تنظر إلى وجه ابنتها كل يوم وهي ترافقها إلى المدرسة، فينتابها الأسى. لم تعد "هند" تتساءل عن سبب معاناة "مريم" في الدراسة، وعدم تركيزها المستمر، وشعورها بالدوار؛ فقد أخبرها الطبيب مؤخرًا أن الصغيرة تعاني من سوء تغذية وأنيميا شديدة، وبحاجة إلى عناية خاصة، ووجبات متكاملة العناصر الغذائية.
"هند" 30 عامًا، تعمل بائعة في أحد المحال التجارية بمحافظة الجيزة. تقول عن ابنتها ذات الأعوام العشرة: "عارفة إنها محتاجة تغذية كويسة، بس هعمل ايه.. ما باليد حيلة. عندي 3 غيرها، وحالهم مش أفضل حاجة، ومرتبي مش مكفي.. هجيب منين وبكام بيض ولبن. القرص والبسكويت هما اللي في استطاعتي".
تتقاضى هند راتب شهري قدره 1500 جنيه مصري، مقابل ساعات عمل تبدأ في العاشرة صباحًا وتنتهي في الثامنة مساءً. بينما لا زيادات اعتيادية ومنطقية في راتبها، ولا حد أدنى اعترفت الحكومة أنه حد الكفاف.
"مريم تعاني من نحافة شديدة.. طولها ووزنها مش متناسبين مع عمرها. الدكتور نصحني بإني أركز على الخضار والبروتين في تغذيتها وبانتظام، بس هو فيه حد يقدر على الكلام ده دلوقتي.. مين يقدر يشتري أي شكل من أشكال البروتين من غير تكاليف تقسم الضهر.. احنا بقى اعتمادنا الأساسي على النشويات زي البطاطس أو الإندومي والعدس".
هل التضخم بعيد عن صحة المواطن؟
رغم كل تدابير وزارة التموين والتجارة الداخلية، وتأكيدات الوزير على مراقبة السوق حتى يحصل المواطن المصري على الدواجن واللحوم بأسعار مناسبة، لا يعكس الواقع إلا سوءًا على المستوى الشعبي. يقول سيد محمود، الذي يملك محل دواجن بشارع فيصل: "سعر كيلو الفراخ البيضاء بيوصل لـ 115 جنيه ويزيد أو يقل جنيهات قليلة، بينما يصل سعر كيلو البانيه لـ 240 جنيهًا".
لا تعاني مريم الطفلة وحدها من سوء التغذية، إذ تعيش شقيقتها الصغرى ذات العامين حالة شديدة من الهزال، بعدما توقفت والدتها عن إرضاعها بصورة طبيعية بفعل ظروف العمل، ولأن صحتها أيضًا لم تعد تحتمل.
"كان لازم أرجع للشغل بعد ولادة نور على طول.. أنا من وقت حملي فيها عندي مشاكل صحية كثيرة. وزنها ما كنش طبيعي، والدكتور حذرني من إني ممكن أفقدها في أي وقت بسبب سوء التغذية"؛ تقول هند.
وصل حسن إلى سن 15 دون أن يتلقى العلاج المناسب لحالته، فأصبح يعاني من التقزم (طوله لا يصل للمتر)، بينما يشعر والديه بتأنيب الضمير بعدما أخبرهما الطبيب أن علاجه أصبح صعبًا، وأنه كان يجب متابعة حالته في وقت مبكر.
تقول أم حسن إن ابنها كان قصير القامة في المرحلة الابتدائية، ولكن أخبرها البعض أن وضعه طبيعي، وسيتجاوزه مع البلوغ، وهو ما لم يحدث وفاقمه تعرضه لنقص الحديد والأنيميا.
ما تترجمه الأرقام
في احتفالية إطلاق البرنامج القومي لتعزيز الخبز البلدي للوقاية من أنيميا نقص الحديد، ذكر نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الصحة والسكان الدكتور خالد عبد الغفار أن أكثر من 40% من المصريين يعانون من فقر الدم، وفقًا لبيانات المسح السكاني، مؤكدًا أن تداعيات سوء التغذية تؤثر على الاقتصاد ككل.
وتُعرّف منظمة الصحة العالمية سوء التغذية بأنه أي خلل قد يصيب صحة الطفل نتيجة عدم التوازن في غذائه، ومن أهم أعراضه: الهزال، والتقزم، ونقص الوزن، إضافة إلى السمنة. ويتسبب سوء التغذية في ثلثي وفيات الأطفال، وتعتبر مصر ضمن 36 بلدًا يتركز فيها 90% من عبء سوء التغذية العالمي، وحسب المنظمة الأممية، فإنه لا تزال معدلات سوء التغذية مرتفعة، رغم أن نسبة وفيات الأطفال في مصر نتيجة سوء التغذية منخفضة بالمقارنة بدول أخرى.
وذكر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن الأطفال في عمر 6 أشهر و 5 أعوام في مصر يعانون من سوء تغذية مزمن.
