رحلة إلى “العالم النفسي للنساء”.. في كتاب لـ نبيل القط

“الهدف النهائي لهذا الكتاب هو تمكين البنات والنساء من رفع الضرر النفسي عنهن، وتمكينهن من إدارة حياتهن بكفاءة واستقلال وحرية، واستعادة القدرة على التعلم والعمل، وأن يكنّ فاعلات في بيئاتهن الصغيرة والكبيرة، وقادرات على اتخاذ القرارات الكبرى في حياتهن وتوجيههن نحو الرفاه النفسي”.

في كتابه، “العالم النفسي للنساء”.. يأخذنا الطبيب النفسي والكاتب الدكتور نبيل القط، في رحلة داخل النفس البشرية، تنطلق من عالم المرأة وتتسع لتشمل الحياة بأكلمها، رحلة لمعرفة الذات والنفس والجسد والعالم من حولنا من خلال معارف ودراسات وخبرات وتجارب وشهادات شخصية وإحصائيات وتأملات ومشاعر وأفكار وتساؤلات متنوعة تتجاور، لتصنع نص/كتاب يجمع بين دقة ورصانة الدراسات العلمية، ومتعة وجمال اللغة والحكايات الأدبية.

الكتاب الصادر حديثًا عن مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات بالعاصمة المصرية القاهرة، برسوم معبرة للفنان مخلوف، وإخراج داخلي مميز للفنانة رشا سمير، يحتوي على ستة فصول: “النمو البيولوجي والنفسي والاجتماعي للمرأة، شقوق في المرونة النفسية للنساء الطريق إلى المرض النفسي، الاضطرابات النفسية التي تصيب النساء، صحة المرأة النفسية والأمراض الجسدية، حياة النساء الجنسية، والتعلق: المرأة والآخر”.

تروي فصول الكتاب حكايات كثيرات من النساء في صراعاتهن النفسية والاجتماعية، سواء مع أنفسهن أو مع أجسادهن وأسرهن الكبيرة والصغيرة، سواءً كن طفلات أو مراهقات أو نساء راشدات أو مسنات، وسواء كن بنات يعشن في ظل عائلاتهن، أو مستقلات، أو أمهات يعشن مع أزواج أو أمهات عازبات، أو جدات مع أزواج أو جدات وحيدات، أو كن عاملات بأجر أو ربات بيوت، سوف نقابلهن خلال رحلتنا مع الكتاب ونستمع لهن في معاناتهن وتعافيهن.

“العالم النفسي للنساء”

في الفصل الأول، رحلة النمو البيولوجي والنفسي والاجتماعي للنساء مقسمة إلى مراحل من الطفولة إلى الشيخوخة، وما يرافق كل مرحلة من مناطق قوة ومناطق ضعف، ويركز الفصل الثاني على التحديات التي تواجهها النساء في عالم اليوم، وخصوصًا في مجتمعاتنا العربية وما تنتجه هذه التحديات من تعطل وضعف في المرونة النفسية واضطرابات نفسية واجتماعية عديدة، ويستعرض الفصل الثالث الاضطرابات النفسية وتأثيرها في النساء مع التركيز على الاضطرابات التي تؤثر في حياتهن أكثر من الذكور.

بينما يركز الفصل الرابع من الكتاب على جوانب التأثير والتأثر الذي تتبادله الأمراض الجسدية والصحة النفسية وخصوصًا الأمراض الجسدية المنتشرة أكثر في النساء مثل أمراض المناعة وسرطان الثدي والأمراض الجلدية وغيرها.

أما الفصل الخامس فيتناول الحياة الجنسية للنساء في حالتي الصحة والاضطراب، بدءًا من استعراض النشاط الجنسي الإنساني وأبعاده البيولوجية والنفسية والاجتماعية، ثم الاضطرابات الجنسية التي تعاني منها النساء وعلاجها وكيفية التعامل، أما في الفصل السادس والأخير يُخصصه القط، للعلاقات بأنواعها في حياة النساء ويشرح أهمية التعلق في حياتهن وأنواع تلك العلاقات وما هو مهم وصحي وما هو مؤذ من علاقات سواء كانت داخل الأسرة أو خارجها.

