وسط أصوات نواقيس العوز التي تُقرَع في البيوت، تمضي جيوب المواطنين والمواطنات نحو الاستقرار في توابيت الغلاء، مع استمرار جنون الأسعار وتدنّي الرواتب. في هذه الأثناء، يقف “عصام. ا”، موظف فني في تركيب الكاميرات، يلقي بنظراته هنا وهناك داخل محل بقالة، لعلّه يجد ما يناسب حالته المادية، حتى عثر على علبة سجائر رخيصة بسعر 30 جنيهًا.
لم يعد عصام، وفق حديثه لـ فكر تاني، يشتري نوع السجائر الذي يفضّله، بل يكتفي بأرخص الأنواع المتاحة لدى البقال، حتى يتمكن من التعايش هو وأسرته المكوّنة من أربعة أفراد، بالراتب الذي يتقاضاه. لكن كيف لموظف يتقاضى 5 آلاف جنيه شهريًا أن يلبّي احتياجاته اليومية، في ظلّ أن لديه ثلاثة أولاد، أصغرهم محمد، طالب في السنة الأولى بكلية التجارة، ويُعاني من مرض السرطان؟
شهدت البيوت المصرية ضغوطًا شديدة بعد ارتفاع أسعار المحروقات والغاز بنسب تتراوح بين 11% و33%، ما ألقى بظلاله على ميزانيات الأسر. وفقًا لاستطلاع رأي أجرته CNBC عربية وشمل عشرة من المحللين وخبراء الاقتصاد في بنوك وشركات استثمار، تبيّن أن رفع أسعار المحروقات سيدفع بمعدلات التضخم إلى مواصلة الارتفاع.
“تأمين المواصلات أولًا”
“تأمين المواصلات أهم عندي من الأكل والشرب علشان أقدر اروح الشغل واشتري تذاكر مترو كتير علشان لو غليت هكذا وصف عصام حالته اليومية، حيث يقول في أوقات مش بيكون معي فلوس فباخد من العمل حتى زيادة غلاء المعيشة بتوصل لنا حوالي 250 جنيه”.

وبنبرة حزينة تسودها العجز وقلة الحيلة، يقول عصام خلال حديثه لـ فكر تاني: “الزبدة واللحمة والسمك والفراخ والزفر مش بنشمه من كتر الغلاء.. حتى ابني كنا بناخد علاجه ببلاش من المعهد القومي للأورام، بقاله 3 سنوات بيتعالج، دلوقتي بنجيب العلاج من برّه، بيوصل إلى 3000 جنيه، وفي علاج مش بجيبه”.
حركة البيع والشراء تأثرت
يقول “محمود. ن”، صاحب محل بقالة في منطقة رمسيس، إن حركة البيع والشراء لم تعد كما كانت سابقًا، فكان الزبون يشتري أكثر من منتج، لكن في الوقت الحالي يشتري منتجًا واحدًا فقط.
ويضرب مثلًا بزجاجة اللبن، قائلًا: “الزبون كان بيشتري كل يوم زجاجة لبن، وحاليًا كل ثلاث أيام بياخد واحدة. كانت بتتباع من 10 إلى 20 جنيه، وصلت سعرها من 45 إلى 50 جنيه”.
وبالنسبة للمنتجات التي لم يعد محمود يشتريها في الفترة الأخيرة بسبب ارتفاع الأسعار، فهي البن، حيث يضيف خلال حديثه: “بطلنا نشتري البن كل أسبوع، كنت بجيب 10 كيلو قبل عامين، الآن بشتري في الأسبوع من كيلو إلى 2 كيلو على حسب حركة البيع”.
وبالطبع كان لمنتجات الألبان، مثل الجبن وغيرها، نصيبًا من التأثر، بحسب محمود الذي يقول: “الأول كنت بشتغل في كمية متنوعة من اللانشون، لكن الآن بشتغل في البيف والسادة فقط. وكذلك الحال بالنسبة للجبن والتونة، كنت كل أسبوع بجيب كرتونة، دلوقتي بتقعد بالشهر علشان تتباع”.
وحول متوسط شراء المواطن يوميًا، يذكر محمود أن الفرد يمكنه أن يشتري مستلزمات من 25 إلى 30 جنيهًا: “أقل حاجة ممكن أبيعها بـ 10 جنيه جبن، ومش كل البقالين بيعملوا كده”.
وبسؤاله عما إذا كان يشتري منه الأفراد بالأجل، ضحك محمود ضحكة عنوانها “شر البلية ما يضحك”، قائلًا: “من فين أعمل كده؟ ما عنديش سيولة اللي تبقيله تخسره”، وسرد موقفًا مر عليه: “مرة واحد اشتري مني علبة سجائر وقال لي هبقى أدفع ثمنها ومشي، وبعد فترة شوفته وقلت له هات ثمنها وأخذته”.
“الحالة بقت على القد”
حال عصام الموظف لم يختلف كثير عن حال سماح – اسم مستعار – موظفة التي وقفت تشتري من بقال في منطقة سرايا القبة ثمن كيلو جبنة براميلي لها ولزوجها.
