تحت كوبري السيدة عائشة في منطقة مصر القديمة، يجلس محمد سلامة الرجل المسن إلى جوار العشرات غيره من عمال الهدم والبناء من الفجر، يرتدي مثلهم جلبابًا صعيديًا تقليديًا، وأمامه مطرقة ثقيلة ومجموعة من المسامير الضخمة، في انتظار زبون يستعين به لكسر حائط أو هدم أرضية حمام قديم.
سلامة في الـ 55 من عمره. جاء منذ سنوات طويلة إلى القاهرة. عمل فيها في مجال البناء، فكان يحمل القصعة لعقود شارك خلالها في صب الأسطح والأعمدة الخرسانية، وعندما تطورت طرق البناء وأصبحت تعتمد على شركات المونة الجاهزة، اتجه إلى العمل على معدات الهدم البسيطة باليومية.
لا يصرف سلامة منحة العمالة غير المنتظمة منذ أكثر من عام. وكان التقديم عبر إحدى شركات المقاولات الكبرى، التي استغنت عنه قبل عام. وفي ظل عدم تحصله على عمل ينفق منه على أسرته، يضطر إلى العودة لممارسة أعمال التراحيل مجددًا.
اعتمد وزير العمل محمد جبران مبلغ 297 مليونًا و445 ألفًا و500 جنيه، منحة عيد العمال، وذلك لصالح العمالة غير المنتظمة المُسجلة لدى قاعدة بيانات الوزارة، وذلك بواقع 1500 جنيه لكل عامل. وهي منحة اشتكى الكثير من العمالة غير المنتظمة من عدم حصولهم عليها.

العمالة غير المنتظمة وفوضى الأرقام
تسود حالة من الغموض والفوضى بشأن الأرقام الحقيقية للعمالة غير المنتظمة في مصر، إذ لا توجد إحصائية موحدة أو موثوقة. فبينما يقدّر خالد عيش، نائب رئيس اتحاد العمال وعضو مجلس الشيوخ، العدد بأكثر من 20 مليون عامل، يشير مجدي البدوي، نائب رئيس الاتحاد ذاته، إلى أن العدد يتجاوز 12 مليون مواطن فقط، ما يكشف عن تباين كبير في التقديرات.
وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن نحو 47.3% من الرجال و44.7% من النساء يعملون في القطاع غير الرسمي. لكن وزارة العمل لا تمتلك سوى بيانات مسجلة لنحو 1.164.012 عاملًا فقط حتى نهاية عام 2024. ويعكس هذا التفاوت فجوة حقيقية بين الواقع والمعلومات الرسمية، ما يعيق رسم سياسات فعالة لحماية هذه الفئة.
ورغم صدور قانون العمل الجديد، فإن منظمات معنية بالحقوق النقابية، مثل "دار الخدمات النقابية والعمالية"، تعتبر أن القانون لم يعالج جوهر المشكلة. ووصفت الاقتصار على تسجيل العمالة غير المنتظمة عبر الجهات الإدارية بأنه غير كافٍ، مطالبةً بإلزام أصحاب الأعمال بتسجيل العمال والمدة الزمنية لعقودهم، وإرسال البيانات إلى مكاتب العمل التي يُفترض أن تخصص قسمًا لهذا النوع من العمالة. واعتبرت المنظمة أن عملية التسجيل تمثل الخطوة الأساسية لضمان الحقوق والحد من التهميش.
الطريق إلى المنحة
توقفت منحة العمالة غير المنتظمة عن عدد كبير من المستحقين، مثل سلامة وغيره من العمال، بسبب تقاعس بعض الشركات عن تحديث بياناتهم أو الاستغناء عن خدماتهم بشكل نهائي.
آلية التقديم على المنحة تدور في مسارين: إما عبر الشركات، خاصة في قطاعات المقاولات والأمن والخدمات، أو من خلال التقدم الشخصي إلى مكاتب التأمينات، وهو ما يتطلب مراجعة دقيقة من الوزارة، ويتضمن متطلبات إدارية معقدة.
يشترط النظام للتقديم الفردي أن يكون العامل تحت تصنيف "عمالة غير منتظمة حرة" أو "عمال مقاولات دون صاحب عمل"، ما يستدعي تقديم حزمة كبيرة من المستندات، تمثل عبئًا ماليًا وإداريًا على العامل.

ويعجز كثيرون عن الوفاء بهذه الاشتراطات في ظل أوضاعهم الاقتصادية الصعبة، إذ قد تمر أيام دون أن يُطلب منهم أي عمل، ويقتصر مصدر دخلهم على إحسان المارة أو وجبة فول بسيطة يقدمها صاحب عربة طعام قرب مسجد السيدة عائشة.
يقول عطية قدري، عامل تراحيل، إن ظروفهم لا تسمح بإنفاق المال على أوراق رسمية، خصوصًا وأن غالبيتهم من محافظات الصعيد، يرسلون ما يتحصلون عليه من دخل متواضع - لا يتجاوز 2000 جنيه شهريًا - إلى عائلاتهم. ويشاركون السكن في غرف جماعية بمناطق مثل السيدة عائشة والإمام، بهدف تقليل نفقات الإيجار.
ويتطلب التقديم الشخصي إلى مكاتب التأمينات للحصول على المنحة تعبئة نموذج رقم (1)، وتقديمه إلى المكتب الواقع في نطاق نشاط العامل. وتُرفق به مستندات تشمل: بيان بتدرج المهنة من مصلحة الأحوال المدنية، ونسخة من شهادة الميلاد المميكنة، وطلب اشتراك للعاملين في القطاع الخاص، وصحيفة البيانات الأساسية وفقًا للنموذج رقم (3) في حال وجود مدد سابقة، وصورة من بطاقة الرقم القومي.
كما تشمل المستندات: بيان بمدد الاشتراك السابقة، ما إذا كان العامل مستحقًا لمعاش آخر بحسب النموذج رقم (4)، تقرير لياقة طبية من الجهة المختصة، بالإضافة إلى شهادة ملكية أو حيازة زراعية صادرة من الجهات الرسمية.
ويعبّر صابر الطوخي، البالغ 67 عامًا، عن استيائه من هذه الإجراءات بقوله: "كل الأوراق دي عشان مانعرفش نقدم.. مش كفاية بطاقة الرقم القومي؟ لازم نصرف على ورق لا أول له ولا آخر، وفي الآخر مفيش ضمان إننا ناخد المنحة، ولسه جاري البحث".
تقصير حكومي في الحصر
الإجراءات غير الشفافة انعكست على الواقع المعيشي لكثير من العمال. إسلام الملاح، أحد المستفيدين من منحة العمالة غير المنتظمة منذ خمس سنوات، فوجئ بوقف صرف منحة عيد الفطر ومنحة عيد العمال هذا العام. ولدى سؤاله في مكتب التأمينات، أُبلغ بأنه "لا يوجد شيء باسمه"، دون توضيح سبب الاستبعاد أو توجيهه لما يجب أن يفعله.
جمال حسين، عامل آخر، تم حذفه من قوائم المستفيدين دون إخطار مسبق. وعندما استفسر في مكتب البريد، قيل له إن الشركة التي كان يعمل بها توقفت عن سداد مستحقات التأمينات، رغم أنها كانت قد أدرجته ضمن العاملين لديها في وقت سابق. ويخشى جمال الاستفسار من المقاول مباشرة، إذ يمكن أن يؤدي سؤاله إلى طرده من العمل، في ظل غياب آليات الحماية القانونية.

ويشير محمد عبدالقادر، الأمين العام السابق للنقابة المستقلة للعمالة غير المنتظمة (النقابة المنحلة)، إلى تلقيه عشرات الشكاوى من عمال لم تُصرف لهم منح عيد الفطر أو عيد العمال، رغم استمرارهم في العمل داخل شركات مقاولات ومستشفيات. وهو ما يعتبره معززًا لضعف أداء وزارة العمل في إعداد قاعدة بيانات دقيقة وشاملة.
ويوضح عبدالقادر، في تصريحاته لـ فكر تاني، أن نحو 70% من العاملين في شركتين كبيرتين بقطاع المقاولات، وهم من الفئات المستحقة للمنحة، لم يتسلموا مستحقاتهم بحجة عدم تحديث بياناتهم، رغم أن مسؤولية الحصر والتسجيل تقع على وزارة القوى العاملة، وليس على الشركات. ولفت إلى أن مثل هذه الذرائع تُحرم أعدادًا ضخمة من العمال من حقوقهم المادية والاجتماعية.