وفي دراسة لبحوث سياسيات الغذاء أن 31% من الأطفال في مصر يعانون من التقزم من عمر 6 أشهر لـ 59 شهرًا وأن 29% يعانون من زيادة الوزن والسمنةـ كما أوضحت اليونيسيف أن 27% من الأطفال في مصر يعانون من فقر الدم والأنيميا.
وركزت الصحة العالمية في تقاريرها على أن الأنيميا (فقر الدم أو نقص في الخلايا الحمراء الهيموجلوبين في الدم الذي يؤدي إلى شحوب وإرهاق) تمثل تحديًا كبيرًا في مصر؛ حيث تؤثر على 27.2% من الأطفال دون سن الخامسة، و25% من النساء في سن الإنجاب (15-49 سنة). كما يُعد فقر الدم أثناء الحمل أحد الأسباب الرئيسية لفقر الدم عند الرضع والأطفال.
بين نقص وسوء التغذية
همسة الخالدي، وهي إخصائية تغذية علاجية، تفرق بين نقص وسوء التغذية؛ فتقول: "سوء التغذية معناه أن يأكل الطفل أو الشخص البالغ كميات كبيرة من نوع معين، مثل أن يركز على النشويات فقط. هذا يؤدي للسمنة أو النحافة. أما نقص التغذية، فمعناه أن الأكل غير متوفر، ومن ثم يعتمد الطفل على وجبات خفيفة ويتسبب هذا في مشكلات صحية عديدة، مثل الهزال، والأنيميا، والنحافة، ومشكلات في الجلد، ومشكلات في النظر، والكساح، ولين عظام".
وتضيف همسة، في حديثها لـ فكر تاني، أن "البروتين مهم جدًا للطفل، ويجب أن يتوفر له بشكل مستمر، إلى جانب العناصر الغذائية الكاملة الأخرى من منتجات ألبان وفاكهة وخضروات تحتوي على المعادن وبيض يجب أن يحصل الطفل على واحدة منه يوميًا، ثم تأتي النشويات وحبوب القمح. ولكن للأسف، مع ارتفاع أسعار الفاكهة والخضروات انخفض اعتماد الناس على الحبوب مثل اللوبيا والفاصوليا، واكتفوا بالبطاطس والباذنجان المقلي وهذا سيء جدًا على المستوى الصحي.
السمنة.. ثقافة شعبية فاسدة
زيادة الوزن كعلامة على الشبع والصحة لدى الطفل من الموروثات الشعبية الفاسدة عند بعض الأسر، كما كانت تعتقد عواطف (38 سنة) والتي تعمل مربية بإحدى الحضانات الخاصة، أن ابنها علي ذي السنوات الثماني، الذي يعاني من زيادة الوزن، لديه شهية زائدة، ثم انصدمت عندما أصيب بمرض السكري.
السمنة وزيادة الوزن بشكل كبير من بين أهم أعراض سوء التغذية.
تقول عواطف إن ابنها يداوم وبشكل مستمر على تناول السكريات، كما أنه يحب تناول البطاطس المقلية والمكرونة، وتقريبًا تخلو وجباته من اللحوم والخضار.
اللي بقدر أجيبه بشتريهوله، ومع الوقت بدأ يحب الأكل ده ومابقاش بيحب يغيّره. ماكنتش أعرف إنه ممكن يضرّه. كنت رحت لدكتور قبل كده، وقال لي أبعده عن السكريات، ونصحني إن فطارُه يكون تفاحة وموزة وبيضتين وكوباية لبن.
بس اللي طلبه كان غالي عليا أوي.. أنا وجوزي عايشين بمرتب ما بيوصلش لـ5 آلاف جنيه في الشهر، مش قادرين نوفر له الأكل ده بشكل دايم".
السكري والسمنة من أكثر الأمراض شيوعًا بين الأطفال. الأرقام تُسجل من ثمانية إلى عشرة مصابين بمرض السكري بين كل 100 طفل. وقد جاءت مصر في المركز الثامن بين دول العالم إصابة بمرض السكري، بنسبة إصابة تعادل. 20.9%
وتشدد خبيرة التغذية همسة الخالدي على ضرورة أن يحلص الطفل حتى سن الخامسة على وجبات متكاملة وذلك للحفاظ على صحته والبناء النفسي والجسماني، وحتى لا يصاب بأمراض سوء التغذية. وتضيف أن الاستسهال بمناولة الطفل الكثير من المعجنات والوجبات السريعة كارثة تهدد حياة الأطفال في مصر.
الفقر والمرض.. وجها عملة عالية التكلفة
يحذر الخبير الاقتصادي دكتور سيد خضر مما يسميه "دائرة الفقر الجهنمية" وارتفاع نسبة محدودي الدخل في مصر بصورة كارثية. يقول في تصريحه لـ فكر تاني: "شهدت الفترة الأخيرة ارتفاعًا مبالغ فيه بأسعار السلع الاستراتيجية بسبب عملية التسعير العشوائي للعديد من المنتجات وفقدان الرقابة الحقيقية على أداء الأسواق، وقد أثر هذا على زيادة نسبة محدودي الدخل، ومن ثم ارتد هذا إلى عملية التغذية وفاقم هذا التضخم أزمات القدرة الشرائية لدى الأفراد، الذين باتوا يجدون صعوبة في توفير الاحتياجات الأساسية من المواد الغذائية الضرورية، ثم انخفضت مستويات إنفاقهم على قطاعات أخرى، مثل التعليم والرعاية الصحية.