تقول سماح لـ فكر تاني، أنا موظفة وزوجي بكالوريوس زراعة وعمل في عدة مهمن لكنه سبع صنايع والبخت ضايع وشغال على عربية حواوشي عند واحد جزار”.
“زوجي الشغل معاه مش زي الأول والحالة بقت على القد بشتري اللى يكفي اليوم الأول كنت بجيب بيض وفواكهة دلوقتي بطلب الحاجة غليت والظروف اختلفت”؛ هكذا وصفت سماح صاحبة الـ 56 حالها هي وزوجها.
تراجع كبير
“الشغل كله دلوقتي كل كيس شيبسي وزجاجة حاجة ساقعة أو كارت شحن”؛ بهذه المفردات، اشتكى محمد، مالك محل بقالة في منطقة سرايا القبة، من تراجع حركة الشراء لديه، حيث يقول إنه لم يعد يحصل على مكسب كما كان في السابق، علاوةً على أن المصاريف فاقت حجم البيع.

وتراجعت القدرة الشرائية لدى ربات البيوت، حيث أصبحت تشتري تمن جبن أبيض وتمن لانشون ومتوسط 3 بيضات، مشيرًا إلى أن الزيت والسمن والتونة من المنتجات التي قلَّ الطلب عليها، بينما زاد الطلب على الجبن الأبيض وسط تراجع شراء الجبن الشيدر والفلامنك والزبادي.
ويوضح أن حركة الإقبال على شراء اللبن متوسطة، قائلًا: “ثلاجات البيوت مش زي الأول”.
وعن إمكانية شراء الأفراد منه بالأجل، يقول: “عندي صنايعي وعمال بيشتروا مني ويدفعوا آخر الشهر من 1000 إلى 2000 جنيه، وده علشان أعرفهم”. ولم يختلف حديث البائع “محمد. م” عن البقالين السابقين، حيث يؤكد أن السيولة لم تعد تكفي الطلبات، وكروت الشحن والسجائر والمياه أكثر المنتجات المباعة.
وحول القدرة الشرائية للمواطن، يضيف: “ست البيت لو هتشتري كمية كبيرة مش بتدفع أكثر من 300 جنيه، والمحل بيستهلك من 20 إلى 30 كرتونة بيض في الشهر.”
عدم حرمان الأطفال ضاغط
وفي السياق نفسه، تقول وفاء، ربة منزل ولديها طفلان، إنها خفضت من شراء السكر والزيت لأنها تحصل عليهما من بطاقة التموين وتشتري السمن مرة كل شهر.
وتضيف: “طلبات العيال في حاجات مينفعش نحرمها منهم، وبشتري لبن وجبنة وبيض، لكن شراء الملابس والخروجات بقت مش زي الأول”.
وفي منطقة باب الشعرية، يقول صلاح، مالك محل بقالة، إن حركة البيع والشراء انخفضت بنسبة 50%. الفرد المقدر الآن بيشتري منتجات بحوالي 70 جنيهًا فقط، لكن ربة المنزل لم تعد تشتري بالكيلو بل بالباكو على قدر الطبخة.
ويتابع: “ثلاجة الجبن في المحل مش بحط فيها جبنة لأن كيلو البراميلي وصل 180 جنيهًا، وعلى الرغم من تراجع سعر كرتونة البيض، لكن الزبون بيشتري بيضة أو اثنين. ورأس مالي على القد، مش ببقى فلوس الزبون اللي بتبقي له بتخسره”.
التموين يساعد على الستر
“بفكر إزاي هشتري الفرخة وبعدت عن منتجات المقاطعة والماركات”؛ بتلك الكلمات وصفت هويدا من عزبة النخل، موظفة بالمعاش ولديها بنتان وولد، حيث تضيف: “الحمد لله عندنا تموين بيساعد على المعيشة”.
وتواصل حديثها: “ممكن أنزل السوق بـ 600 جنيه، أرجع من غيرهم ومجبتش حتة لحمة. بلغوا المسؤولين، حرام. روحت اشتري بطة في رمضان بـ 600 جنيه. إحنا عندنا معاش، غيرنا يعيش إزاي؟ بقيت بشتري كيلو اللبن كل 3 أيام”.
الأحياء الراقية تضررت كذلك
لم تسلم الأحياء الراقية، وفق توصيفات في الشارع، أيضًا من توابع غلاء الأسعار.
يقول أحمد، صاحب محل بقالة في منطقة مصر الجديدة، إن الجبن والمجمدات والمعلبات ومشروبات الطاقة لم يعد هناك إقبال عليها، وكذلك منتجات ذات الأحجام الكبيرة.
واشتكى من حال تردي الأوضاع، حيث يتابع حديثه قائلًا: “كل يومين تلاتة كنت بطلب فاتورة للمحل، حاليًا بطلب كل شهر أو ما بطلبش. الفرد بيشتري منتجات لا تتجاوز 200 جنيه، الأول كان بيدفع 600 و700، وعلب اللبن أكتر حاجة بتتباع”.