ويشير عبدالقادر إلى مفارقات واضحة في تطبيق القوانين، إذ أن المادة 26 من قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 حددت العمالة غير المنتظمة ضمن فئات معينة، ولم تشمل العاملين في المنشآت متناهية الصغر وبعض قطاعات الاقتصاد غير الرسمي. ومع ذلك، تم صرف المنحة لأحد العاملين في محل جزارة، رغم أن هذه الفئة لا تندرج ضمن المستحقين، ما يثير تساؤلات حول آلية التوزيع والتدقيق.
وتُمول منح العمالة غير المنتظمة من الاشتراكات التي تُحصّلها وزارة العمل من أصحاب الأعمال في القطاعات المستفيدة، وعلى رأسها شركات المقاولات. إلا أن غياب الرقابة والتخطيط الدقيق يفتح المجال لفوضى في الصرف واستبعاد فئات مستحقة.
وبحسب القانون، فإن العمالة غير المنتظمة تشمل فئات واسعة مثل محفظي القرآن والمقرئين، وخدم المنازل، وعمال التراحيل، والمشتغلين المؤقتين في الزراعة، والعاملين في تربية الماشية والدواجن، إضافة إلى الباعة الجائلين، منادي السيارات، ماسحي الأحذية، وموزعي الصحف، وغيرهم من أصحاب الأنشطة الفردية ذات الطبيعة الهشة.
ويختم عبدالقادر بالإشارة إلى أن بعض العاملين تجاوزوا سن الخمسين دون أن يتمتعوا بأي معاش أو حماية اجتماعية، رغم سداد أصحاب الأعمال لنسب تأمينية منذ ستينيات القرن الماضي. كما أُغفلت حقوق من تعرضوا لإصابات عمل أو عجز دائم، وحرمت أسرهم من منح العمالة غير المنتظمة، ما يسلّط الضوء على الحاجة إلى إصلاح عاجل وشامل في منظومة الحماية الاجتماعية لهذه الفئة.

شبهات فساد ونقص رقابة
ويكشف عاملون في قطاع المقاولات عن وجود شبهات تلاعب في صرف منح العمالة غير المنتظمة، حيث أفاد أحد مكاتب المقاولات بمنطقة الوراق في الجيزة بأنه سجيل عدد من غير المستحقين، من بينهم سبعة أفراد من أسرة واحدة في منطقة السيدة زينب، مقابل مبالغ مالية.
تُسلط هذه الواقعة الضوء على ضعف منظومة التدقيق في بيانات المستفيدين، ما يفتح الباب أمام استغلال المنظومة من قبل سماسرة ومقاولين على حساب الفئات الفعلية المستحقة.
ويُخصم تمويل هذه المنح مباشرة من مستخلصات قانون العمل التي تُفرض على شركات المقاولات وغيرها، ما يزيد من أهمية ضمان وصول الأموال لمستحقيها الفعليين، خاصة في ظل الأزمة المعيشية التي يعاني منها كثير من العاملين المؤقتين.
ويراهن البعض على قانون التأمينات الاجتماعية والمعاشات الصادر عام 2019، والذي ينص على تخصيص نسبة اشتراك للعمالة غير المنتظمة تبلغ 9% من الحد الأدنى لأجر الاشتراك، على أن تساهم الخزانة العامة بنسبة 2%، دعمًا للحماية الاجتماعية لهذه الفئة. لكن التطبيق العملي لهذا القانون ما يزال محدودًا، بسبب أن غالبية العمال غير مسجلين أو غير مؤمن عليهم رسميًا، مما يحرمهم من الاستفادة من تلك المزايا.
كما يشير متخصصون إلى وجود تناقضات في مواد قانون العمل الجديد بشأن تعريف وتنظيم العمالة غير المنتظمة، ما تسبب في تعطيل تحقيق الأهداف المعلنة لهذا التشريع. كما تفتقر أموال العمالة غير المنتظمة – التي سبق أن حُصّلت من المقاولين – لأي نوع من الرقابة الفعالة من الأجهزة الرقابية على مستوى وزارة العمل أو المديريات التابعة لها في المحافظات.
ومن جهته، صرح مسؤول بوزارة القوى العاملة أن الوزارة تعمل على توسيع قاعدة بيانات العمالة غير المنتظمة، وقد أُضيف نحو 100 ألف عامل للمنظومة حتى نهاية عام 2024. وتسعى الوزارة إلى رفع العدد الإجمالي للمسجلين إلى 2.5 مليون عامل في الفترة المقبلة، ضمن خطة تستهدف تقنين أوضاع هذه الفئة وتوسيع مظلتها الاجتماعية.