اقرأ أيضًا:“ظلم المصطبة”.. دراما تقتنص الخلاص وسط صراخ المسلسلات

طرف الخيط

يفتتح القط كتابه بمقدمة وافية ومعبرة بعنوان “محبة وامتنان” يروي فيها رحلته مع الكتاب: “في العام 2005 بدأت العمل مستشارًا مع الأمم المتحدة في مقاومة وباء الإيدز وفيروسه في المنطقة العربية، وسمعت كثيرًا عبارة (المرأة أكثر تعرضًا) التي لم أكن أفهمها جيدًا.
قابلت مئات النساء في مصر والسودان وجنوب السودان وجيبوتي والصومال واليمن وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والكويت والبحرين؛ كن نساءً متعايشات أو زوجات المتعايشين أو أمهات لأطفال متعايشين مع الفيروس، يجمع بينهن الألم والخوف واليأس والغضب عايشت معهن لحظات النهوض والفشل، والتألق والإحباط ، وآلام المرض والخوف من الموت والفقد والفقر والتشرد”.

يوضح صاحب كتاب “حكايات عن التعب والشفاء .. دليل الصحة النفسية” مدى الأثر الذي تركته هذه التجربة في حياته الشخصية والعملية كطبيب نفسي؛ فقد عايش وتعرف عن قرب على تفاصيل وخبرات وتجارب تخص عالم المرأة وحجم المعاناة والتمييز والعنف الممارس ضدهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

“رأيت القهر والوصم والعزلة جنبًا إلى جنب مع المحبة والتضامن والحميمية والإبداع. وبدأ يزداد انشغالي بالتجربة الأنثوية ومحنة النساء ووضعهن البيولوجي والنفسي والاجتماعي في مجمل الظاهرة الإنسانية، وبدأت أفهم لماذا النساء أكثر تعرضًا للإصابة بفيروس الإيدز، رغم أنهن الأقل حركة والأقل ممارسة للتعدد الجنسي”.

ويستطرد القط متتبعًا رحلته مع عالم النساء النفسي التي تطورت بصورة أوسع مع ثورة 25 يناير، وتبعاتها على وعيه الشخصي ومساره المهني: “في العام 2012، ومع انحسار الثورة المصرية، انتشر التحرش الجنسي حول ميدان التحرير، حيث كانت عيادتي، وبدأت أقابل نساء كثيرات من ضحايا الاعتداءات الجنسية في ذلك الوقت، ورغم أنني كنت أقدم المساعدات الطبية والنفسية المعتادة، فإن العنف الشديد والحالات الكثيرة أشعرتني بالارتباك والعجز؛ لم أعرف كيف أقول لفتاة تعرضت لانتهاك أعضائها أنا فاهم إحساسك” كما أقول عادة لمرضاي، بينما أنا رجل، وليس لدي مهبل، ومن نفس النوع الاجتماعي للمعتدي”.

الدكتور نبيل القط

في هذه المرحلة تعرف القط على جميلة -اسم مستعار- لحماية خصوصية الشخصية، وهى الشابة المبدعة كما يصفها القط التي تعرضت للعنف الجنسي الجماعي في أحد شوارع ميدان التحرير، والذي استمر قرابة الساعة “سقطت وقامت وسقطت وقامت واستمر المعتدون وراءها، نزعوا عنها ملابسها، وجذبها أحدهم من فرجها، وأقحم أحدهم عضوه في فمها، حتى أنقذتها “رسمية”، وهي سيدة قوية من بولاق كانت مريضة سابقة معي، استدعتني إلى بيتها لمساعدتها، بعد ذلك سافرت “جميلة” إلى خارج مصر للعلاج، وسوف يتردد اسمها كثيرًا في هذا الكتاب”.

يتذكر القط أنه خلال هذه المرحلة قام بتقليص عمله في العيادة، وانشغل أكثر بالعمل في مخيمات الشتات السوري: “قابلتني مآس إنسانية أكثر حدة، ثم توفيت زوجتي في 2014 إثر جريمة طبية، بعدها سقطت في حزن عميق لم أخرج منه إلا بمساعدة صديقات زوجتي اللائي كن بمنزلة أخوات ودعامات في أزمتي، وسهرن على رعايتي حتى تعافيت.

كانت أيامًا ازداد فيها انشغالي بالتجربة الأنثوية ليس فقط في معاناة النساء، ولكن في قدراتهن على المحبة والتضامن والرعاية، ومنذ العام 2018، ومع مساعدة “جميلة” التي عادت بعد أن تعافت وعملت معي في مساعدة النساء المعنفات، بدأت أكرس بحثي وعملي العلاجي على العالم النفسي للنساء، بالإضافة – طبعًا إلى عملي الآخر، وقررت أن الأعوام القادمة سوف تكون مخصصة لمشروع “الصحة النفسية للنساء”، ولم أكن أعرف نتيجة هذا البحث حتى بدأت في كتابة هذا الكتاب”.

