تتراكم على رفوف المكتبات ترجمات تتفاوت في جودتها، بعضها يمنح النص حياة ثانية، وبعضها الآخر يبدو شبحًا باهتًا لعمل فقد روحه في رحلة عبوره بين اللغات.
وفي هذا العالم الذي يعيد تشكيل ملامحه باستمرار، ظلت الترجمة الأدبية مغامرة حساسة ودقيقة، لا تقتصر على نقل الكلمات بل تعيد بناء العالم الداخلي للنص بلغة جديدة دون أن يفقد ظلاله الأولى. لكن المترجم العربي لم يواجه النص وحده، بل يصطدم بغياب الدعم المؤسسي، وضعف السياسات الثقافية، وهشاشة السوق القارئ.
ومن أمجاد "بيت الحكمة" في العصر العباسي، إلى مشروع رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى واقع اليوم، تتسع الفجوة وتشتّتت الجهود. فهل تنجح المبادرات الفردية في سد هذا الفراغ؟ وهل تكفي وحدها لبناء جسور ثقافية حقيقية في ظل غياب مشروع عربي متكامل للترجمة؟
وهل ما تزال الترجمة مشروع خلاص ثقافي، أم تحولت إلى فعل بطولي فردي في زمن يخذل أبطاله؟
اقرأ أيضًا:“الخواجاية”.. سيرة مصرية أوروبية
عبور إلى الذات قبل الآخر
لا تقتصر الترجمة الأدبية على نقل نص من لغة إلى أخرى، بل هي فعل وجودي معقّد، يتجاوز الحدود الظاهرة للكلمات، ليخوض غمار معركة بين ثقافتين، بين وعْيَيْن، بل بين نظرتين إلى الإنسان والعالم.
حين يترجم المترجم الأدبي عملًا ما، فإنه لا ينقل فقط مضمون النص، بل ينقل الإيقاع الداخلي له، ذبذباته النفسية والجمالية، وهواجسه الخاصة. لهذا، ظلت الترجمة الأدبية دائمًا أكثر إشكالية من الترجمة العلمية أو التقنية: فالأولى تستلزم قدرة على فهم الروح قبل فهم النص، بينما الثانية تكتفي غالبًا بفهم المعلومات أو الحقائق.
عبر التاريخ، كانت الترجمة الأدبية مدخلًا رئيسيًا إلى فهم الآخر، لكنها في كثير من الأحيان كانت أيضًا مرآة لفهم الذات، إذ بمجرد محاولة إعادة إنتاج نص أدبي بلغة مغايرة، يبدأ المترجم في مواجهة حدود لغته وثقافته، فيدرك ما يمكن ترجمته وما يتعذر نقله دون خسارة.
ولعل هذا التوتر الخلاق بين لغتين، ووعْيين ثقافيين، هو ما يجعل الترجمة الأدبية أرقى أشكال العبور الثقافي، بل وأخطرها. فليس كل نص يمكنه النجاة من هذه الرحلة، وليس كل مترجم يستطيع الحفاظ على تلك الشعرة الرقيقة التي تفصل بين الوفاء للأصل والوفاء للقارئ الجديد.
في عالمنا العربي، تتضاعف هذه الإشكالية. فعلى الرغم من الجهود الفردية الكثيفة، كثيرًا ما ظلت الترجمة الأدبية العربية رهينة ثلاثة اختلالات كبرى:
- الميل إلى التعامل مع الترجمة بوصفها نقلًا حرفيًا لا إبداعيًا، مما يفقد النص روحه الأصلية.
- غياب الاهتمام النقدي الجاد بالترجمات، بحيث تمر نصوص كثيرة دون مراجعة أو تقييم جمالي أو فني.
- ضعف تمثيل الأدب العالمي المعاصر، مقابل التركيز المفرط على كلاسيكيات مترجمة سابقًا، ما يؤدي إلى قطيعة مع الحداثة الأدبية العالمية.
ولهذا، حين نتحدث عن أزمة الترجمة الأدبية في العالم العربي، فنحن لا نتحدث فقط عن أزمة نصوص، بل عن أزمة ثقافة كاملة في علاقتها بالذات والعالم.

في هذا السياق، يقول المترجم المصري أحمد الزناتي لـ فكّر تاني: "ما يزال المترجم الفردي هو حجر الزاوية اليوم؛ فهو من يبادر، ويختار، ويُترجم، ويجتهد بالرغم من التحديات. وغالبًا ما يُقدِّم أعمالًا ممتازة، حتى بات بعض المترجمين الأفراد بمثابة مؤسسات مصغّرة، يوجّهون الذوق الأدبي ويخلقون جسورًا ثقافية مؤثرة".
بهذا المعنى، تبدو الترجمة الأدبية العربية في زمننا مثل جسور تبنيها أيادٍ فردية، مخلصة وعنيدة، في غياب مشروع ثقافي جمعي يدعم هذا العبور الشاق.
اقرأ أيضًا:“ثلاثة طوابق للمدينة”.. حكايات هشام أصلان عن القاهرة وأرواح العابرين
مشهد متداخل بين الريادة والتراجع
لم تكن الترجمة الأدبية يومًا هامشًا ثقافيًا في التاريخ العربي. منذ عصور مبكرة، كانت الترجمة سلاحًا معرفيًا، وأداة لصياغة الوعي الجمعي وتوسيع أفق اللغة العربية لتستوعب العالم.
في العصر العباسي، ومع تأسيس "بيت الحكمة" في بغداد، بدت الترجمة أقرب إلى مشروع قومي للنهوض؛ فبجهود المترجمين أمثال حنين بن إسحاق، أسس العرب صلة عضوية مع الفكر الإغريقي والفارسي والهندي. وكانت الترجمة آنذاك عملية مفعمة بالحيوية والابتكار؛ إذ لم يقتصر دور المترجمين على النقل الحرفي، بل امتد إلى التعليق، والشرح، والتوسيع، وتقديم معالجات نقدية للنصوص المنقولة.
بعد قرون من الركود، جاء القرن التاسع عشر ليشهد نهضة جديدة مع رفاعة رافع الطهطاوي، الذي مثل بحركته في مصر قفزة استثنائية. حين سافر إلى فرنسا مع أولى البعثات التعليمية لمحمد علي باشا عام 1826، لم يكن الطهطاوي مجرد مبعوث علمي، بل كان عقلًا ثقافيًا ناقدًا أدرك أهمية الترجمة كأداة لصناعة النهضة.
عقب عودته، أسس مدرسة الألسن عام 1835، وهي المؤسسة التي أرست أولى اللبنات لنهضة ثقافية حديثة قائمة على الترجمة المنهجية للعلوم والفكر والآداب الغربية. تحت إشرافه، لم تكن الترجمة فعلًا تقنيًا، بل مشروعًا لتحديث اللغة والوعي معًا.
واصل هذا المسار زخمه لعقود طويلة؛ فشهدت مصر بروز أعلام كبار في الترجمة مثل محمد عناني (1939-2023)، الذي لعب دورًا محوريًا في إثراء المكتبة العربية بنقل أعمدة الأدب الإنجليزي إلى العربية، مع إبداع في إعادة تشكيل النصوص بما يحافظ على روحها الأصلية.
كما ظهرت مبادرات ثقافية مؤسسية مثل لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أسسها طه حسين عام 1914، مستهدفة فتح نوافذ ثقافية جديدة عبر الترجمات الدقيقة والاختيارات النوعية.
رغم أن فترات تاريخية مضيئة شهدت ازدهار الترجمة المؤسسية في العالم العربي، فإن هذا الزخم تراجع في العقود الأخيرة بفعل تغيّر السياقات السياسية والاجتماعية، وضعف التمويل الثقافي، لتتحول الجهود الفردية إلى المحرك الأساسي للمشهد، مع بعض الاستثناءات اللافتة.
في مصر، تأسس المركز القومي للترجمة عام 2006 ليكون مظلة وطنية لدعم الترجمة، إلا أن أداءه ظل محل نقاش حول مدى فعاليته واستمراريته. إلى جانب ذلك، تواصل الهيئة العامة للكتاب إصدار سلسلة "الجوائز" التي تترجم أعمالًا أدبية عالمية مرموقة.
على مستوى العالم العربي، أطلقت دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي عام 2007 مشروع "كلمة"، مستهدفًا ترجمة 100 كتاب سنويًا إلى العربية، وقد حقق إنجازات ملموسة في مجالات الأدب والفلسفة والعلوم. في الكويت، يُصدر المجلس الوطني للثقافة والفنون منذ عام 1998 سلسلة "إبداعات عالمية"، التي ساهمت في تعميق التبادل الثقافي. أما جائزة الشيخ حمد للترجمة في قطر، فتُعد اليوم من أهم الجوائز التي تحتفي بالترجمة وتمنحها مكانتها.
وفي شمال إفريقيا، برزت مبادرات مثل "بيت الرواية" في تونس، الذي يُعنى بالأدب السردي وتنظيم اللقاءات مع المترجمين، فيما تواصل وزارة الثقافة المغربية دعم بعض ترجمات الأفراد، وتمنح جائزة المغرب للكتاب فرعًا خاصًا بالترجمة، تأكيدًا على أهميتها ضمن المشهد الثقافي المحلي.
ومع ذلك، تبدو الصورة العامة لحركة الترجمة الأدبية العربية اليوم متباينة، فبعض المبادرات تسعى لتثبيت حضورها، لكنها تبقى غالبًا محلية وموسمية.
فرغم تعدد المبادرات العربية في مجال الترجمة، إلا أن الأرقام لا تزال تكشف عن فجوة صادمة. فوفقًا لتقارير صادرة عن منظمة اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لا تتجاوز نسبة الكتب المترجمة إلى اللغة العربية 1% من إجمالي الإنتاج العالمي، رغم أن العرب يشكّلون أكثر من 5% من سكان العالم. هذا التفاوت يعكس ضعف البنية المؤسسية للترجمة وغياب السياسات الثقافية الموحدة في الوطن العربي، ويطرح تساؤلات جديّة حول موقع الثقافة العربية في خريطة تداول المعرفة عالميًا "UNDP, 2003 UNESCO, Index Translationum"
هذه الأرقام لا تعكس فقط قصورًا في الكم، بل تكشف أيضًا عن أزمة نوعية: فمعظم الأعمال المترجمة تتركز حول الكتب الرائجة أو العناوين الكلاسيكية المكررة، بينما تغيب كثير من الإبداعات المعاصرة التي تشكل نبض الأدب العالمي اليوم.
اقرأ أيضًا: “الميت الفحل” قوّامًا على النساء.. قراءة في رواية “تاج شمس” لـ هاني القط
عقبات اليوم
رغم الجهود الفردية المضيئة، ما تزال حركة الترجمة الأدبية العربية محاصرة بجملة من العقبات البنيوية العميقة، التي تحدّ من قدرتها على أداء دورها كجسر ثقافي حي بين العوالم.
هذه العقبات تتوزع بين غياب المؤسسات الفاعلة، وفوضى المصطلحات اللغوية، وضعف التنسيق النقدي، وسيطرة السوق التجارية على اختيارات النصوص، مما يجعل المترجم يتحرك غالبًا في فضاء قلق ومربك، بين مطرقة الاجتهاد الفردي وسندان غياب المرجعيات المؤسسية.
غياب الدعم المؤسسي الفاعل، من أبرز التحديات التي تواجه الترجمة الأدبية العربية، غياب دعم ثقافي ممنهج ومستدام لمشروعات الترجمة، مقارنة بما تحظى به الترجمة في الثقافات الأخرى. فيشير المترجم أحمد الزناتي إلى هذه الإشكالية بقوله: "ضعف دعم المؤسسات الثقافية لمشاريع الترجمة الجادة يبقى تحديًا أساسيًا، إذ لا يحظى المترجم العربي بنفس الرعاية التي تتوفر لنظرائه في ثقافات أخرى، حيث يتم تبني مشروعات كبرى للترجمة ضمن سياسات ثقافية قومية."
وفي ظل هذا الغياب، يتحمل المترجم الفردي عبء الاختيار والاجتهاد، معتمدًا على قدراته الذاتية وشغفه الخاص، في محاولة دؤوبة لردم الفجوة بين الثقافات رغم قلة الإمكانيات.
أما فوضى المصطلحات، فمأزق آخر يعيق تطور حركة الترجمة العربية، لا سيما في المجالات الأدبية والعلمية الحديثة. وتصف المترجمة المصرية المخضرمة سحر توفيق هذه الأزمة بدقة:
"فوضى المصطلحات وعدم القدرة على التوافق على مصطلح واحد لنفس المفهوم الأجنبي تمثل تحديًا هائلًا. كل بلد عربي يحاول نحت مصطلحات خاصة به، بينما تتخلف المؤسسات اللغوية عن اللحاق بالتحولات العلمية والمعرفية الحديثة".

وتضيف لـ فكّر تاني: "يجد المترجم نفسه مضطرًا إلى الاجتهاد الفردي في توليد مصطلحات قد تكون ناجحة أحيانًا وقد تخفق أحيانًا أخرى، مما يضاعف الفوضى، خصوصًا مع غياب معايير موحدة تضمن استقرار المصطلحات في الحقل الأدبي والعلمي".
هذه الفوضى لا تؤثر فقط على وضوح النصوص المترجمة، بل تخلق قطيعة إضافية مع القارئ العربي الذي يجد نفسه أمام مصطلحات متباينة لمعنى واحد، مما يضاعف أزمة التلقي والثقة بالترجمة الأدبية.
ومن العقبات الأخرى، الضغوط السوقية وتفضيل الأعمال الرائجة التي تقف أمام الترجمة الأدبية اليوم. هيمنة المنطق التجاري على حركة الترجمة والنشر، حيث تميل دور النشر إلى اختيار الأعمال التي تضمن مبيعات عالية، ولو على حساب القيمة الأدبية والجمالية.
في هذا السياق، يقول أحمد الزناتي: "الضغوط السوقية تدفع كثيرًا من دور النشر إلى تفضيل الأعمال الرائجة، مما يحرم القارئ العربي من الاطلاع على نصوص أدبية عميقة أقل شهرة لكنها أكثر غنى فكريًا وجماليًا."
هذا الانحياز التجاري يحصر الترجمة الأدبية ضمن دائرة ضيقة من النصوص المعروفة عالميًا أو المرتبطة بظواهر وقتية، ويترك كثيرًا من الأعمال الإبداعية الهامة بلا وصول إلى العربية.
اقرأ أيضًا:رحلة إلى “العالم النفسي للنساء”.. في كتاب لـ نبيل القط
نصوص فقدت روحها
من أبرز التحديات التي تواجه الترجمة الأدبية العربية اليوم، اعتماد كثير من الترجمات على لغات وسيطة، كالإنجليزية أو الفرنسية، بدلًا من الترجمة المباشرة عن اللغة الأصلية، ما يُفقد النص جزءًا من دقته الثقافية والأسلوبية.
ورغم وجود محاولات فردية لتجاوز هذه الإشكالية، إلا أن غياب الدعم المؤسسي ومراكز تدريب المترجمين من لغات مثل الألمانية أو الروسية، يُبقي على هذا الخلل قائمًا. ومع ذلك، أثبت بعض المترجمين العرب إمكانية كسر هذا النمط، مثل صالح علماني الذي ترجم الأدب الإسباني مباشرة بلغة حية وحساسة، وأبو بكر يوسف الذي قدّم روائع الأدب الروسي بترجمات دقيقة وأمينة. وهاتان التجربتان تبرهنان أن الالتزام بالترجمة المباشرة ليس مستحيلًا، بل مسار يحتاج إلى تخصص وإخلاص طويل النفس.
وسط هذه التحديات تبرز إشكالية إضافية لا تقل خطورة، مثل تجاهل حقوق المترجم، وهي القصة المسكوت عنها والتي تتعلق بالمكانة الحقوقية والمهنية للمترجم في العالم العربي.
يشير المترجم العراقي جودت هوشيار إلى هذه النقطة بوضوح، قائلًا: "إن أبرز التحديات التي تواجه الترجمة الأدبية العربية اليوم هو استخفاف الناشرين بدور المترجم، حتى أن بعض دور النشر العربية تتجاهل ذكر اسم المترجم على غلاف الكتاب المترجَم، وتدفع له أجرًا زهيدًا لا يتناسب مع الجهد المبذول. كما تتجاهل هذه الدور غالبًا شراء حقوق الطبع والنشر، سواء من المؤلف أو دار النشر صاحبة هذه الحقوق، متورطةً في قرصنة سافرة".

ولا تتوقف الإشكالية عند حدود التعامل مع المترجم، بل تمتد إلى تحدٍّ داخلي آخر، حين يُخفق بعض المترجمين في نقل روح النص الأدبي، نتيجة غياب العمق الثقافي الكافي، رغم امتلاكهم المهارات اللغوية الأساسية.
فكما يقول هوشيار لـ فكّر تاني: "إتقان لغتين لا يكفي، لأن الترجمة المتكافئة تتطلب أيضًا معرفةً عميقة بثقافة الشعب الذي ينتمي إليه مؤلف النص الأصلي."
ولا يقتصر أثر غياب الدعم المؤسسي على إضعاف حركة الترجمة، بل يمتد إلى التأثير المباشر على جودة الأعمال المترجمة، خاصة مع تفاوت إمكانيات دور النشر.
في هذا السياق، تلفت الكاتبة والمترجمة الفلسطينية غلاء سمير أنس إلى أن الوضع الاقتصادي الهش لكثير من دور النشر العربية يدفعها إلى تحميل المترجم وحده عبء الترجمة والتدقيق والمراجعة النهائية، قائلة:
"بينما نجد دور نشر قادرة اقتصاديًا، توظف مترجمًا ومدققًا ومحررًا لضمان إخراج الكتاب بأفضل صورة، نجد دُورًا أخرى تعهد بكل هذه الأدوار إلى مترجم واحد مضطر أن يكون المترجم والمدقق والمراجع معًا".
وتشير المترجمة في حديثها مع فكّر تاني، إلى أن هذا التفاوت الخطير في آليات العمل ينعكس مباشرة على جودة الترجمة الصادرة، مما يستدعي تدخل وزارات الثقافة لدعم حركة الترجمة وتدريب المترجمين، بدل تركهم لمواجهة المهام المتعددة بمعزل عن أي دعم مؤسسي جاد.
تحدٍ مضاعف في زمن الاستهلاك
وإذا كانت الترجمة الأدبية تواجه تحديات كبرى، فإن ترجمة الشعر تواجه تحديات مضاعفة، ترتبط بطبيعة النص نفسه وبسياق الاستقبال المعاصر، وتلفت الشاعرة والمترجمة السورية بشرى إبراهيم لـ فكّر تاني، إلى أن تناقص عدد القراء المهتمين بالأدب عمومًا، وبالشعر خصوصًا، أمام طغيان المحتوى الاستهلاكي على وسائل التواصل الاجتماعي، جعل مهمة ترجمة الشعر أكثر صعوبة وهشاشة.
"هناك تناقص في عدد القراء المهتمين بالمحتوى الأدبي –وأتحدث هنا عن اهتمامي بترجمة الشعر– أمام المحتوى الرائج والمتاح على وسائل التواصل الاجتماعي".

هذا التغير في أفق التلقي الثقافي العربي، كما نرى، يجعل من الضروري تنشيط سوق الكتاب، وتسليط الضوء على أهمية الأعمال المترجمة ودورها الحيوي في بناء الوعي الإنساني.
حقوق الترجمة وتقييد حرية المترجم
جانب آخر من التحديات يتمثل في مسألة حقوق الترجمة، التي تضع قيدًا صامتًا على حرية المترجم العربي في اختيار النصوص التي يود ترجمتها.
تشير بشرى إلى هذه الإشكالية بقولها:
"ما يتم ترجمته إلى العربية يكون غالبًا من خلال دور نشر حاصلة على حقوق الترجمة، إذ ليس بمقدور المترجم الحصول على الملكية الفكرية من الكاتب الغربي ودار نشره مباشرة، بسبب التكاليف المالية المرتفعة، مما يضطره إلى ترجمة ما يُعرض عليه، لا بالضرورة ما يحب أو يرغب في ترجمته."
هذه الوضعية، كما توضح، تسلب المترجم كثيرًا من حرية المبادرة، وتجعل حركة الترجمة رهينة لاعتبارات تجارية قد لا تكون متوافقة مع الحاجات الثقافية الحقيقية للقراء.
صوت المترجمين.. شهادات من قلب التجربة
بعيدًا عن التنظير المجرد، تكشف شهادات المترجمين أنفسهم عن صورة واقعية دقيقة لحال الترجمة الأدبية العربية، بما تحمله من مكابدة يومية وصراع مستمر مع تحديات الواقع الثقافي واللغوي والمؤسسي.
في حديثها عن تجربتها الطويلة، تشير المترجمة سحر توفيق إلى أن فوضى المصطلحات تظل إحدى أعقد مشكلات الترجمة الأدبية اليوم.
"المؤسسات المنوطة بتحديث اللغة العربية تبدو قاصرة عن اللحاق بالتقدم العلمي والثقافي، مما يدفع المترجمين إلى اجتهادات فردية، كثيرًا ما تؤدي إلى اضطراب المصطلحات وتعدد الترجمات لنفس المفهوم، مما يزيد الفجوة مع القارئ العربي".
وترى أن ضعف الدعم المؤسساتي لا يكمن فقط في قلة المشروعات المنظمة، بل أيضًا في غياب التنسيق الثقافي الجامع الذي يضمن توحيد المصطلحات ومواكبة التحولات المعرفية العالمية.
المقاومة الفردية وصناعة الجسور
من جهة أخرى، يحمل صوت الجيل الجديد نبرة مختلفة تجمع بين الواقعية والأمل.
يوضح المترجم المصري الشاب أحمد الزناتي أن غياب الدعم المؤسسي لم يلغِ الدور الحيوي الذي يؤديه المترجم الفردي، مشيرًا إلى أن كثيرًا من هؤلاء الأفراد تحولوا إلى مؤسسات مصغرة قادرة على خلق ذائقة أدبية وبناء جسور ثقافية.
هذه الرؤية لا تُخفي إدراك حجم التحديات التي تواجه المترجم، لكنها تؤمن بأن المبادرات الشخصية، مهما بدت صغيرة، قادرة على صناعة أثر يتجاوز حدود الجهود الفردية التقليدية، ووسط هذا المشهد، يبدو أن الجيل الجديد لا يعول فقط على المؤسسات الغائبة، بل يراهن على الاجتهاد الشخصي كمسار إجباري للعبور الثقافي في زمن التفتت والتشرذم.
من زاوية أخرى، ترى الكاتبة والمترجمة الفلسطينية غلاء سمير أنس أن للمترجم دورًا حيويًا لا يقتصر على تنفيذ مشاريع الترجمة، بل يمتد إلى اقتراح الأعمال الجديرة بالترجمة بما يتناسب مع حاجة القارئ العربي.

"أرى دور المترجم في اختيار الكتب وطرحها على دور النشر دورًا مهمًا ومطلوبًا. عادة ما تملك الدور مخططات سنوية للترجمة، لكن اقتراحات المترجمين تضيف كثيرًا، خاصة إذا كانت الكتب المختارة تفتح آفاقًا فكرية جديدة أمام القارئ العربي".
وتذكر غلاء أنها قدمت خلال تجربتها اقتراحات عدة لدور النشر لترجمة أعمال نوعية، من بينها: كتب عالمة الاجتماع والفيلسوفة الأمريكية شارلوت جيلمان التي تُعنى بالنسوية المجتمعية، وكتب تسلط الضوء على حياة الفلسطينيين اليومية بعيدًا عن الصورة السياسية التقليدية، إضافة إلى كتب تهدف إلى تبسيط الفلسفة للقراء العرب.
هذه المبادرات الفردية، كما توضح، تسعى إلى سد ثغرات ثقافية قائمة، وفتح نوافذ فكرية جديدة أمام القارئ العربي، في زمن باتت فيه حركة الترجمة تئن تحت وطأة العشوائية والتجارية.
العزلة المثمرة
رغم تباعد الجيلين زمنًا وخبرة، إلا أن بينهما خيطًا خفيًا من التقاطع: كلاهما يدرك أن مشروع الترجمة الأدبية في العالم العربي يقوم، قبل أي شيء، على إخلاص فردي شديد.
ولعل ما قالته المترجمة سحر توفيق عن استعانتها بمتخصصين لمراجعة المصطلحات أثناء ترجماتها، وما ذكره أحمد الزناتي عن تحوّل بعض المترجمين إلى "مؤسسات مصغرة"، وما عكسته غلاء سمير أنس من مبادرات لاقتراح نصوص نوعية، كلها إشارات إلى أن المترجم العربي، مدفوعًا بشغفه وإيمانه بما يفعل، يبتكر أدواته الدفاعية الخاصة في مواجهة عزلة ثقافية متفاقمة. إنها عزلة قاسية، لكنها، على نحو متناقض، تتحول إلى بيئة مثمرة لإنتاج ترجمات تحفظ للعربية بعضًا من حيويتها وقدرتها على التفاعل مع العالم.
نحو مشروع ثقافي عربي للترجمة
إذا كانت التحديات التي تعترض طريق الترجمة الأدبية العربية قد باتت واضحة ومتشابكة، فإن التفكير في الخروج من هذه الأزمة يقتضي أكثر من مجرد رصد المشكلات أو التأسف عليها؛ إنه يتطلب وضع تصورات واقعية لمشروع ثقافي عربي جامع، يضع الترجمة في قلب اهتماماته لا على هامشه.
ليست الترجمة ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة وجودية لأي أمة ترغب في أن تكون طرفًا فاعلًا في صناعة المعرفة العالمية. ومن هذا المنطلق، لا يمكن الاعتماد على المبادرات الفردية وحدها مهما بلغت من الإخلاص والاجتهاد؛ بل لا بد من تحرك مؤسسي مدروس، يعيد الاعتبار للترجمة بوصفها مشروعًا استراتيجيًا طويل الأمد.
مأسسة الترجمة
أول ما تفتقر إليه حركة الترجمة العربية هو وجود مؤسسات ثقافية حقيقية تعنى بالترجمة الأدبية بوصفها مشروعًا معرفيًا مستمرًا، لا مجرد نشاط موسمي أو مظهر احتفالي.
ولعلّ المترجم العراقي جودت هوشيار يختصر جوهر هذا التصور حين يقول:
"لم تعد الترجمة عملًا تطوعيًا فرديًا يُترك لمن يتقن لغة أجنبية معينة. ففي ظل الكم الهائل من المعلومات التي تتطلب الانتقال المستمر من لغة إلى أخرى، لا يمكن ترك عملية الترجمة للأفراد واختياراتهم وقدراتهم فقط، بل ينبغي أن تُعهد بها إلى مؤسسات ومعاهد ومراكز مُخصصة لهذا النشاط".
إن ربط الترجمة بنسق مؤسسي واضح لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة ثقافية وإنسانية لمواجهة التخلف والتبعية العلمية والمعرفية.
يجب على أي مشروع طموح لدعم الترجمة أن يضع في أولوياته دعم الترجمة المباشرة من اللغات الأصلية، تفاديًا لفقدان روح النصوص وتشويه معانيها عبر الترجمات الوسيطة. ويتطلب تجاوز إشكالية الترجمة الوسيطة اتخاذ خطوات عملية، تبدأ بإنشاء مراكز تدريبية متخصصة لتعليم اللغات العالمية الأقل حضورًا، مثل اليابانية أو الروسية أو الألمانية، وتقديم منح دعم للمترجمين الراغبين في الترجمة المباشرة عن هذه اللغات.