كان الجميع يلاحظ اصفرار وجهه وضعف جسمه بشكل عام، بينما كان محمود يحاول أن يغالب ضربات قلبه السريعة وغير المنتظمة؛ فلا يقبل عمله مندوب مبيعات أن يحمل مريض حقيبته المليئة بالبضاعة على كتفه ويستكمل سعيًا وراء الزبائن المحتملين.
محمود (28 سنة) وهو من محافظة الجيزة. يقول في حديثه لـ فكر تاني: "أنا عندي أنيميا حادة، وباخد الفيتامينات والمكملات الغذائية في مواعيدها، بس ساعات بيغمى عليّا ومابقدرش أعمل أي مجهود. أوقات حتى ما بقدرش أقوم من على السرير. الدكتور بيقول إن نقص الحديد عندي مؤقت، وإن كل اللي محتاجاه هو تغذية كويسة، بس أنا بقالى سنتين بعاني من نفس الأعراض".
لدى محمود شقيقة وأم، تعيشان على معاش الوالد الراحل، بينما يحاول هو من وقت لآخر كسب رزقه بالانتقال من عمل لآخر.
آية (23 سنة) من محافظة البحيرة، احتاجت إلى نقل الدم بعد أن تعرضت لآلام شديدة بسبب تأخر دورتها الشهرية لأربعة أشهر متواصلة، وتعرضها لإغماءات عدة نتيجة إصابتها بأنيميا حادة. تقول "من وأنا صغيرة عندي أنيميا وضعيفة ولكن ازداد الأمر حدة لما كبرت، والمضحك إن خطيبي سابني لما عرف إني باعيا كتير وساعات باحتاج لنقل دم".
نقص تغذية الأم الحامل
في ظل الغلاء وارتفاع أسعار اللحوم والدواجن لم تعد النساء الحوامل تكترث كثيرًا لطعامها. تقول دينا (26 عامًا) إن الراتب الذي يحصل عليه زوجها وقيمته 5 آلاف جنيه ونصف بالكاد، يكفي إيجار البيت وفواتير الكهرباء والمياه. ولا يساعد في أن تهتم بتغذيتها وتغذية جنينها بالشكل المطلوب.
"أنا دلوقتي في الشهر السادس، والمرتب ما بيكفّيش نشتري لحمة ولا فراخ. حتى أجنحة الفراخ بقينا مش قادرين على تمنها. معظم أكلي بقى مكرونة وبطاطس، وده بيخليني أزيد في الوزن بشكل كبير، وكل مرة الدكتور اللي متابع حملي بيزعقلي بسبب الموضوع ده".
في منشوراتها التوعوية، تنصح وزارة الصحة الأم الحامل بتناول البقوليات واللحوم والخضروات والفاكهة واللحوم الكاملة. لكن هذه الوجبات تحتاج شهريًا لمبالغ كبيرة لا تقدر عليها "دينا"، وغيرها من النساء اللاتي يجدن أن هذه رفاهية غير متاحة؛ فتناول اللحم أو الدواجن ثلاث مرات أسبوعيًا كما ينصح الطبيب، يتطلب ما يقرب من 2000 إلى 3000 جنيه كل شهر وهذا مستحيل - كما توضح دينا -، في الوقت الذي تنفق فيه على الفيتامينات التي تشتريها بصورة شهرية ما يزيد عن الـ 400 جنيه، إلى جانب التحاليل الدورية مرتين في الشهر.
وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، فإن سوء تغذية الأم الحامل يؤثر بشكل مباشر على صحتها وصحة الطفل فذكرت منظمة الصحة العالمية أن الإهمال قد يسبب إصابة الجنين بالهزال أو يتسبب في نقص وزنه عند الولادة أو حتى وفاته هذا إلى جانب تعرض الأم الحامل للكثير من المشكلات ومنها فقر الدم والانيميا والموت أيضًا.
دكتور شادي محمد استشاري أمراض النساء والتوليد، يقول: "سوء التغذية يؤثر بشكل كبير على الجنين، ويؤثر بشكل أكبر على الأم الحامل التي قد تتعرض للكثير من الأمراض والخطر نتيجة لذلك. فعندما لا يحصل الطفل على ما يلزمه من فيتامينات وتغذية فإنه يأخذ ما يريد من مخزون الأم، ومن ثم تكون أكثر عرضة للإصابة بالأنيميا وأمراض العظام وضعف الجسم والإغماء وغير ذلك. وفي حالة استمرار نقص التغذية يتأثر الطفل وقد يحدث إجهاض".
استشاري النساء والتوليد يضيف في حديثه لـ فكر تاني: "الحامل في حاجة مؤكدة لثلاث وجبات وسناك إن لزم الأمر ويجب أن تكون وجباتها تشمل البروتين والخضروات والفاكهة إلى جانب المعادن والألبان والكثير من الفيتامينات".