اقرأ أيضًا:باسم “السُترة”.. الأمثال الشعبية تُكرس العنف ضد النساء

دليل شامل 

وأهم ما يميز الكتاب، جمعه بين المنهجية البحثية والعلمية والخبرة والتجربة الشخصية ما يجعله أقرب ما يكون إلى دليل شامل للصحة النفسية للنساء، حيث يعتمد على تقديم الدراسات والنظريات حول صحة المرأة النفسية متبوعًا بدليل عملي معاصر للمساعدة والدعم موجها للمتخصصين كذلك وللقراء بشكل عام، ويركز الكتاب على الصحة النفسية للنساء في مختلف مراحلهن العمرية من خلال موضوعات تخص حياتهن النفسية من خلال تغطية علمية وإكلينيكية وتوجيهه تهدف لتمكينهن من إدارة حياتهن بكفاءة واستقلال وحرية.

يشير القط إلى أن الكتاب يعتمد على ثلاثة مصادر رئيسية ضمن مصادر أخرى عديدة، أولًا: حكايات النساء التي بُحن بها داخل جلسات العلاج النفسي، سواء عن العنف والكرب والمعاناة اليومية التي يعشنها في مجتمعاتنا العربية أو عن الاضطرابات النفسية التي جئن للعلاج بسببها.

وثانيًا: الأبحاث والكتب التي كُتبت في كل موضوع سواء المصرية أو العربية أو العالمية، وثالثًا الخبرة الشخصية للمؤلف في عمله الممتد على مدار 34 سنة في الطب النفسي والعلاج الزواجي والتدريب والتدريس النفسي.

“هذا الكتاب الذي لا ينفصل أبدًا عن تاريخي الشخصي، سواء في علاقتي بأمي أو أختي أو زوجتي أو صديقاتي، سواء كن زميلات أو صديقات أو حبيبات، واللائي شكلن وجودي ورؤيتي لنفسي وللآخرين”.

بقدر أهمية قراءة الكتاب كاملًا، كنص ورحلة ممتدة إلا أن منهجية الكتاب تتيح أن يتصفحه القارىء من أي فصل وموضوع يريده، في صيغ العناوين الرئيسية والفرعية وفي فهرست الكتاب بدقة ووضوح لتساعد في تحقيق ذلك:

“يعتمد منهج الكتاب على تقديم المعرفة العلمية حول صحة المرأة النفسية بحسب المقاربة الأكثر شمولًا وهي المقاربة البيولوجية النفسية الاجتماعية المسماة بيو -نفس- اجتماعي، متبوعًا بدليل تطبيقي أو إرشادات عامة عن كل مشكلة نفسية أو اجتماعية موجهًا إلى النساء ومن يهمهم أمرهن وبعض التوجيهات إلى المتخصصين، ويمكن تصفح الكتاب فصلا فصلا أو الدخول مباشرة على العنوان الذي ترغب في قرائته دون الحاجة إلى قراءة كامل الكتاب أو كامل الفصل”.

ويرى القط، أن علم الصحة النفسية ما زال منشغلًا بمتابعة الاضطرابات التقليدية وعلاجها، أو الموضوعات التقليدية الخاصة بالمرأة مثل مواجهة العنف، والآثار الضارة لتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، وتربية الأطفال ورعاية الزوج والأسرة.

مع وجود بعض المحاولات المتفرقة بين مرحلة وأخرى لإبداع مقاربات نفسية خاصة، وكان نتيجة ذلك أن أغلب ما كتب بخصوص الصحة النفسية للنساء كان ذا توجه اجتماعي أو سياسي أو حقوقي، ولم ينشغل بالصحة النفسية للنساء مباشرة إلا القليل من الكتابات.

“العالم النفسي للنساء”

“توجد الكثير من الكتابات الشعبية عن نفسية المرأة، والتي تركز على الغموض الأنثوي والجنس والحب والعلاقات، وأغلبها كتبت بلغة غير علمية وكثيرًا ما تكون متحيزة ومنمطة للمرأة، ومكرسة للصور التقليدية عنها وأحيانًا مضللة، لذلك تأتي ضرورة هذا الكتاب الذي يركز على الصحة النفسية الخاصة بالبنات والنساء وحياتهن النفسية منطلقًا من تفرد التجربة النسائية من حيث التكوين الجيني والبيولوجي ومراحل النمو والتطور النفسي والعوامل البيئية والمسارات الحياتية والصعوبات والتحديات والمراحل العمرية”.