ويختتم حديثه: “جبت كرسي أقعد عليه بعد ما حركة الشراء قلت، وبقيت أضيع الوقت في النت وأنا في المحل. بقى خراب بيوت، حتى برطمان النسكافيه حاله وقف”.
ويرى الدكتور مجدي نزيه، استشاري التثقيف والإعلام الغذائي، أنه يوجد وعي خاطئ في عملية الشراء لدى المواطنين، خاصة مع الاتجاه إلى الوجبات السريعة والأطعمة الدسمة، مشيرًا إلى أن حسن الغذاء ليس في غلاء ثمنه، وإنما في توفير احتياجات الجسم.
تكيف الأسر على الأوضاع الاقتصادية
الحل عند الدكتورة هدى شعبان، مدير الوحدة الإنتاجية للملابس بكلية الاقتصاد المنزلي – جامعة حلوان، في تكيف الأسرة على الأوضاع الاقتصادية الحالية في ظل زيادة الأسعار بالتزامن مع ارتفاع أسعار المحروقات.
وتضيف لـ فكر تاني، أنه بدلًا من الشراء بشكل أكثر من احتياجات الأسرة، يجب تنظيم الأمور على قدر الاستهلاك، مؤكدةً أهمية وجود ميزانية للمنزل وفقًا لمصادر الدخل، وعدم تجاوزها، ووضع قائمة بالاحتياجات الثابتة لظروف المعيشة، مضيفةً أن احتياجات كل شهر تختلف، فإذا كانت هناك مناسبة، فالتركيز سيكون على الملابس وفقًا للقدرة الشرائية، وفي حال عدم وجود إمكانية لشراء جديد، فمن الممكن عمل إعادة تدوير لتلك القطع وإضافة بعض التغييرات عليها.
وتابعت: “بدلًا من شراء اللحم ووضع قطع كبيرة على الطاولة، يمكن تقسيمه إلى أجزاء، وعمل أكثر من صنف من خلال إضافة بعض الخضار وغيرها من الإضافات، وعمل كفتة أرز على سبيل المثال.. كذلك الحال بالنسبة للفراخ، يمكن استخدام الصدور في وجبة، والأوراك في وجبة أخرى”.
وأشارت إلى أن احتياجات الفرد من البروتين محدودة، وفي الواقع نحن نتناول أكثر من احتياجنا، وهذا أسلوب تربية وتفكير، لافتة إلى أهمية تناول وجبة غذائية متكاملة وصحية، وأن السيدة المصرية قادرة على التكيف مع هذا الغلاء.
وبالنسبة للفطار والعشاء وسندويتشات الطلاب، أوضحت أنه يجب عمل كل الأشياء في المنزل، والابتعاد عن المصنّعات، فيمكن تدميس الفول، وعمل الطعمية والحلاوة والجبن، وغيرها داخل مطبخ المنزل. “كيس الفول بـ10 جنيه ومش هيكفي حد”.
“ومع الغلاء بيزيد الغش، ولا بد من تشديد الرقابة”.. هكذا نصحت ربات البيوت بالابتعاد عن اللانشون واللحوم المصنعة، لافتة إلى أنه في ظل تلك الظروف يجب تحجيم المصروفات في النزهات العائلية ضمن حدود الإمكانيات المتاحة.
واختتمت حديثها بالقول: “يجب استغلال رخص بعض السلع التخزينية في بعض الأوقات، مثل الطماطم وغيرها؛ حيث يرتفع سعرها في مواسم معينة، فلا نضطر لشرائها بالغالي”.
وضع حزمة اقتصادية اجتماعية
بدوره، قال محمود العسقلاني، رئيس جمعية “مواطنون ضد الغلاء”، لـ فكر تاني، إن زيادة أسعار الطاقة في الوقت الحالي جاءت في فترة ركود غير طبيعية، ولولا حالة الكساد الموجودة في عملية البيع والشراء مع قرار زيادة أسعار المواد البترولية، لكان هناك تضخم كبير، حيث إن كثيرًا من المنتجات حافظت على ثبات أسعارها، مثل اللحمة، “لأنه في حال زيادة سعرها التاجر هيخسر أكتر ومش هيبيع”.

وأكد أن زيادة سعر الفائدة في البنوك تتسبب في سحب السيولة من الأسواق، ومن ثم الدخول في حالة ركود، لافتًا إلى أن تراجع سعر الفائدة، وفقًا لقرار لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي المصري، صائب، لكنه يحتاج إلى وقت لرؤية أثره، خاصة أن السوق لدينا يتأثر ببطء.
وشدد على ضرورة وضع حزمة اقتصادية اجتماعية للنهوض بمعيشة المواطن، على رأسها زيادة الرواتب بما يتوافق مع ارتفاع الأسعار، وإتاحة الفرصة للمجتمع المدني، وتوحيد جميع منافذ الدولة من خلال عملية شراء موحدة لخفض الأسعار وزيادة المنافسة، مؤكدًا ضرورة وقف روشتة صندوق النقد الدولي بشكل نسبي في الوقت الحالي.