“أما قالوا دي بنية.. الحيطة مالت عليا”..
الأمثال الشعبية ليست مجرد عبارات نتداولها في جلساتنا اليومية، بل مرايا ثقافية نكررها دون وعي وتعكس نظرة المجتمع إلى ذاته، فحين يقول أحدهم: “وأما قالوا دي بنية حيطه مالت عليا”، فإنه يرسّخ قناعة جمعية تُقلل من قيمة المرأة، وتضعها منذ ولادتها في مرتبة أدنى.
تُعد الأمثال الشعبية في المجتمعات العربية، والمصرية بشكل خاص، خزانًا للثقافة الشفاهية ووعاءً لحكمة الأجداد المتوارثة. لكنها في كثير من الأحيان تحمل بين طيّاتها رسائل تمييزية تكرس للعنف ضد المرأة بأشكاله المختلفة: الرمزي، والجسدي، والنفسي. ورغم محاولات نقد الصور النمطية القديمة، ما تزال هذه الأمثال حاضرة بقوة في الذاكرة الجمعية، تتسلل إلى وعينا اليومي كأقوال مأثورة، يتم ترديدها بحسن نية، لكنها تمارس قمعًا خفيًا وتُعيد إنتاج السلطة الأبوية.

“اللي يقول لمراته يا عورة.. يلعبوا بيها الكورة”..
مثل آخر يكشف كيف يُستساغ القبح حين يُصاغ بأسلوب شعبي. في كتابه “فلسفة المثل الشعبي“، يشير الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة إلى أن نصيب المرأة في الأمثال الشعبية ضخم، يدور في معظمه حول جسدها، وأدوارها الإنجابية، وسلوكها الأخلاقي، ما يجعلها -بحسب وصف الشاعر- موضوعًا مستباحًا للتصنيف والوصم والرقابة.
ومن جهة أخرى، يرى عالم الاجتماع بيير بورديو في كتابه “العنف الرمزي” أن هذا النوع من العنف هو الأخطر، لأنه لا يُدرك كعنف، بل يُمارَس بشكل اعتيادي، ويتم تمريره اجتماعيًا دون مقاومة أو رفض، حيث يندمج الأفراد داخل منظومة جبرية تُطبع سلوكهم وتوجّه اختياراتهم دون وعي منهم.
وفي هذا السياق، أظهرت دراسة أكاديمية ميدانية أُجريت على عينة من طلاب وطالبات جامعة عين شمس بعنوان “التنمر ضد الأنثى في الأمثال الشعبية” أن أغلب الأمثال تُقدّم المرأة بوصفها كائنًا غير متّزن عاطفيًا، ومحدودة الذكاء، واجباتها فقط هي خدمة المنزل وتربية الأطفال. وتساهم هذه الصور في تعزيز الهيمنة الذكورية، وتغذّي العنف الرمزي، بما يؤثر على بنية المجتمع ثقافيًا ونفسيًا.
وإذا تحدثنا بالأرقام، فهي أصدق شاهد. فقد بيّنت دراسة إحصائية أن نسبة الأمثال التي تناولت المرأة بالذم بلغت 82.5% من مجموع الأمثال محل التحليل، في حين لم تتجاوز نسبة المدح 16.5%، وبلغت الأمثال المحايدة 1% فقط.

وفي دراسة أخرى، تبيّن أن نحو 33.2% من الأمثال الشعبية المصرية تتناول المرأة بشكل مباشر، وغالبها يحمل نظرة دونية، ويتضمن إساءة صريحة أو ضمنية، تُكرّس التنمر والاحتقار والتمييز العلني.
هي أمثال تبدو بسيطة، لكنها تحمل من الخطورة ما يكفي لتشكيل وجدان أجيال كاملة، لذلك، لا بد من إعادة النظر فيها، لا بوصفها تراثًا بل خطابًا اجتماعيًا يحتاج إلى تفكيك ونقد جذري، كي لا يستمر الترسيخ المجتمعي الذي يرى النساء “حيطة مايلة”.
تلك الأمثال الشعبية لا تكتفي فقط بترسيخ هذا النوع من التنازلات، بل تُساهم أيضًا في إعادة إنتاج التمييز الجندري، فتحصر المرأة في أدوار محددة لا يُسمح لها بالخروج عنها. مطالبة وحدها بالالتزام بمجموعة من الأخلاقيات والمسؤوليات المضاعفة، مما يُثقل كاهلها ويؤثر على صحتها النفسية والوجدانية.
أما إذا نظرنا إلى الأمثال المرتبطة بالرجل، فنجد أنها تمنحه سلطة أبدية وتكرس لهيمنته بشكل واضح، بل تعفيه من أي عيوب عدا الفقر. فمثلًا: “الراجل ما يعيبوش إلا جيبه” يُختصر الرجل في ماله، ويُغفر له ما دون ذلك من صفات أو سلوكيات، بينما تبقى المرأة عُرضة للمساءلة والتقييم المستمر على كل تفصيلة في سلوكها ومظهرها وحياتها.
اقرأ أيضًا:التهابات شهر العسل.. حين يبدأ الطلاق في الفراش
“ضل راجل.. ولا ضل حيطة”..
ترى الكاتبة والباحثة النسوية رانيا نبيل أن الأمثال الشعبية تُعد واحدة من أخطر وسائل الهيمنة الذكورية داخل المجتمع، وأن تداولها منذ الصغر بين أفراد الأسرة والمجتمع يساهم في غرسها في اللاوعي الجمعي. وبمرور الوقت، تصبح تلك الأمثال مرجعًا رمزيًا يُبرر الإهانة والسخرية والعنف الرمزي والجسدي ضد النساء، بل يجعلها مقبولة ومبررة اجتماعيًا.
“(يا مخلفة البنات، يا شايلة الهم للممات) و(خلف البنت يجيب العار) هي أمثال لا تكتفي بالسخرية، بل تزرع مشاعر النقص والدونية في المرأة منذ طفولتها، فقد نالت النساء مساحة واسعة من الحكم والأمثال الشعبية والفلكلور المصري، لكن ليس لتكريمهن بل للسخرية منهن، وتجريدهنّ من العقل والفكر والروح، ما يترك أثرًا بالغًا في سلوك الأفراد، ويرسخ فكرة القدوة المتمثلة في هذه الأمثال، التي تنتقل بسرعة عبر الأجيال”.. تقول رانيا نبيل لـ فكّر تاني.
وترى الباحثة أن هذا الامتداد الشعبي يؤدي إلى المزيد من الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة. فهي مهما حققت من نجاحات أو نالت مكانة اجتماعية مرموقة، تبقى أسيرة لهدف واحد لا يُفارق تفكيرها “الزواج” بوصفه الغاية القصوى، والمقياس الحقيقي لإنجازها في الحياة. هذا التفكير -بحسب رانيا- يخلق فجوة داخلية تؤدي إلى شعور دائم بالتمييز والاضطهاد، وتُضعف العلاقات الأسرية، وتُورث الأزمات النفسية والعنف والرهاب الاجتماعي إلى الأجيال القادمة.
اقرأ أيضًا:اسم الأم.. “خانة” غائبة عن البطاقة حاضرة في معاناة النساء
“اكسر للبنت ضلع.. يطلع لها أربع وعشرين”..
مثل شعبي يُقال بنية التربية لكنه في حقيقته يُشرعن العنف ضد النساء. وفي هذا السياق، تشير الكاتبة والباحثة إلى دور الدراما المصرية في ترسيخ هذا النمط من التفكير، في المسلسلات التي تُقدّم البلطجي أو تاجر المخدرات أو السلاح، التي لا تحترم المرأة ولا تُظهرها إلا بوصفها هامشية أو تابعة.
تقول رانيا نبيل: “تُنتَج هذه الأعمال من منطلق ربحي، وتُسهم بوضوح في تكوين صورة ذهنية عنيفة ومشوهة للمرأة في وجدان الجمهور، ما يجعل العنف وسيلة مقبولة للشعور بالاستحقاق الذكوري”.

كما تؤكد رانيا على أهمية تقديم صورة إيجابية للمرأة في الدراما، تُحاكي تجارب المسلسلات القديمة التي كانت هادفة وتحمل مضمونًا إنسانيًا ومجتمعيًا، فالمرأة ليست مجرد ضلع قاصر أو ظل لرجل، بل هي أساس الأسرة، وركيزة المجتمع، وقلبه النابض بالحياة.
“لابد أن تُسلط الجمعيات والمؤسسات النسوية، الضوء على مثل هذه الأمثال الشعبية وتتبع مسارها بطرق مختلفة؛ للتركيز عليها و إبراز أضرارها المجتمعية ووضع قواعد صارمة للحد منها وعدم التفوه بها في أي مكان سواء في المنزل والمدرسة وأماكن العمل”.
اقرأ أيضًا:تشويه الأعضاء التناسلية.. طفولة مُختطفة باسم العفة
“الراجل ما يعيبوش إلا جيبه”..
عبّرت الأمثال الشعبية المتداولة في المجتمع المصري عن واقع جندري غير عادل، تُمنح فيه السلطة للرجل باعتباره “السيد” وتُنتقص فيه قيمة المرأة كفاعل مستقل، وفقًا لما توصلت إليه باحثات وخبراء في علم النفس والاجتماع.
ففي مثل “يا واخد القرد على ماله، يروح المال ويفضل القرد على حاله”، فالأولوية للزواج كهدف للمرأة، حتى وإن كان الشريك غير مناسب اجتماعيًا أو فكريًا. ويُشجع هذا المثل المرأة على التنازل عن راحتها وكرامتها مقابل وهم “السترة”، ما يؤدي إلى تهميشها وحصرها في أدوار تقليدية تُثقل كاهلها بمسؤوليات مضاعفة، تؤثر لاحقًا على صحتها النفسية.
وفي المقابل، تمنح الأمثال الشعبية الرجل شرعية التفوق، كما يظهر في مثل “الراجل ما يعيبوش إلا جيبه”، الذي يعفيه من المحاسبة على العيوب الشخصية، ويجعل المال مقياسًا وحيدًا لقيمته، بينما يُعطيه مثل “ضل راجل ولا ضل حيطة” مكانة رمزية لمجرد كونه ذكرًا.
من جانبها، قدّمت الدكتورة جيهان النمرسي أستاذة علم النفس والاجتماع بجامعة الأزهر، لـ فكّر تاني، وجهة نظر مغايرة، إذ رأت أن الأمثال الشعبية لم تُهن المرأة عمومًا، بل سلطت الضوء على مكانتها المحورية، كما في المثل: “البيت بدون أم، حاله يغُم”، الذي يُبرز أهمية وجود المرأة داخل الأسرة.
بينما يرى الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة القاهرة، أن الغالبية العظمى من الأمثال تُعزّز الأعراف التقليدية التي تُكرس تفوق الذكور وتُقيد حرية المرأة. مشيرًا إلى”الراجل سيد البيت” كمثال صريح على تصوير سلطة الرجل كأمر طبيعي لا يستدعي النقاش، وأيضًا “المرأة كالإبريق، إن أمسكتها بقيت أسيرة” الذي يشير إلى أن المرأة فاقدة للفاعلية والمشاركة المجتمعية، وأنها حبيسة أدوار نمطية تخدم الرجل ومصلحته فقط.
ويوضح صادق لـ فكّر تاني، أن الأمثال تؤثر على تشكيل الوعي المجتمعي والسياسات، مثل رفض قوانين حماية المرأة بحجة أنها تُعارض الموروث الشعبي. كما أن هذه الأمثال يمكن استخدامها لتبرير أوضاع غير متكافئة، كالإجبار على استمرار الزواج رغم العنف، تحت غطاء مثل “متجوزة وبتضرب أحسن من مطلقة وما حدش عايزها”.
ويؤكد صادق: “الأمثال وحدها لا تنشئ النظام الأبوي. بل أدوات ثقافية تُعززه من خلال تصوير هيمنة الرجل مثل الحكمة الخالدة، يختلف تأثيرها حسب البيئة، حيث تتمسك بها -حتى الآن- المناطق الريفية أكثر من الحضرية”.
تعكس الأمثال الشعبية ملامح الثقافة السائدة، لكنها في كثير من الأحيان تعيد إنتاج الصور النمطية الجندرية، وتُكرس تفوق الرجل وتقلص من أدوار المرأة.
ورغم وجود أمثال تبرز مكانة الأم ودورها، إلا أن السياق العام يغلب عليه الطابع الذكوري، بما يرسخ التمييز ويعيق تحقيق المساواة. ولذا، فإن إعادة النظر في هذا الموروث الشعبي ضرورة ملحة، خاصة في ظل تغير الأدوار الاجتماعية وتنامي الوعي بقضايا النوع. فالنقد الواعي للأمثال، وتفكيك خطابها الرمزي، يعد خطوة مهمة نحو بناء ثقافة أكثر عدالة وشمولًا تُنصف النساء وتُرسخ قيم التقدير المتبادل.