موضحًا أن هذا الكتاب يتوجه أساسًا إلى النساء المراهقات والشابات والكبيرات العازبات والمتزوجات ومن يُعلن أو لا يُعلن أطفالًا، ويتوجه إلى من ينشغلون بشؤون النساء من داخل الأسرة مثل الأزواج والآباء والأمهات والأبناء، أو من خارج الأسرة مثل الأصدقاء والصديقات والزملاء.

ويتوجه أيضًا إلى الأطباء والإخصائيين النفسيين وإلى العاملين في المؤسسات المهتمة بالبنات والنساء مثل المؤسسات التعليمية والصحية، ومؤسسات الدعم الاجتماعي والنفسي والقانوني وخلافها، وهو يهدف إلى سد النقص في المعرفة العلمية العامة والفهم النفسي والاجتماعي المنشغل بالصحة النفسية للبنات والنساء.

اقرأ أيضًا:اسم الأم.. “خانة” غائبة عن البطاقة حاضرة في معاناة النساء

النوع الاجتماعي “الجندر”

واحد من أبرز الأسئلة التي فكرت فيها بمجرد أن رأيت عنوان الكتاب، هل عالم المرأة النفسي مختلف عن عالم الرجال النفسي؟.

وإذا كانت الإجابة بنعم، فما هى ملامح وسمات هذا العالم النفسي “النسائي” وما هى أبرز الاختلافات عن عالم الرجل النفسي، وكيف يمكن التعامل معها، وما مدى الأثر الناتج عن الجهل بها ليس فقط على المرأة ولكن على المجتمع كل؟، بينما إن كانت الإجابة بلا، فما الحاجة إذن لمثل هذه الكتابات والعناوين الجذابة والبراقة.

يوضح القط أن الدراسات والأبحاث العلمية تخبرنا أن الجينات/السمات الوراثية والبيولوجية تتشابه بين النساء والرجال بنسبة  99.7 % من المحتوى الجيني، ولكن هذا لا يعني التطابق، ولا ينفي وجود اختلافات نفسية خاصة إذا نظرنا للأمر من منظور النوع الاجتماعي/الجندر، حيث تساهم التربية والانحيازات والسياقات المجتمعية في تعزيز سلوكيات ومشاعر واحتياجات وأفكار وتصورات بعينها عن الذكورة والأنوثة، ونفي وتحجيم وكبت وتجريم سلوكيات ومشاعر أخرى، وبالتالي تتشكل صورتنا كرجال ونساء، أو للدقة تصوراتنا عن ذواتنا.

“العالم النفسي للنساء”

تحت عنوان “المراجعة: إعادة نظر/الواقع الحالي” يشير القط، أنه على الرغم من كون النساء حاليًا يشكلن غالبية العاملين في مجال الصحة النفسية سواء كن طبيبات أو معالجات أو ممرضات. وعلى الرغم من أن غالبية المرضى ومتلقي الرعاية النفسية في العالم من النساء أيضًا، ووجود ما لا يقل عن عشر مدارس نفسية وعلاجية أبدعتها وقادتها من النساء، فعلى سبيل المثال “مارشا لينهان” مؤسسة العلاج الجدلي السلوكي، و”سو جونسون” مؤسسة العلاج الزواجي المرتكز على المشاعر، ما زالت النظريات الرئيسية ومدارس العلاج النفسي المؤثرة في المجال هي تلك التي تم تطويرها في العقود السابقة، وصياغتها في الغالب بواسطة رجال، وبنيت على أبحاث كانت غالبية العينات فيها من رجال.

“تسبب ضعف وجهات النظر النسائية الفاعلة في هذا المجال، وعلى مدار سنوات طويلة في آثار سلبية تمثلت في عدم مواءمة تلك النظريات لناحية فهم معاناة النساء النفسية، وبالتالي إمكانية تقديم إرشاد نفسي ناجع لهن”.

وقد أكدت الدراسات الحديثة أن النساء اللاتي يتوجهن إلى طلب الخدمات النفسية يتعرضن للتمييز -داخل الحقل الطبي والنفسي بسبب الافتقار إلى الأدوات المناسبة- للعمل معهن وتقييمهن؛ ما أدى إلى مضاعفة معاناتهن، نتيجة للمراجعات السابقة بدأت تنشغل مؤسسات كثيرة محلية وأممية بمراجعة ما استقرت عليه الممارسات الطبنفسية فيما يخص النساء، وتبذل حاليًا الكثير من الجهود من أجل إعادة النظر في سياسات ونظريات الصحة النفسية وتطبيقاتها فيما يخص النساء”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة