنيهات، اقتصر رد الشركة – الذي اطلعت عليه فكر تاني – على تعهد بمراجعتها والرد على الجهاز لاحقًا. وهو نمط من الردود الموجزة، تكتفي بالإشارة إلى فحص المخالفات دون تقديم تفاصيل وافية، ليس الأول من نوعه من جانب الشركة تجاه تقارير الجهاز الرقابي.

تضمنت قائمة المخالفات التي وثّقها الجهاز المركزي للمحاسبات بنودًا عدة، منها وجود معدات غير مستخدمة لفترات طويلة دون أن تسجل الشركة نسب الإهلاك والاضمحلال اللازمة لها. كما انتقد التقرير طريقة تسعير الشركة لمنتجاتها، مشيرًا إلى غياب ضوابط واضحة لتحديد التكاليف والسعر النهائي للمنتج بعد عملية الإنتاج.

إضافة إلى ذلك، أشار الجهاز إلى وجود قصور إداري يتجلى في عدم وجود تقدير دقيق لمخزون الشركة من الإنتاج، وكذلك في الوضع العام للجهاز الإداري.

ويُضاف إلى هذه الملاحظات قرار رفع سعر طن الكتان من 9500 جنيه إلى 14 ألف جنيه، وهو ما انعكس سلبًا على الشركة بسبب غياب دراسة سوقية مسبقة، الأمر الذي أدى لاحقًا إلى تراجع السعر مرة أخرى ليبلغ 9500 جنيه للطن.

من بين المخالفات الأخرى التي رصدها الجهاز أيضًا، جمع رئيس مجلس إدارة الشركة غير التنفيذي بين منصبه ومنصب العضو المنتدب. كما تمت الموافقة على استقالة العضو المتفرغ للشؤون المالية في الأول من يوليو 2024، وهو ما أدى إلى انخفاض عدد أعضاء مجلس الإدارة عن النصاب القانوني، بما يخالف المادة رقم “21” من القانون 185 لسنة 2020 والنظام الأساسي للشركة.

وكشف التقرير كذلك عن وجود اختلاف في مساحة الأراضي المملوكة للشركة بين ما ورد في محضر اللجان المُشكلة من قِبل الشركة القابضة للصناعات الكيماوية بموجب القرار رقم 73 لسنة 2013، وبين آخر رفع مساحي أُجري للشركة في عام 1998.

وأوضح الجهاز، في تقريره، أن الشركة أسندت مبيعات منتجاتها بشكل حصري لعميل واحد، هو شركة نجع حمادي، الأمر الذي اعتبره الجهاز إجراءً يضر بمصالح شركة طنطا للكتان.

وقد حاولت فكر تاني التواصل مع إبراهيم الزيات، رئيس مجلس إدارة الشركة، نفى في البداية علمه بوجود التقرير، وبدا عليه الانفعال وهو يستفسر عن طبيعة المخالفات المذكورة. ولاحقًا، أفاد بأن مسؤولية الرد على التقرير تقع على عاتق الشركة القابضة للصناعات الكيماوية والجمعية العمومية، مؤكدًا أن إدارة الشركة ليس لديها رد حالي لتقديمه.

حيثيات حكم بطلان البيع

جمال عثمان، أحد عمال الشركة ومن الذين تضرروا من عملية الخصخصة، يقول لـ فكر تاني، إن حيثيات الحكم الصدر بعودة شركتهم إلى الدولة تضمنت عودة العمال الذين فُصلوا إلى عملهم وصرف كل مستحقاتهم المالية. ويشير إلى أنه من بين 900 عامل بالشركة، كان 600 منهم قد خرجوا على المعاش المبكر. وبعد مماطلة من جانب يحيى مشالي، رئيس الشركة القابضة في ذلك الوقت، ورفع دعوى قضائية ضده، نشرت الشركة القابضة إعلان في صحيفتي الأهرام والأخبار، تدعو فيه عمال الشركة المفصولين للعودة إلى وظائفهم.

ويضيف عثمان، في حديثه لـ فكر تاني، أن الشركة طلبت منهم تقديم أوراق تعيين جديدة، كما لو كانوا سيبدأون العمل بعقود جديدة. ولكن بعد أن قدموا مستنداتهم، رفضت الشركة إعادتهم، متذرعةً بأن الشركة متوقفة عن العمل. وتقرر حينها صرف تعويضات للعمال بقيمة 65 ألف جنيه لكل منهم.

اقرأ أيضًا: “طنطا للكتان”.. لما كان إضرابنا حي (الجزء الأول)

ويؤكد عثمان أنه حتى اللحظة، لم يتسلم جميع العمال هذه التعويضات، ولا يزال هناك 12 عاملاً قضاياهم منظورة أمام المحاكم منذ سبع سنوات دون أن يصدر فيها حكم نهائي.

صورة خاصة بشركة طنطا للكتان

في عام 2013، صدر حكم عن المحكمة الإدارية العليا يقضي بفساد صفقة بيع الشركة. وقد قام المستشار حمدي ياسين عكاشة، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس مجلس الدولة في تلك الفترة وتولى نظر القضية، بصياغة حيثيات الحكم بأسلوب يرسي مبدأً أساسيًا لا ينبغي لأي مسؤول أن يحيد عنه.

وقد نص منطوق الحكم على ما يلي: “قبول الدعوى شكلًا، وفي الموضوع، إلغاء القرار المطعون فيه الصادر عن اللجنة الوزارية للخصخصة والمعتمد من مجلس الوزراء، والمتضمن الموافقة على بيع نسبة 100% من أسهم شركة طنطا للكتان والزيوت، مع كل ما يترتب على ذلك من آثار.

ومن أبرز هذه الآثار، بطلان عقد بيع 100% من أسهم شركة طنطا للكتان والزيوت، الذي أُبرم بين الشركة القابضة للصناعات الكيماوية (بصفتها نائبة عن الدولة بتفويض من وزارة الاستثمار وبنك الاستثمار القومي ممثلًا بوزير المالية) من جهة، وتحالف شركات يضم شركة الوادي لتصدير الحاصلات الزراعية (بنسبة 30%)، وشركة النوبارية لإنتاج البذور (بنسبة 35%)، وشركة النيل للاستثمار والتنمية السياحية والعقارية (بنسبة 25%)، وشركة ناصر للاستثمارات الدولية (بنسبة 10%)، ويمثلهم السيدان عبد الإله محمد صالح كعكي وناصر فهمي المغازي، من جهة أخرى.

كما قضى الحكم ببطلان جميع القرارات والإجراءات التي اتُخذت أو ترتبت خلال مراحل إعداد العقد وتنفيذه، وبطلان أية قيود أو تسجيلات أُجريت في الشهر العقاري على أية أراضٍ تخص هذا العقد. وشمل البطلان أيضًا شرط التحكيم الوارد في المادة الرابعة عشرة من العقد المذكور.

وأمر الحكم بإعادة الطرفين المتعاقدين إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرام العقد، واسترداد الدولة لجميع أصول الشركة وكافة ممتلكاتها التي سُلمت للمشتري، على أن تكون هذه الأصول والممتلكات مُطهرة من أية حقوق عينية تبعية قد يكون المشتري قد رتبها عليها. كذلك، نص الحكم على إعادة العاملين إلى أوضاعهم الوظيفية السابقة مع منحهم كامل مستحقاتهم وحوافزهم وحقوقهم. ويتحمل المشتري وحده كامل الديون والالتزامات التي ترتبت خلال فترة سريان العقد، مع كل ما يتبع ذلك من آثار، وذلك على النحو الموضح تفصيلاً في أسباب الحكم. وألزمت المحكمة الجهة الإدارية والمدعى عليهم بالمصروفات”.

تفريغ الشركة من العمال

أحد العاملين بالشركة، والذي طلب عدم الكشف عن هويته خشيةً ردة فعل الإدارة، يصف الوضع الراهن بأنه “ينحدر من سيء إلى أسوأ”. بينما يضيف في حديثه لـ فكر تاني، أن الشركة لم تعد تعمل إلا بثلث طاقتها الإنتاجية، حيث انخفضت مدخلاتها السنوية من 40 ألف طن إلى ما لا يزيد عن 15 ألف طن. ويشير إلى أن الوحدات التي لا تزال تعمل بكامل طاقتها تقتصر على مصنعي الكتان والخشب الرفيع، واليوريا المستخدمة في لصق الأخشاب.