كما يمكن تبني نماذج ناجحة سابقة أثبتت جدواها، كمسيرة صالح علماني مع الأدب الإسباني، وأبو بكر يوسف مع الأدب الروسي، حيث شكّل التزامهما بالنص الأصلي ركيزة لإنتاج ترجمات حيّة وأمينة.
اقرأ أيضًا:التشكيلية سلوى رشاد.. “البحث عن معنى” في المشاعر والأحلام والمخاوف (حوار)
توحيد المصطلحات
لا يمكن إغفال الدور الذي تلعبه المصطلحات الموحدة في إنجاح حركة الترجمة.
وكما أشارت المترجمة سحر توفيق في شهادتها، فإن استمرار فوضى المصطلحات يهدد بانهيار الجسور اللغوية بين النص الأصلي والقارئ العربي، لذلك تبرز الحاجة إلى إنشاء هيئات عربية مشتركة تُعنى بتوحيد المصطلحات العلمية والأدبية، بالتنسيق مع المجامع اللغوية، ومراكز الأبحاث الجامعية، ودور النشر الكبرى.
من دون قارئ عربي شغوف بالأدب المترجم، تظل كل الجهود ناقصة.
لذا من المهم العمل على:
- توسيع نطاق الوعي العام بأهمية الترجمة في بناء ثقافة الإنسان العربي الحديث.
- دعم حملات القراءة النوعية التي تروج للكتب المترجمة عالية الجودة.
- تخصيص جوائز ثقافية كبرى تكرم أفضل الترجمات الأدبية سنويًا.
قد تبدو هذه الطموحات بعيدة المنال في ظل واقع عربي ثقيل الوطأة، لكن تجارب فردية مشرقة، كأولئك المترجمين الذين أصروا على الإبحار عكس التيار، تبرهن أن العمل الجاد والصبور يمكن أن يصنع أثرًا لا يمحى.
ويبقى التحدي الحقيقي أن تنتقل هذه الجهود من خانة البطولات الفردية إلى خانة التخطيط الجماعي الواعي، وأن تصبح الترجمة مشروعًا ثقافيًا عربيًا جامعًا لا مجرد اجتهادات معزولة على أطراف الخريطة.
في نهاية هذا الطريق الطويل بين نصوص العالم وحافات العربية، يظل المترجم الأدبي كائنًا معلقًا في برزخ خاص به: برزخ الخسارات اليومية والانتصارات الصغيرة. وحده، أو في صحبة قلة نادرة، يقف في مواجهة العزلة، وفوضى المصطلحات، وضغوط السوق، وتجاهل المؤسسات، محاولًا أن يشيد جسرًا من الكلمات بين حضارات تتباعد باستمرار.
لم تعد الترجمة الأدبية اليوم مجرد جهد ثقافي تطوعي، بل أصبحت فعل مقاومة ضد ضمور اللغة، وضيق الأفق، وعزلة الإنسان العربي عن العالم، وإن صورة المترجم التي تتجلى عبر شهادات وتجارب هؤلاء الذين التقينا بهم، لا تقدم نموذجًا بطوليًا رومانسيًا، بل تكشف عن شغف واقعي، مديد، صبور، لا ينتظر ثناءً ولا يطلب تصفيقًا.
ويبقى السؤال الكبير معلقًا في فضاء الثقافة العربية: هل نواصل ترك هؤلاء الجنود الثقافيين يخوضون معركتهم وحدهم، أم حان الوقت لكي نعي أن الترجمة مشروع جماعي لبناء المستقبل، لا مجرد جهد فردي لتزيين الحاضر؟
- في انتظار الإجابة، يستمر المترجم العربي في العبور؛ خطوة خطوة، بين لغتين، بين عالمين، بين عزلة ومقاومة.