اعتصام عمال كتان طنطا في 2010 (وكالات)
اعتصام عمال كتان طنطا في 2010 (وكالات)

كان هذا العامل من بين العمالة المؤقتة وقت استرداد الدولة للشركة. وبعد سلسلة من الاحتجاجات، تمكن هو وزملاؤه من التوصل إلى اتفاقية عمل جماعية في وزارة القوى العاملة، قضت هذه الاتفاقية بتثبيت حوالي 240 عاملًا مؤقتًا، مع تحويل عقودهم من محددة المدة (سنوية) إلى عقود عمل غير محددة المدة.

يتطرق إلى وضع العمالة الحالي داخل الشركة، مشيرًا إلى أنه قبل عملية البيع، كان يعمل بالشركة ما يزيد على 3000 عامل. أما الآن، فإن العدد الإجمالي لا يتجاوز 40 عاملًا معينًا و250 عاملًا مؤقتًا. ويوضح أن جميع هؤلاء العمال المؤقتين هم “عمالة مقاول”، يعملون بنظام الورديات، مما يعني غياب نظام عمل مستقر.

ويضيف أن غالبية هؤلاء العمال يعملون أيضًا في شركات خاصة تنشط في نفس المجال.
وبالرغم من المطالبات العديدة التي تقدم بها العمال لتثبيتهم، إلا أن هذه المحاولات قد توقفت منذ عام 2020، وهو العام الذي تولى فيه إبراهيم الزيات منصب المفوض العام، قبل أن يصبح رئيسًا لمجلس الإدارة وعضوًا منتدبًا منذ ست سنوات.

“بعد عودة 7 شركات للقطاع العام من بينها المراجل البخارية، وعمر أفندي، وطنطا للكتان، وغزل شبين، وحليج الأقطان، وجدت الدولة أن هناك بابًا في القضاء يجب أن يغلق حتى يتثنى لها خصخصة ما تشاء من شركات ومصانع دون طعن على القرارات، مما دفعها لإصدار القانون 32 لسنة 2014، والذي من شأنه أن يمنع الطعن على عقود الدولة من قبل الأطراف غير المشاركة في العقود، كما رفضت المحكمة الدستورية العليا دعوى بعدم دستورية هذا القانون في عام 2023”.

ويفيد أحد العمال بأنهم قدموا التماسًا إلى عضو مجلس النواب، أحمد البرلسي، يحثونه فيه على تسليط الضوء على أزمة شركة طنطا للكتان وما تتعرض له من إهدار للمال العام، وما وصفوه بمحاولات متعمدة لإفشالها تمهيدًا لتصفيتها، وهو الأمر الذي كافح العمال ضده لسنوات طويلة.

وقد حاولت فكر تاني للتواصل مع النائب البرلسي للاستيضاح عن المستجدات المتعلقة بوضع الشركة، غير أنها لم تتلقَ ردًا منه.

وفي سياق متصل، يشكو عامل آخر ورفاقه من تداعيات اللائحة الداخلية للشركة، التي لم تشهد أي تغييرات لعقود طويلة، واصفًا الأوضاع السائدة داخل الشركة بأنها تعكس “عدم كفاءة إدارية”.

ويذكر العامل، الذي أشار إلى نفسه باسم مستعار هو “عطية محمد”، أنهم مستمرون في المطالبة بالحصول على درجاتهم الوظيفية منذ سبع سنوات، أي منذ تحويل عقودهم من سنوية إلى عقود مفتوحة. وعلى الرغم من الوعود المتكررة التي تلقوها من الإدارة، إلا أنهم لم يحصلوا على هذه الدرجات حتى الآن، الأمر الذي يؤثر على استقرار أوضاعهم المالية.

وتشمل مطالب “محمد” وزملائه زيادة قيمة بدل العمل الإضافي، والاعتراف بحقهم في الحصول على إجازات غير مدفوعة الأجر، وزيادة الراتب الأساسي. كما يطالبون بضمان أهليتهم للاقتراض من البنوك بضمان رواتبهم، وتوفير تأمين صحي لهم على غرار زملائهم المثبتين، بالإضافة إلى زيادة بدل الوجبة وصرف الحوافز المستحقة.

إهدار المال العام “عيني عينك”

يواصل عثمان حديثه كاشفًا عن جذور الفساد التي، بحسب قوله، بدأت مع طرح فكرة بيع الشركة. ويوضح أن المستثمر استحوذ عليها مقابل 83 مليون جنيه، بينما أثبتت تحقيقات القضاء الإداري أن القيمة الحقيقية للأرض المقام عليها مباني الشركة والأراضي المحيطة بها، والتي تبلغ مساحتها 73 فدانًا، تُقدر بنحو 95 مليون جنيه، لكنها قُيِّمَت في الصفقة بمبلغ 39 مليون جنيه فقط.

ويضيف أن هذا التقييم المتدني شمل أيضًا أسطول مركبات الشركة، المكون من 116 آلية متنوعة تشمل سيارات وأوتوبيسات وجرارات وسياراتين خاصتين، والذي بيع بمبلغ زهيد لا يتجاوز 170 ألف جنيه.

ويستطرد عثمان قائلًا إن ممارسات الفساد طالت كذلك تقييم المباني التي كانت قد أُنشئت حديثًا والمصانع التي تم تطويرها قبيل إتمام عملية البيع، حيث قُدرت بأقل من قيمتها الفعلية. وتشير أوراق دعوى إعادة الشركة إلى القطاع العام إلى أن الفروقات في تقييم هذه الأصول وحدها تجاوزت 119 مليون جنيه.

ويعرب عثمان عن خيبة أمله هو وزملاؤه الذين كرسوا جهودهم لنضال يهدف إلى عودة الشركة لملكية الدولة، مؤكدًا أن الواقع الحالي لم يكن ما يتطلعون إليه. ويلمح إلى وجود توجه يهدف إلى التخلص من الشركة بالكامل، مستشهدًا بما ذكره أحد قضاة التحقيق في القضية: “لقد تم التعامل مع شركة طنطا للكتان وكأنها شيطان رجيم يجب التخلص منه”.

ويؤكد عثمان أن الأوضاع لم تتغير جذريًا؛ فعلى الرغم من استرداد الدولة للشركة، تحملت وزارة المالية عبء دفع تعويض يقارب 400 مليون جنيه للمستثمر نتيجة لفسخ العقد. وبالإضافة إلى ذلك، تم إسقاط ضرائب تُقدر بنحو 150 مليون جنيه عن شركة عبد الإله الكحكي، مالك مجموعة الخرافي، الذي كان قد اشترى شركة طنطا للكتان بسعر بخس.

من جهته، يطرح أشرف الحارتي، وهو أحد العاملين الذين أُجبروا على التقاعد المبكر كإجراء عقابي لموقفه المناهض للفساد، تساؤلات حول مصير المصيف الخاص بالعاملين بشركة طنطا للكتان، والذي لا يُعرف عنه شيء حاليًا، رغم أنه يُعتبر ملكًا لعمال الشركة.

ويسترجع الحارتي أن المصيف كان يتألف من بنايتين في موقع متميز بمدينة جمصة، وأن أرضه شُريت بنظام حق الانتفاع لمدة 75 عامًا، وأُقيمت عليها هاتان البنايتان. ويشدد على أن كل ذلك تم تمويله من أموال العمال التي كانت تُقتطع من حوافزهم وبدلاتهم ومن الفروقات الطفيفة في أسعار البيع. وحتى الآن، ترفض إدارة الشركة، بحسب الحارثي، الكشف عن مستندات ملكية المصيف أو السماح للعمال باستخدامه، رغم أنه أُنشئ من مدخراتهم.

ويتساءل الحارتي: “إلى متى ستظل شركات القطاع العام تُعامل كأنها مال سائب لا صاحب له؟ وهل هناك تعمد من الدولة في أن تتكبد شركات القطاع العام الخسائر تمهيدًا للتخلص منها لصالح القطاع الخاص؟”

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة